حكاية كائن يسكن القوقعة في 'رغبة بيضاء'

الكاتبة وحيدة المي ترمي القارئ من اللحظات الأولى في عتمة الكوابيس ورعبها وأصداء قاع تتحرك فيه الشخصية الرئيسية وهي تواجه أعطاب الجسد وعراء الحقيقة.

الكاتبة وحيدة المي ترمي القارئ من اللحظات الأولى في عتمة الكوابيس ورعبها وأصداء القاع الذي تتحرك فيه الشخصية الرئيسية "نبهان" وهي تواجه أعطاب الجسد وعراء الحقيقة.

يواجه القارئ وهو يباشر رواية وحيدة المي "رغبة بيضاء"(دار الكتاب،تونس 2021) وانطلاقا من صفحاتها الأولى بكثافة الظلمة التي تحيط بالشخصية الرئيسية وتنامي الإحساس بالقبح والعجز والهوان.. ترمي الكاتبة بالقارئ من اللحظات الأولى في عتمة الكوابيس ورعبها وأصداء القاع الذي تتحرك فيه الشخصية الرئيسية "نبهان" وهي تواجه أعطاب الجسد وعراء الحقيقة..فإذا هي ذات تتحرك في الزمان لكنها محاصرة في المكان، تنشد النور وتكبلها العتمة، يستقطبها الماضي وتدفعها الذاكرة إلى إعادة تقليب صفحاته دون قدرة على تصور الآتي ورسم حدوده وآفاقه. تسرد الشخصية الرئيسية في الرواية قصتها  فإذا هي حكاية كائن يحاصره المكان، كائن  يسكن قوقعة، حيث تلتف الحياة حول نفسها عوض الصعود نحو الأعلى، حيث تكبح الإرادة وتتعطل الرغبات فيتعطل معها الفعل.

1- السكنى داخل القوقعة:

لم يعد المكان في الرواية الحديثة مجرد خلفية للأحداث بل أضحى عنصرا جماليا ودلاليا يكتسب قيمته من علاقة الشخصيات به وتفاعلها معه أو من أفعالها فيه.

ويبدو المكان في رواية وحيدة المي "رغبة بيضاء" المفتاح الأساسي لاستنطاق الرواية ولفهم عدد من الأبعاد الرمزية فيها. والمكان الرئيسي في الرواية هو مأوى تديره امرأة غامضة توفر للقاطنين فيه كل حاجياتهم المادية من أكل وشرب وعلاج لكنها تمنع عنهم الخروج وتجاوز جدران المأوى. يكتشف القارئ عبر شخصية نبهان (وهو يسرد الأحداث في جل الفصول) رؤية الشخصية  للمكان وللذات...نبهان هو الشخصية الذكورية الوحيدة في مأوى تديره النساء،  لم يختر هذا المكان للإقامة فيه بل دفع إليه دفعا وأجبر على ذلك وبقي عاجزا عن تخطي حدوده.. ورغم توفر شخصيات نسائية في المأوى ترافقه وتمد له يد العون ورغم توفر كل حاجياته المادية يبقى الشعور بالغربة وبالحصار مهيمنا عليه. يقول نبهان "أنا رجل الأقفاص المتعددة، قفص السرير، قفص علياء، قفص بياف، قفص تلك الأصوات الخافتة في أروقة المأوى، قفص الجدران.."ص 232. بل إن الرجل في هذا المأوى كائن عاجز أو "مستطيع بغيره" لا يملك إلا أن يستجيب لأوامر النساء حوله... وكأن الكاتبة تسعى من خلال الرمز إلى تقويض سلطة الرجل بتأكيد عجزه وضعفه في مقابل سيطرة تامة للمرأة على الفضاء واحتلاله فعلا. على أن الشعور بالحصار في المكان المعادي لم يكن وليد الحاضر فقط أي في المأوى الذي حشر فيه نبهان  دون اختيار، لقد بدأ العداء في الماضي  إذ امتد من بيت الطفولة إلى السجن الذي أمضى فيه عشرين سنة بعد اتهامه ظلما بالمشاركة في حركة المعارضة في الجامعة، فإذا كل الأمكنة بلون واحد "الاسمنت هو الاسمنت أيا كانت الجدران في سجن مأوى،  مصحة، أو أي مكان آخر" ص39.

      يتواتر الشعور بالانغلاق والحصار في عديد المواضع من الرواية وعلى لسان شخصيات أخرى (ماجدة، وديان) تلخصها استعارة القوقعة في الرواية وما تومئ إليه تربية ماجدة الحلزون في حديقة المأوى وشعورها بالتماهي معه.. في القوقعة تتوفر الحماية للحيوان الرخوي الذي يعيش داخلها، وسكنى القوقعة يعني التفاف الحياة حول نفسها وقبولنا بالوحدة (باشلار). السكن داخل القوقعة حسب باشلار هو كبح للحياة ونفي للكون وتعطيل للرغبات، والكائن الذي يعيش داخلها كائن يعيش الخوف والوحدة والإحساس بالعري.. هو كائن مغلف بالصمت والغموض. وهي السمات الغالبة على شخصية نبهان. لذا يلجأ غالبا إلى الذاكرة التي نراها تحتل المكان وتعطل الفعل.

