حملة قمع واسعة تستهدف المعارضة التركية بذريعة مكافحة الفساد

السلطات التركية تعتقل أكثر من 500 شخص في تسعة أشهر فقط، بما في ذلك 202 على الأقل منذ الأسبوع الماضي.

أنقرة -  يتعرض أهم الخصوم السياسيين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحملة قمع غير مسبوقة جرى خلالها اعتقال أكثر من 500 شخص في تسعة أشهر فقط، فيما تتهم المعارضة أردوغان باستخدام القضاء لإحكام قبضته على السلطة.

ويقول أردوغان إن التحقيق يتصدى لما يسميه شبكة فساد تشبه "أخطبوطا تمتد أذرعه إلى مناطق أخرى داخل تركيا وخارجها". ولم تستهدف الإجراء، الذي بدأ في إسطنبول قبل أن يمتد إلى جميع أنحاء البلاد، إلا البلديات التي يديرها حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي، وهو حزب مصطفى كمال أتاتورك المؤسس العلماني لتركيا الحديثة.

وينفي الحزب اتهامات الفساد ويصفها بأنها "محاولة مكشوفة" للقضاء على بديل ديمقراطي للأتراك، وهو ما تنفيه الحكومة، فيما تحكم هذه الحملة قبضة أردوغان التي استمرت عقدين على السلطة في وقت يتنامى فيه نفوذ تركيا في الشرق الأوسط وأوروبا.

ولهذا السبب، يقول دبلوماسيون ومحللون إن تلك الحملة لم تدفع الحلفاء الغربيين لإطلاق انتقادات حادة باعتبارها تهديدا للديمقراطية حتى في الوقت الذي خرجت فيه احتجاجات حاشدة في الشوارع خلال الربيع.

وكشفت مراجعة مذكرات قانونية وإعلانات حكومية عن حبس 14 رئيس بلدية منتخبا من حزب الشعب الجمهوري، ومن بينهم أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول والمنافس الرئيسي لأردوغان، وأكثر من 200 من أعضاء الحزب أو مسؤولين محليين، وذلك على ذمة المحاكمة.

ومنذ سلسلة انقلابات في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لم تشهد البلاد عزل مثل هؤلاء القادة السياسيين البارزين من مناصبهم استنادا إلى أدلة لم تنشر بعد ويرفضها محامو المتهمين واصفين إياها بـ"الملفقة".

وقال أرطغرل جوناي وزير الثقافة والسياحة السابق في حكومات في عهد أردوغان بين عامي 2007 و2013 "تستخدم هذه التحقيقات كأداة للاستنزاف السياسي وليس للتحقيق الموضوعي في وقائع محددة".

واستقال جوناي من حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد اعتقال آلاف الأتراك إثر اندلاع احتجاجات مناهضة للحكومة في حديقة جيزي عام 2013. وذهبت الحملة الأحدث، رغم أنها أصغر حجما، إلى أبعد من ذلك واستهدفت أعضاء محتملين في حكومة مستقبلية محتملة يحققون نتائج قوية في استطلاعات الرأي.

تستخدم هذه التحقيقات كأداة للاستنزاف السياسي وليس للتحقيق الموضوعي في وقائع محددة

وقال المصدر نفسه إن ذلك يعكس "القلق والذعر الذي يشعر به حزب أردوغان الحاكم من الانتخابات المقبلة".

ورفض الرئيس التركي ووزراء الحكومة مرارا اتهامات من منتقدين لهم بالتدخل في شؤون القضاء، وقالوا إن المحاكم جهات مستقلة وتحتاج إلى وقت لفحص الأدلة.

ويقولون إن مثل هذه الانتقادات تقوض ثقة الشعب وتوضح أن أحزاب المعارضة تحسب حسابا لممارساتها غير القانونية وصراعاتها الداخلية.

وقال أردوغان لنواب حزب العدالة والتنمية في البرلمان الأربعاء "إنها عملية قانونية وليست سياسية. لا نشارك في أي جانب من جوانب هذه العملية".

ويقع في محور تلك الأحداث والتحقيقات السياسي إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول التي يبلغ عدد سكانها 17 مليون نسمة، الذي قررت السلطات حبسه في مارس/آذار على ذمة المحاكمة بتهم فساد ينفيها.

وإمام أوغلو هو مرشح حزب الشعب الجمهوري للرئاسة في أي انتخابات مقبلة. وتسبب اعتقاله في خروج أكبر احتجاجات منذ أحداث حديقة جيزي وفي انخفاض قيمة الليرة بشكل حاد، لكن خفت حدة الأمرين منذ ذلك الحين.

لكن بخلاف أوغلو، الذي لا يزال يتفوق على أردوغان في بعض استطلاعات الرأي حتى وهو خلف القضبان، خلصت مراجعة رويترز إلى اعتقال أكثر من 500 واستجوابهم منذ بدء التحقيق في أكتوبر/تشرين الأول 2024، بما في ذلك 202 على الأقل منذ الأسبوع الماضي فحسب.

وأظهرت المراجعة، التي استندت إلى تقارير من وكالة الأناضول الحكومية للأنباء ومصادر أخرى، أن السلطات قررت حبس أكثر من 220 من بين هذا العدد أو وضعهم قيد الإقامة الجبرية.

