حياة هوراسيو كيروغا الحافلة بـ 'قصص الحب والجنون والموت'

الرواية تم تقديمها بسرد ألقى الضوء على تجربة الشاعر والروائي الراحل وردود فعل المشهد الإبداعي عليها، فضلا عن حياته الإنسانية المشحونة بالاضطرابات انطلاقا من طفولته ومقتل أبيه بشكل مأساوي ومرورا بزواجه وانتهاء بمرضه، الأمر الذي أدى به في النهاية إلى الانتحار.

اكتسب الروائي والشاعر الأوروغواياني هوراسيو كيروغا (1878 – 1937) شهرته انطلاقا من روايته "قصص الحب والجنون والموت" التي تأثرت بحياته المأساوية والسوداوية، وتتميز بمزج الواقع بالخيال بالرعب، وتدور أحداثها التي في جلها حقيقية حول ثلاثة مواضيع رئيسية: الحب والجنون والموت.

كان كيروغا عند كتابته لهذا الكتاب الذي ضم عشر قصص كاشفة لحياته المأساوية في الأربعين من عمره.

الرواية التي ترجمها المترجم السوري صالح علماني والصادرة عن منشورات الجمل، تم تقديمها بسرد ألقى الضوء على تجربة كيروغا القصصية والروائية والشعرية، وردود فعل المشهد الإبداعي عليها، فضلا عن حياته الإنسانية المشحونة بالاضطرابات انطلاقا من طفولته ومقتل أبيه بشكل مأساوي ومرورا بزواجه وانتهاء بمرضه، الأمر الذي أدى به في النهاية إلى الانتحار.

يقول علماني "الصمت يخيم على مستشفى بوينس أيرس الجراحي، إنها ساعات الفجر الأولى. والورقة التي لم تنتزع بعد من التقويم تشير إلى يوم 19 فبراير 1937. هناك رجل ينام باطمئنان، اسمه باتيستيسا. لكن ضجة مفاجئة توقظه. ينهض هذا المريض، ويهرع إلى الغرفة المجاورة. النور مضاء، وفي السرير رجل له لحية مجعدة وكثة يتقلب مطلقا حشرجات الموت. إنه هوراسيو كيروغا. لقد كان يعاني المرض منذ شهور عديدة. وقد أجريت له عملية البروستات. ولكن آلامه تواصلت بعد العملية الجراحية. وكان قد عرف في اليوم السابق حقيقة مرضه، وأدرك أنه لا أمل له في الشفاء. لقد خرج في اليوم السابق من المستشفى. وزار ابنته إيلغي. وتحدث معها طويلا، ثم ذهب بعد ذلك إلى بيت الرسام بايرو، مثلما يفعل عادة. ولم يكن ذهب أي شيء غير عادي في سلوكه أو كلامه. وفي طريق عودته إلى المستشفى، عرج على صيدلية واشترى منها السيانور. في الصباح التالي، 19فبراير، اجتمعت ثلة من الكتاب، عدد قليل من الأصدقاء، حول جثمان كيروغا. وقد سجل أحدهم انطباعاته عن تلك اللحظة. إنه إلياس كاستيلوبو، الذي كان يقف قبالة جسد المنتحر. "أتامله وهو مسجي في تلك الحال، متيبسا ونحيلا، وأشعر نحوه بالاحترام نفسه الذي الذي كان يبعثه فيّ وهو حي، وبالجدية نفسها، وبالاحتفاظ بمسافة التوقير نفسها بعيدا عنه.. رهبة في حياته ورهبة في مماته. وأشعر برهبة أكبر وأنا أرى رجلا قرأه ملايين البشر، لا يقف إلى جوار جثمانه إلا بعض رفاق المهنة الصامتين، لا يتبادلون حتى التحية فيما بينهم".

ويتابع علماني "قبل أكثر من خمسين عاما سنة من ذلك اليوم، ولد هذا الرجل المسجي في مكان بعيد، فيما وراء النهر، في بلدة إل سالتو بأراضي أورغواي. كان ذلك في الحادي والثلاثين من ديسمبرعام 1878. كان أبوه أرجنتينيا تربطه صلة قربى بشخصية فاكوندو الرهيب "نمر السهوب" الذي ابتدعته مخيلة الكاتب الأرجنتيني سارمينتو. لقد وصل الأب إلى تلك البلدة ليستقر في الأروغواي. وبعد أربع سنوات تزوج من باستورا فورتيرثا، ابنة أسرة ميسورة وأنجب الزوجان أربعة أبناء، كان آخرهم هو كاتب المستقبل. لم يكن هوراسيو قد تجاوز الثانية من عمره عندما مرض الأشقاء الأربعة بداء صدري. فنصح الأطباء بضرورة تبديل الجو والانتقال إلى مزرعة قريبة. وفي صبيحة أحد الأيام، يوم مماثل لأيام كثيرة سواه، دعا الأب أسرته للقيام بنزهة، وقد ذهب في أول الأمر مع خادم في قارب ليصطاد، ورجع إليهم باكرا. وفي المرسى، وكان هوراسيو ما يزال صغيرا تحمله أمه بين ذراعيها، قفز الرجل إلى البر. وكان يحمل بندقية الصيد في يده الخشنة، فاصطدم السلاح بحافة المرسى، وانطلقت منه رصاصة اخترقت رأس الأب برودينثيو كيروغا.

