حرب باردة بين قم والنجف.. صراع 'الحشدين' يخرج للعلن

صدى الانقسام الحاصل بين الحشدين المرجعي (نسبة للمرجع الأعلى في العراق) والولائي (نسبة لولاية الفقيه) يبدو أعمق من مجرد خلاف عابر.
إيران تسعى للهيمنة على قرار المرجعية في النجف بعد هيمنتها على القرار السياسي
دور الحشد الولائي تخطى توسيع النفوذ إلى قوة ضاغطة على سلطة القرار في العراق
أربع ميليشيات تؤكد على عراقيتها وتدعو لتحصين المرجعية المحلية في النجف
الحشد الولائي انتهى به المطاف حشدا إيرانيا خالصا
إيران نفذت انقلابا ناعما على براءة اختراع السيستاني للحشد الشعبي
السيستاني خدم إيران من حيث لا يعلم بفتوى جمعت شتات الميليشيات الشيعية

النجف (العراق) - سلط المؤتمر الذي انعقد مؤخّرا في مدينتي كربلاء والنجف تحت عنوان "حشد العتبات حاضنة الفتوى وبناة الدولة"، الضوء على انقسام الحشد الشعبي الذي تشكل بداية بفتوى "الجهاد الكفائي" التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني ومنها استمد 'الحشد' مشروعيته لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية الذي احتل في 2014 أجزاء واسعة من العراق.

ويأتي هذا الانقسام على وقع قضية قديمة متجددة أساسها الخلاف المكتوم بين مرجعية النجف المحلية ممثلة في شخص السيستاني وكبار المراجع الشيعية العراقية من جيله أو أتباعه وإيران ممثلة في مرجعية قم والتي تضم الحوزات العلمية ودرس فيها وتخرج منها كثير من مراجع الشيعة لدى العراق.

لكن صدى الانقسام الحاصل بين الحشدين المرجعي (نسبة للمرجع الأعلى في العراق) والولائي (نسبة لولاية الفقيه) يبدو أعمق من مجرد خلاف عابر.

ويُسوّق الحشد الشعبي الذي يضم عشرات الفصائل الشيعية المسلحة (معظمها يدين بالولاء لإيران) نفسه ككتلة متماسكة ومتجانسة، لكن بعد إعلان أربع ميليشيات منه، تمايزها عن باقي مكوناته عقيدة وهدفا وولاء ومرجعية، سقطت مقولة التجانس والتناغم.

ويشكل إعلان الميليشيات الأربع منعطفا في تاريخ الحشد الشعبي الائتلاف شبه العسكري الذي لم يمض على تشكيله نحو ست سنوات ولهدف معين هو محاربة تنظيم داعش قبل أن يتمدد تسليحيا وتنظيميا واتسعت طموحات قادته وامتدت إلى عالم السياسة ولم تستثن ميدان الاقتصاد والمال.

كما تُعتبر تلك الخطوة انفصالا معلنا في ذلك الجسم الدخيل على المكون العراقي وعلى القوات العراقية النظامية التي أُدمج داخلها لتعزيز "شرعيته" سياسيا وعسكريا.

إيران استثمرت نجاحات الحشد ضد داعش لاقتحام البرلمان العراقي عبر ميليشيات الحشد الموالية لها
إيران استثمرت نجاحات الحشد ضد داعش لاقتحام البرلمان العراقي عبر ميليشيات الحشد الموالية لها

وبدا التصدع جليا في الفترة الأخيرة حين عقدت التشكيلات التابعة للعتبات المقدسة في العراق في الفترة الماضية، مؤتمرا لها هو الأوّل من نوعه، ممهدا لتشكيل حشد مرجعي بهوية محلية مختلفة عن هوية الحشد الولائي الذي انتهى به المطاف حشدا إيرانيا خالصا في تبعيته لطهران وخدمته لأهدافها وخوضه معارك بالوكالة عنها على قاعدة تبنّي قادته للنظرية المعتمدة كنظام للحكم في إيران.

ويبدو هذا المؤتمر الذي تشارك في عقده لواء جند المرجعية ولواء علي الأكبر وفرقة العباس القتالية وفرقة الإمام علي القتالية، نواة للحشد المرجعي نسبة إلى المرجعية المحلية في النجف.

ويشير اختياره لشعار 'حشد العتبات حاضنة الفتوى وبناة الدولة'، إلى حرص واضح على إعلان التمايز والارتباط بفتوى 'الجهاد الكفائي' التي أطلقها السيستاني في يونيو/حزيران 2014 إضافة إلى الإيحاء بارتباط هذا 'الحشد المصغّر' بالدولة العراقية وأهدافها السياسية والأمنية.

