حسابات الانسحاب الأميركي من سوريا

تبدي تركيا وإيران وإسرائيل وروسيا ذروة الاهتمام بالانسحاب الأميركي من سوريا. لم نسمع شيئا من العرب.

بصرف النظر عن حجم ونوعية الانسحاب الأميركي من الساحة السورية، ثمة تداعيات وظروف ناظمة للعملية المفترضة، لاسيما وإنها تأتي في ظل متغيرات شرق أوسطية فرضتها الأزمة السورية والقضايا ذات الصلة بها. وفي الواقع لطالما شكلت سوريا حلقة شد وجذب إقليمية ودولية بفعل وضعها وموقعها الجيو سياسي في منطقة تعتبر الأشد التهابا في العالم، وغالبا ما كانت إعادة ترتيب النظام الإقليمي العربي تمر فصوله وقواعده عبر سوريا، وهذه المرة كانت عبر البوابة الإماراتية التي أعادت فتح سفارتها في دمشق مؤخرا.

وبفعل الإعلان الأميركي عن الانسحاب، ظهرت وقائع ومواقف متعددة الاتجاهات رسائل وإشارات، كان أولها الدفع الأميركي باتجاه تسليم الواقع السوري الشمالي إلى تركيا، ما يعني أن ثمة خلط أوراق جديدة تتعلق بالعامل التركي وإعادة تموضعه في الأزمة السورية، وهذه المرة تحديدا في الورقة الكردية. وسبق أن أعلنت تركيا التحضير لعمليات عسكرية وازنة ستكون تداعياتها المباشرة على الوضع الكردي تحديدا، وحيازة أوراق جديدة ضاغطة في أي مقترحات حلول مستقبلية.

في الجانب الإسرائيلي الآخر، ثمة تخوّف وتوجّس ظاهرين لدى القيادات السياسية والعسكرية، إذا تعتبر إسرائيل الانسحاب خسارة مدوية، وذات صلة بقضايا إستراتيجية متعلقة بأمنها القومي، وهذا ما أوحى به رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بُعيد لقائه بوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في البرازيل، حيث خفّف هذا الأخير من التداعيات المحتملة للانسحاب الأميركي، مجددا دعم العلاقات الإستراتيجية مع إسرائيل، ومحاولا تفهم الهواجس الإسرائيلية لجهة الوجود الإيراني في سوريا، ذلك في ظل سعي إسرائيل الحثيث لإعادة رسم قواعد اشتباك جديدة في سوريا، بعد إسقاط الطائرة الروسية وإعادة موسكو آنذاك لخلق قواعد اشتباك كانت إسرائيل مرتاحة لها قبلا. وفي أي حال من الأحوال لن تترك واشنطن تل أبيب بالنظر لعضوية واستراتيجية العلاقات البينية، وبالتالي ان الانسحاب لن يغير بطبيعة الالتزام الأميركي تجاه إسرائيل.

أما بخصوص الطرف الإيراني، وان تعتبر طهران الانسحاب نوعا من أوراق سياسية وأمنية رابحة بالنسبة إليها، إلا أن الانسحاب لا يعتبر مؤثرا واضحا وحاسما لجهة العمليات العسكرية والأمنية. فالقوات الأميركية لا زالت متواجدة عمليا في العراق وتركيا علاوة إلى قواعدها وأساطيلها المنتشرة في غير مكان من العالم. وهي قادرة عمليا وفعليا على تنفيذ عملياتها من خارج الأراضي السورية، وهي بطبيعة الأمر اقل كلفة معنويا من التواجد المباشر واحتمال تحملها خسائر بشرية في حال الاصطدام المباشر.

وتبقى الجهة الرئيسة المعنية بالموضوع وهي سوريا، الأكثر استفادة وان كانت معنوية بالدرجة الأولى، فهي تعتبر الخطوة ورقة رابحة في ظل التنافس الأميركي الروسي الساخن في الساحة السورية، وأمر من شأنه تعزيز فرصها في التسويات المحتملة القادمة للكثير من الملفات الداخلية. كما بدا الأمر مترافقا مع إشارات قوية وذات طابع تنفيذي لعودة سوريا إلى الحضن العربي مجددا عبر العديد من الوقائع الحاصلة سابقا. ما يعزز فرص إعادة ترتيب البيت العربي، ومحاولة إعادة ترميم النظام الإقليمي العربي الذي تأثر بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بفعل الحراك العربي في غير دولة.

وربما تعتبر موسكو من أكثر الدول استفادة من الانسحاب المعلن، بالنظر لظروف التنافس الحاد، الذي وصل أحيانا إلى الاصطدام المباشر في ظل قواعد اشتباك هشة، وهو أمر تعتبره موسكو تحديا انتصرت فيه ولو مؤقتا في الساحة السورية رغم انه ليس حاسما.

إن تداعيات الانسحاب تبدو جلية على فواعل النظام الإقليمي الأساسيين من غير العرب، كإسرائيل وتركيا وإيران، إضافة إلى روسيا، وهو سيعيد خلط أوراق محدَّدة بصرف النظر عن نهاياتها الفعلية والعملية، وهي في مطلق الأحوال ستحرك المياه الراكدة في موازين القوى الإقليمية في المنطقة،لجهة محاولة كل طرف إعادة رسم قواعد اشتباك جديدة لمصلحته، وهو أمر ليس بالضرورة أن يمر بوقائع وظروف هادئة.