ويضيف "انتقلت الأرملة وأيتامها إلى قرطبة، في الأرجنتين. وهناك انقضت أربع سنوات أخرى من حياة كيروغا قبل أن تعود الأسرة ثانية إلى "إل سالتو"، ويبدأ الأولاد بالذهاب إلى المدرسة. كان هوراسيو تلميذا قلقا. ولم يكن يدرس إلا المواد التي تستهوي عقله الطفولي: التاريخ والكيمياء، وفي البيت، كان يقرأبشغف المجلات التي تأتي من بعيد، والتي كانت تزود مخيلته العذراء بكل قوة الخيال الطاغي. كان يقرأ "بريد ما وراء البحار" القادمة من برشلونة، وموسوعة شعبية بعنوان "العالم بين يديك". وكان يلتهم صفحات أندرسون وبيرولت وفيرن ودوماس بسرعة فائقة ليشبع نهمه إلى القراءة. كما يحب ركوب الدراجات الذي يقوي عضلاته الفتية. كان الأولاد مايزالون صغارا عندما تزوجت الأم في عام 1891. وقد تعلق هوراسيو كثيرا بزوج أمخ اسقينتيو باركوس. ولم تنقض سنوات طويلة حتى أصيب الرجل بنزيف في الدماغ وأدى به المرض إلى الشلل. لكن باركوس الذي حكم عليه بالبقاء طريح الفراش إلى الأبد، يتخذ بينه وبين نفسه قرارا حاسما، ويتمكن في صباح أحد الأيام، وهو وحده في البيت، من الوصول إلى بندقية صيد، فيدخل أصابع قدمه التي يستطيع تحريكاهاوراء زناد السلاح ويطلق رصاصة على نفسه، وتعود أجواء اليتم لتخيم بظلالهاالسوداء على مراهقة كاتب المستقبل.

ويشير علماني إلى أن كيروغا في الثامنة عشر من عمره ارتبط بصداقة حميمة مع شاب جامعي يدعى ألبيرتو بريغنولي، فكلاهما يحب قراءة كتب الأدب والفلسفة، ثم ينضم إليهما صديقان آخران، فيطلق الأربعة على أنفسهم فرسان دوماس المشهورين. ينتهي العام 1897 وينتقل كيروغا وبريغنولي إلى جامعة مونتيفيديو. ولم يكن الواضح تماما أنه قد حدد حتى ذلك الحين توجهه الدراسي. ولكن الواضح تماما أنه كان يميل إلى الأدب. وحين رجع لقضاء بعض الوقت في "إل سالتو"، بدأ بنشر بعض القصائد والقصص في عدد من المجلات الأسبوعية. وقد اختار اسما مستعارا يوقع به هو اسم غيلليرم اينهاردت، بطل رواية "وباء العصر" لماكس نوردو، وبعد سنتين من ذلك يؤسس "مجلة إل سالتو" ويكون إلى جانبه زميله ألبيرتو بريغنولي. ولكن المجلة اختفت بعد خمسة شهور من بدء صدورها.

ويؤكد أن الأوساط الأدبية في أميركا اللاتينية كانت حينذاك تتجه إلى الحداثة الشعرية المستجدة. وكان جميع الشعراء الشباب يعكفون على قراءة روبين داريو، وينهلون من أعمال الأدباء الفرنسيين الجدد، ويحلمون بالسفر إلى باريس.

 وفي عام 1898 يقوم كيروغل وبيغنولي برحلة إلى بوينس أيرس ليتعرفا مباشرة على الشاعر ليوبولدو لوغرنيس، ويعد كيروغا العدة هناك للقيام برحلة أطول: إنه يريد الذهاب إلى باريس وفي مارس 1900 يتوجه إلى أوروبا. وقد لنا من تلك الرحلة مذكرات سجل فيها الكاتب انطباعاته. وفي العام 1901 خرج كتاب كيروغا الأول "الصخور المرجانية" الذي أهدأه إلى ليوبولدو لوغونيس والذي يضم أشعارا وقصصا قصيرة ويتسم بالرمزية التي كانت في طور الانحدار، وقد هاجمه بشدة بعض الكتاب المحافظين لكن لوغونيس وريكاردو روخاس أثنيا عليه. وفي تلك أيضا يفوز كيروغا في مسابقتين أدبيتين.