  وفي مقابل أعطاب الجسد وسكونيته تعمد الكاتبة إلى إيلاء الذاكرة المكانة الهامة في فضاء الحكي، تكسر بها حدود المكان والزمان. وتعتبر الذاكرة "ميزة كل حكي في فضاء مغلق" (سعيد بنكراد: السرد الروائي وتجربة المعنى،ص223). لذا نراها تحتلّ الفضاء في رواية "رغبة بيضاء"،تغوص في أعماق الذات تحفر عميقا تستكشف خباياها، تستعيد أوجاعها، تكسر أغشية الصمت والغموض. الذكريات بالنسبة لنبهان هي الوحيدة القادرة على إضاءة حاضره وتبديد ظلمته (ص25) وهي التي تنير سبيل القارئ لفك الرموز وتبديد الغموض.

 لا تشهد الأحداث في الرواية تطورا هاما أو تقلبات تغير مصير الشخصيات،وفي المقابل تعمل الذاكرة على إحياء الماضي واسترجاع أحداثه وانفعالاته عبر تقنية الاسترجاع... تحيي الذاكرة مشاعر الحب التي أيقظتها ريحانة في نبهان أيام الجامعة، شعوره بالذنب إزاء المشاعر الآثمة،خوفه وضعفه أمام سطوة الأب يخرس فيه كل رغبة في الجمال ومتعة في الجسد،عذابات السجن تنفتح معها أبواب الجحيم...يكشف التذكر تحولات الجسد وأعطابه،تناقضات الذات وجبنها،كما تكشف رؤيتها للعالم وعلاقتها به..

هذا التصور للمكان ولعلاقة الإنسان به يؤكد عدوانية المكان في الرواية وهو ما يدفع جل الشخصيات إلى الهروب من الحاضر ورفض التواصل مع الآخر، إذ يتكثف شعورها بالعجز والانغلاق فتتعطل الرغبات والإرادة. تقول وديان "كانت هذه الجدران قوقعتي أعيش فيها حياة لم أخترها لكنها تبقى في النهاية أفضل بكثير من دموية الأرصفة وشراسة الآخر المتوحش "ص 188. ولعل شخصية نبهان هي الأقرب إلى تجسيد رمزية سكنى القوقعة حيث اجتمعت  أعطاب الجسد والروح...

2- الرغبات المعدمة والجسد المعطوب:

تعدّ الرغبة في الإنسان عنوان حياة ومؤشرا على حيوية الذات البشرية..الرغبة هي شحنة من الاندفاع والإرادة، حركة نحو الآخر والأشياء،توق إلى الوجود وتحقيق الكيان مهما كانت السبل والأدوات..تتلون الرغبات وتتحرك بوقود الذات ينجذب معها الجسد والروح ويندفع الكيان استجابة لقوى غامضة.غير أن الرغبة في رواية وحيدة المي كما وسمها  العنوان ستكون "رغبة بيضاء" والبياض صفاء وطهر.. يرتبط اللون عادة بالفضاء وبالأشياء..لكنه أيضا قد يكون بياض النهايات حين يُلفّ الجسد بالكفن. هل يكون "بياض" الرغبة في الرواية عنوان موت وفناء أم مؤشر حياة وانفتاح على عوالم الطهر والصفاء ؟

طرح الرواية إشكالية الجسد في علاقته بالمجتمع وبالسلطة. إذ تعمد السلطة كما المجتمع إلى بناء الأقفاص ووضع الحدود للكائن تشذب بها أحلامه وتلجم رغباته في الحرية والانطلاق.  تحوّله إلى كائن خائف أو عاجز، تعطّل فيه القدرة على الرؤية والرغبة في التواصل والفعل وفي الحياة.. لينتهي به الأمر إلى الانسحاب داخل قوقعته محتميا بها ملتفا حول ذاته. تعمد الكاتبة في نسج أحداث الرواية وبناء الشخصيات إلى التبئير على فعل إلجام الرغبات وتعطيلها سواء كانت الرغبة حسية مقترنة بالجسد أو فكرية روحية مدارها الجمال والحريات (قمع  شهوات الجسد،قمع البوليس والنظام،قمع الأب ..). ويتمظهر التعطيل حتى في اختيار الزمن الذي تتأطر فيه الأحداث في الرواية إذ تتواصل في المأوى في كامل شهر رمضان  لتكبح الرغبات الحسية كامل اليوم.  ويتواصل الكبح حتى عند الإفطار فإذا نفس نبهان تعاف حتى الأطباق التي تغدقها سيدة المأوى على سكانه.