وتأتي هذه التطورات فيما تتردد في العراق أحاديث عن تململ وامتعاض مكتومين لدى مراجع النجف ولدى سياسيين وعسكريين عراقيين باتوا مدركين لخطر الانقلاب الذي نفذته إيران عبر وكلائها من قادة الميليشيات المرتبطة بها واستولت به على الحشد الذي تشكل في الأصل بفتوى من المرجعية المحلية (فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها السيستاني).

وأصل الفتوى ومضمونها الحشد لمواجهة داعش حين كانت القوات العراقية في حالة إرباك وتراجع وانهيار مع زحف مسلحي التنظيم السنّي المتطرف، أي كانت الفتوى لمهمة محددة كان يفترض معها أن يحلّ الحشد الشعبي، لكن النجاحات العسكرية التي حققها أغرت إيران فلم تتوانى لتسخيره لخدمة مصلحتها خاصة وأن معظم قادة الميليشيات المنضوية تحت لوائه ولاؤها لولاية الفقيه أكثر من ولائها للعراق.

وخضع الحشد مباشرة للإشراف الإيراني حيث ألقت طهران بثقلها في توجيهه والتحكم فيه وكان قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني الذي تمت تصفيته في غارة أميركية في مطلع يناير كانون الثاني في بغداد، الحاكم الفعلي ومهندس عمليات الحشد حتى أنه كان يتواجد على جبهات القتال وخاصة منه تلك التي جرت على الحدود العراقية السورية وهي منطقة إستراتيجية وتشكل امتدادا جغرافيا للميليشيات الإيرانية متعدد الجنسيات التي كانت ولاتزال تقاتل في سوريا دعما لنظام الرئيس بشار الأسد.

مرجعية النجف تقاوم محاولات إيرانية لجرها إلى بيت الطاعة في قم
مرجعية النجف تقاوم محاولات إيرانية لجرها إلى بيت الطاعة في قم

وهذا المشهد بتجلياته الراهنة جزء من الصورة وليس الصورة كلها، فالحشد الذي يدين بالولاء لإيران ما هو إلا وسيلة أخرى من وسائل تعزيز طهران لنفوذها في الساحة العراقية أمنيا وسياسيا.

إلا أنه يعكس قضية خلافية أعمق وأبعد من مجرد ذراع عسكرية تضرب بها إيران في الساحة العراقية كلما استدعت الضرورة ذلك، تختزل في جزء منها الصراع المكتوم بين مرجعية النجف ومرجعية قم ممثلتين تحديدا في المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني والمرشد الأعلى في إيران علي خامنئي.

وتعمل إيران على احتواء مرجعية قم وإدخالها بيت الطاعة وتحجيم دورها محليا باعتبارها مجرد فرع تابع يمكن استخدامه لتعزيز نفوذها وتهيئة الأرضية الفقهية والمذهبية لترويض شيعة العراق وتحريكهم في تنفيذ السياسات الإيرانية في المنطقة.

وللسيستاني ثقل ديني وسياسي في العراق يطيع ملايين العراقيين الشيعة كل ما يصدر عنه من أوامره بما في ذلك في الشأن السياسي. وتقف تجربة تشكل الحشد الشعبي بناء على فتواه شاهدة على حجم النفوذ الروحي الذي يتمتع به في الساحة العراقية.

وفي المقابل يحظى علي السيستاني ببعض المقلدين العراقيين وأبرزهم زعماء فصائل مسلحة ترفع شعار 'المقاومة الإسلامية'، وانخرط الجزء الأكبر منها في قوات الحشد الشعبي.

ويرى ساسة عراقيون أن الصراع بين المرجعيتين (العراقية والإيرانية: النجف وقم)، اتخذ خلال السنوات الأخيرة التي ارتفع فيها سقف الطموح الإيراني في التمدّد بالمنطقة طابعا سياسيا بعيدا عن الاختلاف في التعريف الإيراني لمبدأ ولاية الفقيه.

واعتبروا أن القضية تخطّت الخلاف الفقهي حين بدا واضحا أن إيران تسعى إلى الهيمنة على قرار المرجعية الدينية في النجف بعد أن نجحت في الهيمنة على القرار السياسي في العراق.

وخلال سنوات الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، استفادت إيران من حيث ما لم يكن السيستاني يحسب له حسابا، من تشكل الحشد الشعبي بميليشيات أصبحت في تسليحها جيشا رديفا على الأرض العراقية يدين بولائه لولاية الفقيه.

ومكنت فتوى السيستاني من جمع شتات الميليشيات الشيعية المسلحة الموالية لإيران وهو أمر ربما كانت طهران ذاتها عاجزة عن تحقيقه في ظل خلافات المصالح والنفوذ والأهداف بين مكونات الحشد.

