حوار يمني... من اجل الحوار

في غياب أي تغيير للوضع على الأرض وبقاء "الشرعية" على حالها، سينتهي مارتن غريفيث نسخة أخرى عن جمال بنعمر او إسماعيل ولد الشيخ احمد.

ليس اللقاء المتوقع بعد أيام، في السادس من أيلول – سبتمبر تحديدا، بين الحوثيين، على الرغم من عدم ذكرهم بالاسم من جهة و"الشرعية" في اليمن من جهة اخرى سوى محاولة يظهر من خلالها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث انّه قادر على تحقيق تقدّم ما. يريد المبعوث اثبات انّ مهمته لا تراوح مكانها وانّه قادر على جمع الطرفين اللذين يخوضان المعارك في اليمن في مدينة محايدة مثل جنيف.

اقتصر خيار غريفيث على "الشرعية" وعلى الحوثيين الذين لم يسمهم باسمهم. سماهم "القيادة السياسية المشتركة في صنعاء" أي قوة الامر الواقع. ترك بذلك الباب مفتوحا امام مشاركة قياديين في المؤتمر الشعبي العام من الذين يسيطر عليهم "انصار الله" وممثلين لـ"الشرعية" في لقاء جنيف. تجاهل ان هناك أطرافا أخرى على علاقة بالحرب بطريقة او باخرى. تجاهل أيضا وجود قيادة لـ"المؤتمر الشعبي العام" خارجة عن سيطرة الحوثيين.

يبدو ان غريفيث ما زال يفضّل الابتعاد عن لبّ الازمة، أي عن وجود مشروع إيراني في اليمن لا ينفع معه أي حوار من ايّ نوع كان.

مرّة أخرى، يتبيّن كم ان الازمة اليمنية معقدة وكم لا يزال المبعوث الجديد في مرحلة استطلاعية بعدما اعتقد في الماضي انّه سيكون قادرا على النجاح حيث فشل اللذان سبقاه في مهمته، وهما جمال بنعمر وإسماعيل ولد الشيخ احمد.

ما الذي سيجري في جنيف؟ سيكون هناك حوار لا افق له، حوار من اجل الحوار. هذا عائد الى سببين. الاوّل انّه ليست هناك قواسم مشتركة يمكن الوصول اليها بين "الشرعية" والحوثيين الذين يسمون نفسهم "انصار الله"، وذلك بغض النظر عن العذابات التي يتعرّض لها اليمنيون. امّا السبب الآخر، فهو عائد الى ان عبدالملك الحوثي يمتلك مشروعا واضحا لا يستطيع التراجع عنه، اضافة الى ان قراره ليس في يده. يتمثّل هذا المشروع، المرتبط بالمشروع التوسّعي الايراني، في انّه يريد البقاء في مناطق معينة وتحويلها شوكة في خاصرة الدول الخليجية العربية في مقدّمها المملكة العربية السعودية.

لا يمكن في الواقع الحوار مع طرف لا يريد من الحوار سوى تمرير الوقت. في المقابل، لا يمكن لطرف اسمه "الشرعية" النجاح في ايّ حوار مع طرف مثل الطرف الحوثي من دون امتلاك القدرة على اثبات انّها تمتلك بالفعل وسائل ضغط على الطرف الآخر. المؤسف ان "الشرعية" لم تظهر الى اليوم انّها قادرة على لعب دور ايجابي في أي منطقة من المناطق اليمنية وان تكون بديلا من الحوثيين. نجحت "الشرعية" في ان تكون موجودة في مناطق معيّنة نتيجة الجهود التي قام بها "التحالف العربي" الذي استطاع وقف تقدّم المشروع الايراني في اليمن الذي انكشف على حقيقته في الواحد والعشرين من أيلول-سبتمبر 2014 عندما وضع "انصار الله" يدهم على صنعاء. لم تفعل "الشرعية"، حيث وجدت غير السعي الى استعادة أسوأ ما في عادات المجتمع المدني، أي الخلافات ذات الطابع الديني والمذهبي من نوع من يدير هذا المسجد او ذاك... او السعي الى نفوذ في مجال معيّن يؤمن دخلا لهذا الشخص او ذاك من التابعين لاحد مراكز القوى.

