حكمة السعودية.. واستفزازات إسرائيل
خطأ قاتل وقعت فيه إسرائيل بمحاولتها غير المبررة استفزاز الدور السعودي ومن ورائه الجهود العربية والإسلامية في العمل على إخراج المنطقة من النفق المظلم الذي أوقعها فيه المتطرفون من هواة القتل وسفك الدماء. جاء الرد على لسان وزير خارجية المملكة الأمير فيصل بن فرحان آل سعود الذي أعرب عن امتعاضه من تلك الخطوة معتبرا أن رفض إسرائيل زيارة اللجنة العربية إلى الضفة الغربية “تجسيد لرفضها مسلك السلام.” وأكد أن “رفض إسرائيل زيارة اللجنة الوزارية إلى الضفة الغربية ما هو إلا تأكيد على تطرفها ورفضها أيّ محاولات جدية للدبلوماسية والسلام.”
حاليا يبدو أن هناك حالة من جنون العظمة تحدد حركات ومواقف قادة إسرائيل بعد ما حققوه بواسطة الحرب على أكثر من واجهة. لكن ذلك لن يفيدها في تحقيق السلام الذي يحتاج إلى حكمة العقل وحجة العدل والحقيقة وهو ما تمثله المملكة.
إذا كانت إسرائيل تعتبر نفسها الدولة المركزية لحوالي 16 مليون يهودي في العالم، فإن السعودية هي القلب النابض والعاصمة الروحية لما يقارب ملياري مسلم، ولا يمكن تجاوزها في أيّ قرار من قرارات الحرب أو السلام، وكل من دخلوا في مواجهة مع الرياض خلال العقود التسعة الماضية خسروا، وهي التي انتصرت، وعرفت كيف تستمر بهويتها ونظامها السياسي والاجتماعي وتأثيرها الاقتصادي والحضاري، وهي تفرض نفسها ووجودها كقوة فعل وإنجاز.
وتدرك إسرائيل أن الاعتراف بوجودها كدولة في الشرق الأوسط، لن يكتمل إلا بتطبيع حقيقي مع السعودية، لأنه سيجرّ وراءه عهدا جديدا للسلام ليس فقط بين الرياض وتل أبيب، ولكن بين العرب والمسلمين من جهة واليهود من جهة ثانية، وهو ما أكدت المملكة في مناسبات عدة أنه لن يتحقق إلا بالتوصل إلى اتفاق على تطبيق مبدأ الدولتين، وأن يتم الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في إقامتهم دولتهم المستقلة على حدود الخامس من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية والدخول في مفاوضات جدية من أجل حل مختلف القضايا العالقة.
وعلى المجتمع الإسرائيلي أن يقتنع بحقيقة تخدمه وتحقق السلام والأمن والرفاه لأجياله القادمة، وهي أن محاولات القضاء على الشعب الفلسطيني لن تفلح، ومساعي طمس الهوية الفلسطينية لن تحقق أهدافها، وأيّ مخطط لوأد القضية سيكون مصيره الفشل، وأنّ لا نتيجة منتظرة لما يدعو إليه اليمين المتطرف المسيطر على دواليب الحكم ومراكز القرار في تل أبيب حاليا، إلا استمرار الصراع ودوام الفوضى، واتساع عزلة الدولة الصهيونية وعجزها عن التواصل الفعلي مع محيطها الذي من المفترض أن يكون طبيعيا ولا يزال غير طبيعي بحكم انعدام الرغبة لدى قياداتها في الخروج من حالة الكيان اللقيط إلى حالة الابن الشرعي للجغرافيا والتاريخ ولو عبر التبنّي.
في نوفمبر 2024، أكد وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان لدى ترؤسه أعمال القمة العربية – الإسلامية غير العادية في الرياض، أن "استمرار إسرائيل في جرائمها بحق الأبرياء، والإمعان في انتهاك قدسية المسجد الأقصى، والانتقاص من الدور المحوري للسلطة الوطنية الفلسطينية، من شأنه تقويض الجهود الهادفة لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وإحلال السلام في المنطقة." وفي فبراير 2025 أكد مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد على مركزية القضية الفلسطينية لدى السعودية، وشدد على أن السلام الدائم لن يتحقق إلا بقبول مبدأ التعايش السلمي عبر حل الدولتين. تلك الكلمات طارت في الفضاء العالمي ووصلت إلى مكاتب القادة والزعماء وصانعي القرار في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبقية الدول الأخرى، لتشير بما لا يدع مجالا للشك، أن لا فائدة ترجى من أيّ محاولة لجر المملكة للسلام في ظل استمرار الانتهاكات اليومية لحقوق الفلسطينيين، وأن الرياض تدعم السلام ولكن ليس إلى درجة التنكر لموقعها ودورها كدولة قائدة لمحيطها العربي والإسلامي، وهي تعمل على أن تكون المنطقة أكثر أمنا واستقرارا وتعاونا وتضامنا بين شعوبها ولكن في ظل العدل والإنصاف والنديّة وإعطاء كل ذي حق حقه. خلال عقود من تاريخها الحافل تجاوزت المملكة فكرة أن يكون اليهود وسطاء بينها وبين الإدارة الأميركية، واليوم تبدو علاقات الرياض وواشنطن أقوى وأعمق من أيّ وقت مضى، والأميركيون في حاجة إلى السعوديين أكثر من حاجة السعوديين إلى الأميركيين، وهو ما تحقق من خلال رؤية إستراتيجية وضعها الأمير محمد بن سلمان ونجح من خلالها في الاستفادة من موقع ودور ومقدرات بلاده في ربط علاقات متوازنة مع مختلف دول العالم، ومغادرة مخلفات الحرب الباردة بالاتجاه نحو مختلف عواصم القرار الدولي لتشكيل واقع وآفاق الدور السعودي وفق مصالح الدولة وأهدافها ومقومات استقرارها ونهضتها.
تورّط إسرائيل نفسها بتجسيدها صورة القزم الذي يحاول أن يتعملق أمام الكبار، رغم أن لديها فرصة تاريخية للاندماج في محيطها، وللخروج من عزلتها السياسية والثقافية والاجتماعية. ربما العاقلون فقط من بين الإسرائيليين هم الذين يدركون أن السعودية الدولة القوية حاليا قادرة على نقل بلادهم من دولة منبوذة إلى دولة معترف بها، ولكن ذلك لن يكون من خارج شرعية دور المملكة كقوة عقل وحجة في محيطها وكراعية لحقوق العرب ومشاعر المسلمين، وإذا كان متطرفو الدولة العبرية يحسبون أنهم في طريقهم إلى بسط نفوذها على المنطقة بفرض سياسة الأمر الواقع، فإن عليهم أن يضعوا في اعتبارهم أن تجارب التطبيع السابقة لم تخرج من السياقات الثنائية، ولم تتجاوز البعد الرسمي إلى الضمير الشعبي، ولم تتطور إلى أن تكون حالة دعم معلن لتل أبيب أو تضامن معها في محاولتها الدوس على حقوق الفلسطينيين. من هناك تبدو الحاجة إلى الدور السعودي الذي طرح الحل للقضية من جذورها، وأعطى إسرائيل فرصة تاريخية يبدو أن المستفيدين من ديمومة الحرب والعزلة داخلها لا يدخرون جهدا لإهدارها اعتقادا منهم أنهم سيحققون السلام بالمزيد من القتل وسفك الدماء، وهو ما لن يتحقق لهم أبدا.