ووجدت رويترز أيضا أن 36 شخصا على الأقل، معظمهم من العاملين في القطاع الخاص ويتعاملون تجاريا مع البلديات، قدموا إفادة ثانية للمدعين العامين من السجن بموجب بند "التوبة الفعالة" في القانون التركي، وأفرجت السلطات بعد ذلك عن 32 منهم مع إخضاعهم لإجراءات رقابة قضائية.

وأظهرت بيانات وإفصاحات من ممثلي الادعاء العام وآخرين أن هذه الإفادات كشفت عن المزيد من المشتبه بهم. ومنذ يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، اتسع نطاق التحقيق إلى إزمير ثالث أكبر مدينة في تركيا وأنطاليا وأضنة وأديامان، وهي مناطق فاز فيها كلها حزب الشعب الجمهوري المنتمي لتيار الوسط على حزب العدالة والتنمية الحاكم المحافظ بزعامة أردوغان في الانتخابات المحلية التي جرت في مارس/آذار من العام الماضي، وهو تصويت شهد تسجيل أكبر هزيمة انتخابية يمنى بها الحزب الحاكم على الإطلاق.

لا يوجد ضد أكرم إمام أوغلو دليل واحد ملموس

وتنبأ أردوغان في الأشهر القليلة الماضية بتنفيذ المزيد من عمليات توجيه الاتهامات والاعتقالات، وأصاب في توقعه، وهو أمر زاد من المخاوف بشأن التدخل السياسي.

وبعد أيام من تعليقه المبهم عن وجود أذرع فساد أخطبوطية في مايو/أيار، اعتقلت السلطات خمسة من رؤساء البلديات من إسطنبول وأضنة بتهم الفساد.

وأصدرت مديرية الاتصالات في تركيا قائمة برؤساء بلديات سابقين من حزب العدالة والتنمية أدينوا بتهم مماثلة في تحقيقات منفصلة، قائلة إن ما يتردد عن أن حزب الشعب الجمهوري مستهدف بشكل منفرد "لا أساس لها من الصحة على الإطلاق".

لكن معظم الأسماء المدرجة في القائمة خضعوا للتحقيق بعد ترك مناصبهم ولم تحبسهم السلطات على ذمة المحاكمة. وتظهر مراجعة رويترز لأحدث تحقيق عدم اتخاذ أي إجراءات قانونية في 14 مقاطعة من أصل 39 في إسطنبول يديرها حزب العدالة والتنمية.

وقال محمد بيليفان محامي رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، المحبوس شأنه شأن موكله ويواجه تهما جنائية ينفيها، لرويترز من محبسه إن التحقيق يسعى لأول مرة إلى تجريم الحق في ممارسة المحاماة والدفاع القانوني، متابعا أنه "لا يوجد ضده دليل واحد ملموس".

وفي أحد جوانب التحقيق، يظهر محضر مؤلف من 121 صفحة من استجواب الشرطة اطلعت عليه رويترز أن أوغلو يواجه ادعاء واحدا بأنه تواطأ مع مجموعة من الرجال يقال إنهم اجتمعوا في مقهى لمناقشة مدفوعات للرشوة.

وتظهر الوثائق أن الشرطة سألته عن كيفية اتصال هاتفه بنفس البرج الخلوي الذي كان يتصل بهواتف الرجال 150 مرة على الأقل. فأجاب بأن منزله في ذلك الوقت كان قريبا من المقهى، لذا كان من الطبيعي أن يستخدم هاتفه نفس البرج.

ويرفض حزب الشعب الجمهوري جميع مزاعم الفساد ضد مسؤولي البلديات التابعين له، لكنه قال إنه سيحقق في الأمر بعد أن نشرت هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية الرسمية "تي.آر.تي" لقطات لنائب رئيس بلدية مانافجات في أنطاليا جنوب البلاد والتي تقول إنها تظهره وهو يتلقى الرشى.

وشهدت تركيا من قبل موجات من الاعتقالات الجماعية للقيادات المؤيدة للأكراد وأعضاء المجتمع المدني وضباط جيش وجماعات محظورة، خاصة في عهد أردوغان السلطوي.

وتجنب حزب الشعب الجمهوري نسبيا هذه التوقيفات في عهد الرئيس الحالي، إذ خسر سلسلة من الانتخابات لصالح حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه منذ 2002. وليس من المقرر إجراء انتخابات رئاسية قبل 2028، لكن قد تجرى في موعد أقرب إذا أراد أردوغان الترشح مرة أخرى. ويمكن أن يسعى أيضا لتعديل الدستور الذي يقصر تولي الرئاسة على ولايتين فقط.

وينكر جميع رؤساء البلديات التابعين لحزب الشعب الجمهوري، بمن فيهم 14 رئيس بلدية في السجن وواحد قيد الإقامة الجبرية، التهم المتعلقة بالفساد والرشوة والإرهاب التي ينتظرون قرار المحكمة بشأنها. وجرى إيقاف البعض عن العمل.

وقال رئيس الحزب أوزغور أوزيل في خطاب ألقاه يوم الأحد إن رؤساء البلديات "وقعوا أسرى لهذا الانقلاب على حزب أتاتورك"، وهي تصريحات دفعت السلطات إلى إجراء تحقيق منفصل فيها بتهم من بينها إهانة الرئيس.