مخلب إيراني

وبات لإيران مخلب بحضور أقوى وأوسع لميليشيات الحشد في الساحات العراقية خاصة منها تلك التي انتشر فيها مقاتلوها بعد أن انتزعوها من تنظيم داعش في محافظات بابل وديالى وصلاح الدين والأنبار ونينوى، فضلا عن حضوره داخل أحياء العاصمة بغداد وعدد من مدن جنوب البلاد.

وبات دور المخلب الإيراني أكثر فاعلية ونجاعة ليس لجهة بسط النفوذ وترهيب المناوئين من الوطنيين العراقيين فحسب بل تحول إلى أداة ضغط منذ انتخابات 2018، يمكن استخدامه كقوة ضاغطة على سلطة القرار العراقي وتجييره لخدمة المصالح الإيرانية.

وبالعودة إلى تلك الفترة، كان لافتا ترشح قادة من الحشد الذي أصبح له هيئة داخل القوات المسلحة العراقية لجهة حماية ميليشياته من أي استهداف أجنبي، ضمن التحالف 'الفتح' الذي قاده هادي العامري أحد أكثر الشخصيات المقربة من إيران.

وتمكن هذا التحالف من تشكيل كتلة برلمانية نافذة ووازنة في البرلمان العراقي وكثيرا ما استخدمت لتمرير قوانين تخدم المصالح الإيرانية.

إيران استفادت من فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها السيستاني لتوحيد ميليشياتها في العراق
إيران استفادت من فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها السيستاني لتوحيد ميليشياتها في العراق

وبدا هذا النفوذ جليا من خلال دفع البرلمان العراقي لتبني قانون إخراج القوات الأميركية من العراق وهو الأمر الذي لطالما طالبت بها إيران وحركت ميليشياتها من حزب الله العراقي إلى عصائب أهل الحق وغيرها لشن هجمات صاروخية على المصالح والقوات والقواعد الأميركية والتهديد بتصعيد أكبر في حال لم تنسحب تلك القوات الأجنبية.  

وفي تأكيد على فكرة 'عراقية' الحشد يقول اللواء علي الحمداني قائد لواء علي الأكبر التابع للعتبة الحسينية "نحن الحشد ونحن أبناء الفتوى ونحن أبناء المرجعية وهذه الألوية انبثقت من رحم العتبات المقدسة وعرفت في الساحة بالتزامها وبقتالها وعملها، فالحشد حشد المرجعية ونحن أبناء الحشد وأبناء الفتوى".

ولم تغب فكرة فصل الحشد المرجعي عن الحشد الولائي عن أذهان قادة الميليشيات الأربع (لواء جند المرجعية ولواء علي الأكبر وفرقة العباس القتالية وفرقة الإمام علي القتالية)، والداعمين لهم من السياسيين، فقد سبق للفكرة أن حققت قفزة هائلة حين أُعلن عن انفصال لوائي وفرقتي العتبات عن هيئة الحشد الشعبي المعلنة بشكل صوري، مؤسسة أمنية تابعة للدولة العراقية وارتباطها بشكل مباشر برئاسة الوزراء.

وتدرك المرجعية المحلية ومن ورائها أيضا السلطة السياسية حجم الخطر الذي بات يمثله المخلب الإيراني على الجسد السياسي والأمني وعلى النسيج المجتمعي العراقي، فيما عكست معركة لي الأذرع بين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وميليشيات إيران ذلك الخطر الماثل والمتربص بسيادة العراق وسلطة قراره، فتغول تلك الميليشيات وتحديها للسلطة التنفيذية، شكل في جانب كبير منه إطاحة بهيبة الدول وأسس لنفوذ الميليشيات التي تجرأت على رفع السلاح والتهديد به أمام مقر الحكومة في المنطقة الخضراء وأجبرت السلطة على إطلاق سراح 18 من ميليشيا حزب الله متورطون في هجمات مسلحة على مصالح أجنبية.

وترى المصادر العراقية أن تسريع خطوات فصل الحشد المرجعي عن الحشد الولائي، تتصل مباشرة باختيار عبدالعزيز المحمّداوي المعروف بـ"أبو فدك" ليخلف أبومهدي المهندس الذي قتل مع قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في الضربة الجوية الأميركية، في منصب المشرف على العمليات الميدانية للحشد.

والمعروف عن "ابوفدك" أنه شديد الولاء لعلي خامنئي ومن المشككين في مرجعية السيستاني ولم يتوان في المجالس الخاصة إلى سحب الولاء منه.

وأكدت الألوية الأربعة المنفصلة عن هيئة الحشد الشعبي خلال مؤتمرها على عراقيتها والتزامها الكامل بالقانون والدستور ومنع مقاتليها من القيام بأي إجراء يخالفهما ومن ذلك الدخول في النشاط السياسي أو الارتباط الحزبي أو الاستغلال الوظيفي.