حان آوان المصالحة بين فتح وحماس

مهم أن يتحرك قطار المصالحة، قبل أن تتزايد تحركات قطار صفقة القرن الذي يجرف أمامه الجميع.

الرسائل المتبادلة بين قيادات فلسطينية مختلفة والإشارات الإيجابية التي تحملها، أحسنت الصنع في هذا التوقيت، الذي تواجه فيه السلطة الوطنية تدميرا منظما من قبل قوات الإحتلال، وتتلقى فيه حركة حماس وعودا زائفة بأنها سوف تصبح قوة مهيمنة على قطاع غزة لفترة طويلة.

سياسة الفصل الممنهج بين الضفة الغربية وغزة، لم تعد خافية على كثيرين، ووراؤها أهداف كبيرة، تصل إلى حد السعي لتقويض السلطة الشرعية، وإعادة تركيب القضايا المتشعبة بما يقضي على العديد من الثوابت الاستراتيجية، وينهي ما تبقى من أفكار حيال تأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة وفقا للأدبيات الدولية والعربية المعروفة.

الواضح أن مقاطع كثيرة من الخطوات تقول أنه جرى التخلي عن فكرة تثبيت أركان السلطة الفلسطينية كضمانة إسرائيلية، وتحاول التصرفات الأخيرة نزع الشرعية عن الرئيس محمود عباس (أبومازن) بالتعسف في التعامل معه، وزيادة حدة الانتهاكات في الأراضي المحتلة، والتساهل مع تجاوزات المستوطنين.

اشتعال الموقف في الضفة الغربية، تستغله قوات الإحتلال في ما هو أبعد من تأكيد قبضتها الحديدية، فهناك ما يكفي للتدليل على هذه الصفة. وتريد الحكومة الإسرائيلية أن تلغي أي دور للسلطة الوطنية، كرمز يتم الالتفاف حولها، لصالح سيناريوهات أخرى مجهولة.

الإجراءات التي اتخذت ترمي إلى إدخال السلطة في مرحلة إنهيار تدريجي، مستفيدة من بعض الأخطاء السياسية التي أرتكبت وأدت إلى التشرذم الحالي بين القوى الفلسطينية، ومكنت إسرائيل من التمادي في تكريس أمر واقع مرير، وغلق الأبواب والنوافذ على القضايا الحيوية التي تمثل جوهر القضية من دون اصدار قرار رسمي ذلك.

إعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل، لم يكن كافيا لتسجيل اعتراف دولي واسع. نعم الولايات المتحدة أيدت الخطوة ونقلت سفارتها إلى هناك، لكنها لم تستطع إقناع غالبية دول العالم بهذا التصرف، الذي أثار عاصفة من الامتعاض ضد أميركا وإسرائيل، وهو ما يتأكد من عدد الدول المحدودة التي قررت نقل سفاراتها إلى القدس، وحجم التنديد الذي يصاحب مواقف واشنطن في اجتماعات الأمم المتحدة ذات الصلة بفلسطين.

الدروس الكبيرة التي كشفها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده للقدس، جعلته يضرب مواعيد للإعلان عن صفقة القرن ثم يحجم عنها، بعد أن بشر بها ومهد لها عبر تلميحاته وتصريحات مبعوثيه للمنطقة، فقد وجد كوابح عظيمة، والدول العربية التي اعتقد أنها داعمة لتوجهاته لم يجرؤ أي منها الإعلان صراحة دعم خطته.

كما أن انسحاب واشنطن من تمويل (أونروا) لقبر الحديث عن مشكلة اللاجئين، زاد بعض الدول إصرارا على دعم المنظمة الأممية، ولم تفض محاولات تسويق إسرائيل عربيا والإيحاء بوجود مساحات مشتركة، في التخلي عن التعامل معها كقوة إحتلال.

في جميع المحكات التي تواجه القضية الفلسطينية، يظهر التعاطف معها بصورة كبيرة، وعلى عكس كل التوقعات التي ذهبت إلى أنها سقطت من أجندة العالم، نجدها تطل برأسها، بما يشي أنها لا تزال على قمة أولويات القضايا الإقليمية.