ويلفت علماني إلى أن الأجواء الأدبية كانت متوترة ومشحونة بالاختلافات وكانت النزاعات بين الكتاب الشباب تزعزع سكون مونتيفيديو الهاجعة بخمول. وقد بلغت إحدى المناظرات التي نشبت بين فيراندو رئسا وكاتب آخر حدا من العنف جعلهما يفكران في المبارزة بالمسدسات لحسم القضية. وقد اشترى فيراندو مسدسا بالفعل، وأراد كيروغا الذي كان يزوره في بيته أن يشرح له كيفية استخدام السلاح. فأمسك المسدس، وضغط على الزناد وهو لا يعلم أنه محشو. ورأى كيروغا صديقه يهوي إلى جواره.

وفي العام 1904 يصدر كيروغا كتابه الثاني "جريمة الآخر"، وهو مجموعة قصص يظهر فيها تأثره الواضح بإدغار آلن بو. وتفتح له قصص المجموعة الاثنتا عشرة طريق الشهرة. ويكون موضوع بعضها مستمدا من سيرته الذاتية، ويكشف بعضها الآخر عن قراءته لأعماله بيير لوتي الذي كتابا آخر: "المطاردون" 1905. ويساهم كيروغا في أثناء ذلك بالكتابة لبعض المجلات الشعبية: "وجوه وأقنعة" و"البت" و"اتلانتيدا". ويكون كتابه الرابع رواية بعنوان "قصة حب كدرة" 1908، ويختتم بها المرحلة الأولى من إنتاجه. إنها رواية سيكولوجية، وفيها إشارات إلى حياته الشخصية ومشاعره. ويطري لوغونيس على أسلوب الكاتب ونثره. فثمة شيئ من ديستويفسكي في تلك الصفحات.

ويتابع علماني تزوج كيروغا من آنا ماريا ثيريس، لكن لم تسر العلاقات الزوجية على ما يرام، فالمشاجرات بين الزوجين تكاثرت جدا، على الرغم من انجابهما ايغلي وداريو، وفي أحد الأيام تتناول آنا ماريا جرعة كبيرة جدا من الأدوية. ويلي ذلك ثمانية أيام من الاحتضار، فيحاول كيروغا إيقاذها بكل جهده ولكن دون جدوى، حتى أسلمت الروح في عام 1915، وفي عام 1916 يعود إلى بوينس آيرس ويقطع صلته بأرضه الزراعية التي كان أن اشتراها وبالأدغال البرية وبمحاصيله ومواشيه وفي العام التالي يظهر الكتاب الذي سيجعل منه كاتبا مشهورا "قصص الحب والجنون والموت" وكان حينئذ في الأربعين من عمره، وفي عام 1919 يتلقى أمر تعيينه سكرتير حسابات في قنصلية الأرغواي العامة في الأرجنتين وكانت تلك هي أسعد مراحل حياته. وفي أثنائها توالى ظهور أفضل أعماله "حكايات الغابة، "المتوحش"، "انكنده" "الفقر"، المنفيون".

ويرى أن شهرة كيروغا تستند أساسا إلى هذه الكتب، فحماسته لآن بو وموباسان وميترلينك وغيرهم من الكتاب الذين أثروا على المرحلة الأولى من إبداعه، تتقلص بصورة ملحوظة. وتتلو قصص الرعب التي كان يكتبها قصص عن الحياة في أقليم ميسيونيس،حيث يواصل الكتابة عن كل ما هو غير طبيعي وكئيب، ويقدم الشخصيات المعقدة نفسيا، ولكن دون أن يصبح ذلك هاجسه الأوحد. وتصل إلى قصصه أجواء الأدغال، وشخصيات قرية سان أغناسيو ومحيطها، والحيوانات والنباتات التي تنمو بصورة عجيبة في مناخ هذه القرية دون الاستوائي بموضوعية أكبر وبفنية عالية.

تبدأ معاناة كيروغا الجسدية في التفاقم حيث يصاب بتضخم في البروستاتا ويضطر إلى إجراء جراحة لكن التحسن كان طفيفا حيث عانى من آلام جسدية من كل الدرجات حتى أنه كان يصرخ صرخة ألم تستمر لساعات، الأمر الذي دفعه للانتحار. إننا في العام 1973.