حلف الناتو.. متحف الذكريات بنافذة ضيقة للمستقبل

ما هو الثمن الذي ينبغي على الولايات المتحدة دفعه لإعادة تركيا إلى حظيرة الناتو؟

في واحدة من طروحاته المثيرة، قال الرئيس الاميركي دونالد ترامب ان حلف الناتو عفا عليه الزمن. كان ذلك في بداية ولايته تقريبا، وكان الرجل غير بعيد عن الموضوعية لان اميركا ابتعدت، ومنذ مطلع التسعينيات، عن حلف الناتو واخذت ترسم لنفسها مسارا خاصا، بمشاركة بريطانيا، متجاوزة حلف الناتو وفلسفته التي بنيت على التصدي للمعسكر الشيوعي، وحلفه الشهير بـ "حلف وارسو" اثناء الحرب الباردة. لاحقا عاد ترامب وقال في ربيع العام 2017 ان حلف الناتو لم يعد من الكيانات التي عفا عليها الزمن! وكان هذا الاستدراك ضروريا، لان تفكك حلف الناتو رسميا سيضع دولا مهمة في الشرق الاوسط في مهب الصراع الدولي من جديد، ووفقا لمصالحها، ومن بينها تركيا، العضو الهام في الناتو والتي دخلت في مناكفات مع اميركا بسبب تعارض موقف البلدين من المخرجات المحتملة للازمة السورية، والتي مازالت تتفاعل في تفصيلها الاخير بينهما بشان ما يسمى "الملاذ الامن" وكيفية التعامل مع الفصائل الكردية هناك.

في لقاء متلفز معي اجرته احدى الفضائيات قبل اشهر، قلت ان اوراق الضغط التركية على اميركا في المنطقة قوية، وذات اهمية ستراتيجية. وقد انطلقت في تحليلي هذا من قراءة التوازنات الدولية التي باتت تركيا تمثل فيها بيضة القبان لاسيما بعد "الربيع العربي" لانها بما تمتلكه من موقع جيوسياسي حساس، ستقلب الطاولة على الاميركان ومشروعهم ومصالحهم في المنطقة اذا ما وقفت في المحور المقابل المتمثل بروسيا والصين ودعمت موقف ايران لحسابات مستقبلية تتعلق بالمشترك الامني بين انقرة وطهران المتمثل بالمسالة الكردية والتي دخلت بقوة في الحسابات الاميركية الراهنة لاحداث تغييرات جيوسياسية في الشرق الاوسط. وهذه القصة طويلة وفصولها معروفة للجميع.

ما دعانا الى الوقوف عند حلف الناتو ووصفه بمتحف الذكريات، هو انه لم يعد كما كان من قبل، بل اختلفت اهواء اعضائه وتبعثروا تقريبا، ولكن تركيا يجب ان تبقى فيه، او تحييدها من خلاله، لاعتبارات اميركية، وللاسباب التي اشرنا اليها، أي ان خروجها منه، اذا ما حصل، يعني انها ستخرج تحت ضغط المخاطر التي تهدد وحدتها (مسالة الكرد) والمدعومة اميركيا، ولو على المدى المستقبلي غير القريب، وستلجأ الى المحور الروسي لتعزز موقفها في سوريا على حساب الاميركان، ومن ثم ستغير الخارطة الجيوسياسية، بما يجعل اطلالة الناتو على الشرق الاوسط اقل تأثيرا بغياب قاعدة انجرليك التي ستصبح مسرحا روسيا وبطائرات روسية توازي باهميتها طائرات اف 35 التي طردت واشنطن انقرة من برنامجها التدريبي بسبب صفقة صواريخ اس 400 الروسية التي اربكت الاميركان، ووضعتهم امام خيارات قاسية جدا، فإما اخراج تركيا تماما من الاهتمامات العسكرية الاميركية، وهذا يعني دفعهم اكثر الى الحضن الروسي، او اعادة الحصان التركي المستنفر الى الحظيرة الناتوية ولو بثمن ما، تلافيا لمخاطر اقسى مستقبلا، منوهين الى تهديد اردوغان الاخير بان اخراج تركيا من برنامج اف 35 سيدفعهم للبحث عن مصادر اخرى!

وهذا القول يعني التوجه للروس، وبذلك تكون تركيا قد خرجت من الناتو عمليا، وان اميركا فقدت ميدانا حيويا، وفقدت فائدته المركبة، لصالح منافسيها الروس. فهل سيوافق فريق ترامب العسكري ومستشاريه على ذلك او يتقبلوا هذه الخسارة الستراتيجية بسهولة؟

اعتقد ان اميركا في تراجعها الضمني، وتصريحات ترامب الاخيرة، التي عمل من خلالها على تطييب خاطر الاتراك، قد يجعلهم يقبلون باقل الخسائر، أي الامساك بتركيا الدولة والقرار السياسي فيها، للابقاء على وجودهم العسكري في هذه المرحلة الحساسة جدا من تاريخ الشرق الاوسط، وان لم يعد لونه المطعّم باللون الروسي، مناسبا تماما للناتو الذي بات متحفا للذكريات.. وايضا نافذة ضيقة للمستقبل، برؤية اميركية جديدة!