لم يعد اليقين الذي ساد لدى واشنطن بشأن قدرتها على حل الأزمة المستعصية حقيقيا، ولم تؤد الخلافات التي تنخر في الجسد الفلسطيني إلى نسيان القضية الأم، وفشلت عمليات التهويد في تكريس هيمنة إسرائيل على الأراضي المحتلة أو نسيان أنها مغتصبة ودولة إحتلال، وأخفق انخراط قوى كثيرة في نزاعات وصراعات إقليمية حيوية في إخفاء المعالم الرئيسية للقضية الفلسطينية.

النتائج التي أسفرت عنها التحركات الأميركية جاءت مخيبة للآمال، ولم تجد بارقة أمل في الحصول على تأييد عربي ودولي كبير، ويبدو أنها لجأت، بالتنسيق مع إسرائيل وقوى إقليمية، إلى تهيئة الأجواء لتنفيذ البنود الرئيسية لصفقة القرن أولا، ثم الإعلان عنها ثانيا.

الخطوات التي تجري في غزة والضفة الغربية، أوحت لكثيرين أنها تصب في خانة صفقة القرن، ولم تعد بحاجة إلى إعلان رسمي لتدشينها، فما يجري من إجراءات سياسية واقتصادية وأمنية في المنطقتين يضاعف من ملامح الفصل، ويدعم التصورات الإسرائيلية الرامية إلى ترسيخ مقومات العزل، وقطع الطريق على أي فرصة يمكن أن تفضي إلى تماسك وطني بين الأراضي والأشخاص مستقبلا.

إذا كانت لُحمة الأراضي عملية صعبة، وتتحكم فيها إسرائيل، وجهات توفر لها التأييد اللازم لممارساتها، فلا توجد أعذار أو ممانعات تحول دون تقارب وتفاهم القيادات الفلسطينية، وكل ما يجري من خلاف وانقسام وتباعد يتعلق بقناعات أيديولوجية وشخصية، قادت إلى النتيجة السلبية التي نراها الآن، وجعلت من فكرة التلاحم عملية شبه مستحيلة.

الأجراس التي دقتها التحركات الإسرائيلية الأخيرة، كفيلة أن توقظ من أرادوا الاستسلام لحالة الغرور والصلف التي انتابتهم، ويتغافلون عن الكثير من الخسائر التي ألحقت ضررا بالغا بالقضية الفلسطينية، ويحصرونها في إطار عقوبات ومقاعد وزارية ومرتبات موظفين وملفات إنسانية ومساعدات حقوقية، ويتجاهلون الأخطار المحدقة بالقضية، ويأتي بعضها ممن يعتقد فلسطينيون أنهم جاءوا لإنقاذهم.

الأوضاع الراهنة تفرض على الجميع قدرا كبيرا من المكاشفة السياسية، وفرز الطيب والخبيث من الدول التي تتشدق بدعم القضية الفلسطينية، فلن تكفي حفنة أموال من قطر أو بضعة آلاف الأطنان من الوقود في إنقاذ فلسطين.

نعم قد تساعد على تخفيف المعاناة مؤقتا، لكنها تخفي وراءها نوايا خبيثة، أبرزها عزل القطاع عن الضفة، ومنح إسرائيل ذرائع لما تقوم به من عمليات تجفيف منابع سياسية وأمنية للسلطة الفلسطينية، وتمهد البيئة لانفراد حماس بغزة.

التعاطف الذي أظهرته قيادات حماس مع ما يجري في الضفة، والاستعداد لحل الخلافات مع فتح، تنقصه خطوات ترفع بها الحركة الهواجس التي راودت البعض حول ما يتردد عن تواطؤها، ولو بالصمت، مع التنفيذ التدريجي لصفقة القرن، التي تمنحها نفوذا مضاعفا في القطاع، بموافقة إسرائيلية ومباركة دولية.

آن الأوان للصفح والتوافق والمصالحة والبناء على الجهود التي بذلتها مصر طوال السنوات الماضية، وغلق الصفحات القاتمة التي أعاقت الحل بين الفصائل الفلسطينية. ليس مهما من يتخذ الخطوة الأولى، المهم أن يتحرك القطار نحو المصالحة، قبل أن تتزايد تحركات قطار آخر يجرف أمامه الجميع، بمن فيهم من تصوروا أنهم سوف يحصلون على مكاسب كبيرة من وراء صفقة القرن.