اخطأ المبعوث الدولي عندما افتعل لقاء جنيف من اجل متابعة الدوران في حلقة مقفلة. هناك بديهيات يبدو انّها غابت عنه. أولى البديهيات ان الحوثيين لا يمكن ان يتزحزحوا عن مواقفهم في ظل موازين القائمة حاليا. لولا "التحالف العربي"، لكانوا الآن في المكلا وعدن والمخا وفي مأرب وفي كلّ تعز. لولا التحالف الدولي الذي شنّ "عاصفة الحزم" في آذار–مارس 2015، لكان اليمن كلّه تحت السيطرة الايرانية. هذا هو الواقع الذي لا مفرّ من التعاطي معه. في كلّ مرّة حصل اتفاق بين "الشرعية" والحوثيين، استخدم هؤلاء الاتفاق في خدمة مشروعهم. هناك ادلّة لا تحصى على ذلك. لعلّ الدليل الاهمّ "اتفاق السلم والشراكة" الذي وقعه الحوثيون في صنعاء مع "الشرعية" بإشراف مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة وقتذاك جمال بنعمر ورعايته. تمّ التوصل الى الاتفاق بعيد سيطرة "انصار الله" على العاصمة اليمنية. ماذا كانت النتيجة؟ لم تمض سوى ايّام قليلة قبل ان يضع الحوثيون الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي في الإقامة الجبرية. اجبروه على الاستقالة ولم يسمحوا لرئيس مجلس النواب يحيى الراعي بان يكون رئيسا مؤقتا نظرا الى انّه كان من قيادات "المؤتمر الشعبي العام". اكد الحوثيون انّ السلطة هدفهم وان طموحهم إقامة نظام جديد في اليمن مستوحى من التجربة الايرانية ومن عهد الامامة في الوقت ذاته. استطاع عبد ربّه منصور الفرار من الاسر وانتقل الى عدن في شباط–فبراير 2015. جاء بعد ذلك دور الاستفادة الى ابعد حدود من علي عبدالله صالح الذي ما لبث الحوثيون ان صفّوه بطريقة شنيعة في الرابع من كانون الاوّل–ديسمبر 2017.

لا يمكن تحقيق أي تقدّم في اليمن في ظل التوازنات القائمة على الأرض. لن يقدم الحوثي على أي خطوة في اتجاه تشكيل حكومة وحدة وطنية او في اتجاه المشاركة في مؤتمر تتمثّل فيه كلّ القوى الفاعلة على الأرض بحثا عن صيغة جديدة لليمن ككلّ. كيف يمكن الحوار مع طرف يؤمن بانّ في الإمكان العودة الى عهد الامامة ويضع نفسه في موقع "المرشد" في ايران؟

لا يمتلك الحوثي أي مشروع اقتصادي او حضاري لليمن. كلّ ما يمتلكه هو مشروع يصبّ في خدمة المشروع الايراني. هذا لا يعني انّه لا يمثل شيئا في اليمن بمقدار ما يعني انّه لا يمكن التعاطي معه انطلاقا من مفاهيمه للسلطة والدور الذي يرى انّه مؤهل للعبه على صعيد اليمن ككلّ. يظل الحوثيون جزءا من التركيبة اليمنية ولا يمكن لاحد الغائهم كلّيا، لذلك يبقى الخيار الأفضل ان يعطوا حجمهم الحقيقي والرهان على عودتهم الى رشدهم بعيدا عما زرعه النظام الايراني في ورؤوسهم.

الأكيد ان ليس في الإمكان مواجهة المشروع الحوثي، أي المشروع الايراني، عبر "الشرعية" في شكلها الحالي. هناك قسم من هذه "الشرعية"، يتمثل في الاخوان المسلمين، يرى ان التفرّج على ما يدور في البلد هو في مصلحته. لم يشارك هذا القسم في ايّ معركة من المعارك، بل يعتقد انّ تطور الاحداث سيكون في مصلحته. من هذا المنطلق، لا مفرّ من إعادة تشكيل الشرعية كي تكون في مستوى الأحداث. قد يكون إعادة تشكيل الشرعية الحلقة الناقصة في ما يقوم به مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الذي يفترض به تقديم أفكار جريئة تؤدي الى وضع كل طرف امام مسؤولياته.

في غياب مثل هذه الأفكار الجريئة ذات السقف العالي، التي تعني ان يأخذ مارتن غريفيث المبادرة عبر تقديم حلول عملية لمسألة ميناء الحديدة مثلا، لن يكون هناك جديد في اليمن. يستطيع الحوثيون و"الشرعية" الدخول في حوارات ونقاشات تدوم سنوات. ليس في بالهما كم عدد الأطفال اليمنيين الذين يموتون يوميا او مدى تفشي المجاعة في كلّ انحاء البلد.

في غياب أي تغيير للوضع على الأرض وبقاء "الشرعية" على حالها، سينتهي مارتن غريفيث على الرغم من كلّ النيات الطيبة نسخة أخرى عن جمال بنعمر او إسماعيل ولد الشيخ احمد. سيظل الحوثي يقول: انا اسيطر على جزء من اليمن. انا في صنعاء وتعز والحديدة. هل يستطيع احد ازاحتي من أي موقع انا فيه؟ لماذا عليّ، اذا، تقديم أي تنازلات؟