 وقد بدأ تعطيل الرغبات لدى الشخصية المحورية منذ الطفولة إذ سعى الأب إلى قمع كل شهوات ابنه وهو الذكر الوحيد بين إخوته البنات، وألجم جميع حواسه وصادر كل توق إلى الفنون والجمال وزرع حوله الأقفال ورهاب الخطيئة والإثم تحت لواء الدين بل التدين المفرط. وتحوّل الأمر بالشخصية إلى ضرب من القمع الذاتي في الجامعة  مع ريحانة التي أحبها وقد آتت بذور تربية الأب والتطرف الديني أكلها.."كتمت عنها رغبتي كما يلجم الفرس الجامح.." ص107. وواصلت السلطة والسجن ما بدأه الأب والمؤدب وامتد التعطيل إلى الجسد.. لقد فقد نبهان بصره بعد إهمال مداواته وهو في السجن، وبذلك تلتقي أعطاب الجسد مع أعطاب الروح وكأن الشخصية في الرواية  تستعيد قول أبي العلاء في لزومياته :  أراني في الثلاثة من سجوني         فلا تسأل عن الخبر النبيث

              لفقدي ناظري ولزوم بيتي          وكون النفس في الجسد الخبيث

     تتجلى إشكالية الجسد أيضا مع شخصيتي ماجدة ووديان..إذ مثل الرقص (رمز تحرير الجسد وانطلاقه) الطريقة الوحيدة لدى المرأة (ماجدة) لتشعر أنها على قيد الحياة حتى وهي في القاع (ص92) لكن جسدها اضطر في النهاية للاحتماء بالمأوى حين فقد صلاحياته في إثارة الرغبات بعد سن اليأس. ولم يبق لها لاستعادة الشعور بأنوثتها إلا صوتها وغناؤها تعمد بهما إلى إثارة الرجل (نبهان).أما المرأة الثانية (وديان) فقد عاشت الرفض الاجتماعي والأسري أيضا إذ كانت ولادتها نتيجة الجسد المحرر في حمل غير مرغوب فيه خارج أطر المجتمع،هي ثمرة  جسد ثار على القوانين،فكان أن  تحملت تبعات نظرة المجتمع إلى الأمر  بالسكن في المأوى / القوقعة.

غير أن اللافت أن وجهة الرغبات التي رسمتها الرواية لشخصية نبهان  تتحول في آخر الرواية من الجسد إلى الفكر، من الحواس إلى الروح.. من عمى الألوان إلى صفاء البياض.  وهو التحول الوحيد الذي عاشته الشخصية الرئيسية  في الرواية في إشارة إلى انبثاق الحياة  من جديد.. فقراءة نبهان الصحف والكتب مع وديان (مساعدة الحياة) وتفاعله مع إحدى روايات الكاتبة وحيدة المي (نوّة) وإملاؤه خواطره على وديان هو حبل النجاة الأخير، به تتحول تجربة الذات  المكبلة من حالة العجز والصمت والعزلة إلى الخلق والإبداع.. وكأن الكاتبة تعلن بذلك أن الفنون هي البديل وأنها الوقود الحقيقي  للجسد المعطوب وللروح، وأن الكتابة "هي الحياة البديلة التي نعجز عن تحقيقها " ربما لكسر القوقعة والخروج من عتمتها.  ألم يقل باشلار إن الكائن الذي يظل ساكنا في قوقعته يتأهب للانفجار ويعدّ نفسه للخروج ؟ (باشلار:  جماليات المكان،ص117)

وفي ضرب من النصية الموازية تعمد وحيدة المي إلى اختيار روايتها الأولى (نوّة) لتجعلها مدار نقاش بين الشخصيات الروائية ( نبهان ووديان)، وهو شكل من التفاعل بين نص وحيدة المي ومداره ذات الكاتبة، وذات الشخصية التخييلية في تفاعلها مع النص. تتحول الكاتبة وحيدة المي قارئة لنصها محللة له مفككة لدلالاته ولرموزه (في ضرب من النصية الواصفة) تأكيدا لفكرة سعت الرواية إلى بنائها،وهي أن الإبداع وحده هو القادر على كسر شرنقة الكائن الذي يسكن القوقعة ودحض اليأس ومواصلة الحلم مهما علت جدران الحصار وتكثفت ظلمات المكان.

 تلك ربما هي الرغبة "البيضاء" بياض الأمل نواجه به ظلام اليأس والعمى والظلم، لكنها الوحيدة التي يمكن أن نتحدى بها أعطاب الجسد والروح وكسر جدران العزلة. لا يمكن كسر الشرنقة وتجاوز ظلمتها ومقاومة أعطاب الجسد إلا باستعادة الرغبة في الحياة ولا حياة خارج عملية الخلق والفعل والبناء.