خالد بن ناجي يدعو إلى عودة الجامعات للأنشطة الثقافية والرياضية
ما ذكرت حضارة بلاد ما بين النهرين العريقة يوما إلا وذكرت معها المسلات والقوانين والأختام الأسطوانية واختراع الكتابة والعجلة والمحراث والقوس المزدوج، إضافة إلى ابتكار القنوات والنافورات المائية الفريدة، علاوة على الخزف والخارطة والشراع والروزنامة الزراعية وفهرس المكتبات والرياضيات وتخطيط المدن وصناعة الطابوق وغيرها الكثير من الاختراعات والاكتشافات المذهلة الأولى من نوعها على سطح الكوكب الأزرق وقد أبدعتها حضارات وادي الرافدين المتعاقبة قبل انتقالها واقتباسها من بقية الأمم والشعوب الأخرى تباعا في أرجاء المعمورة، بحسب "World History Encyclopedia".
حضارة أصيلة ضاربة بالقدم أقر بعنفوانها، واعترف بألقها، وأثنى على أصالتها الأعداء قبل الأصدقاء، ومما قيل فيها "إن شعب العراق القديم قد طور العديد من الأمور من الكتابة إلى العجلة إضافة إلى المدارس وأساليب الري وقياس الوقت الذي نستخدمه حتى يومنا هذا، وفقا لمحطة بي بي سي البريطانية.
حضارة أدار دفتها، ورفع اسمها، وتناقل رايتها، وطور فنونها، وتناوب على تشييد صروحها، الأكديون والسومريون والآشوريون والبابليون والحضريون وصولا إلى الحضارة العربية-الإسلامية الزاهرة التي أشرقت بأنوارها الساطعة لتشع وتضيء دياجير ظلام العالم من بغداد إلى الصين، حيث بيت الحكمة، وأول جامعتين في العالم بأسره "المدرسة المستنصرية، والمدرسة النظامية"، هناك حيث مدرسة الكوفة والبصرة التي يشهد لهما القاصي والداني بالأسبقية والأعلمية في علوم النحو والبلاغة والصرف واللغة، حيث دار أهل الرأي والحديث، حيث مدارس الحفاظ والقراء وعلوم القرآن والتفسير والفقهاء، حيث منبع الشعراء والأدباء والحكماء، حيث مستقر الأئمة والعلماء والأولياء، وباختصار فلقد تغنى السابقون واللاحقون بآثار العراق وأعلامه ومعالمه وفلكلوره زيادة على مدنه ومحافظاته من دهوك وحتى الفاو، ليهيموا عشقا بالبصرة الفيحاء التي وصفت بأنها "خزينة العرب، وعينُ الدّنيا، وفينيسيا الشّرق" وقال فيها ياقوت الحموي بكتابه "معجم البلدان" "نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة".
أما عن موصلها أم الربيعين الحدباء فقالوا الكثير ولعل من أجملها بيت للجواهري:
"أم الربيعين" يا من فُقت حسنهما... بثالث من شبابٍ مُشرق خَضلِ
كذلك بغدادها الشماء التي اختيرت عاصمة للثقافة العربية عام 2013، والتي قال فيها الخريمي:
قالوا وَلَم يلعبِ الزَمان بِبَغ ..داد وَتعثُر بِها عَواثرُها
إِذ هيَ مثل العَروس باطِنُها.. مشوّق لِلفَتى وَظاهرها
وأما عن مدينة "سُرَّ من رآى" التي وقع عليها الاختيار لتكون عاصمة للحضارة الإسلامية، فقد كتبت عنها منظمة اليونسكو وبما تصدر صفحتها الرئيسة "تقف مدينة سامراء القديمة عاصمة العباسيين خلال الفترة 836 – 892 شاهدة على عظمة الحضارة التي بسطت نفوذها على مناطق واسعة من العالم المتمدن وامتدت أقاليمها من تونس إلى آسيا الوسطى، وهي العاصمة الإسلامية الوحيدة التي احتفظت بمخططها الأصلي وهندستها المعمارية وفنونها، وتضم اثنين من أكبر المساجد الجامعة (المسجد الجامع المعروف بمئذنته الشهيرة الملوية، ومسجد أبي دُلف) بمئذنتيهما الفريدتين، كما تضم أكبر القصور في العالم الإسلامي (القصر الجعفري، وقصر المشتاق)، وانطلاقا من هذه المدينة الأثرية العريقة تحديدا كان لنا حديث شائق مع شخصية من شخصياتها المرموقة، وأحد أعلامها البارزين الباحث والأكاديمي أ.د خالد بن ناجي، وذلك في حوار ماتع، ودردشة ثقافية لم تخل من الصراحة والشفافية، ليجيب على أسئلتنا مشكوراً وبكل رحابة صدر:
* ماذا تقرأ بطاقتكم الشخصية والأكاديمية؟
- اسمي خالد ناجي، أحمل شهادة الدكتوراه في الأدب والنقد العربي، وأنا أستاذ جامعي بدرجة بروفيسور، لطالما كانت حياتي حافلة بالأنشطة وكنت دائما لا أكتفي بخط أو نشاط واحد وإنما أنخرط بالأعمال الشعبوية المتنوعة، والمنظمات الجماهيرية المختلفة، وأحب العمل الخيري والعشائري، وأنتمي إلى أسرة مشيخة وأجدادي كانوا من الأغوات المكلفين من قبل العثمانيين بشؤون العشائر، وكانوا من الشخصيات البارزة في سامراء، كما كان لقسم منهم نشاط في محافظة ديالى، ويروى بأن ناحية كنعان قد سميت بذلك نسبة إلى جد جدي سليمان آغا وذلك على اسم عشيرته "ألبو كنعان" وهم جزء من عشيرة ألبو عباس، وينتمون إلى السادة الحسنية السوامرة، وأنا نقيب أشراف سامراء، ورئيس تجمع عشائر السادة الأشراف السوامرة في العراق، وقد شكلت تجمعات للسادة الحسينية - الحسنية التي تنتسب إلى سامراء، فالمواطن السامرلي يرتبط نسبا بإحدى العشائر الحسنية الحسينية في سامراء، وأنا أيضا مسؤول عن "منظمة حكماء العراق للعدالة الانتقالية" وهي منظمة كبيرة تضم نخبة مهمة من المثقفين والأكاديميين والوجهاء من كل أرجاء العراق، لتتولى مهمة توجيه المختصين والمسؤولين والمعنيين في مفاصل الدولة كافة وذلك من خلال برامج المنظمة وأنشطتها المختلفة والمكثفة القائمة على العلم والثقافة والمعرفة وبما يخدم البلاد والعباد.
* بصفتكم أحد الأكاديميين المعروفين ممن قطع شوطا وقضى شطرا كبيرا من حياته المهنية في سلك التعليم بين أروقة الجامعات الرصينة فبماذا تنصح طلبة الدراسات الأولية فضلا على طلبة الدراسات العليا فيما يتعلق بكتابة بحوث التخرج، ورسائل الماجستير، وأطاريح الدكتوراه، ولاسيما مع بروز ظاهرة تكرار مضامين وعناوين الكثير من البحوث المقدمة واستهلاكها على المستويين النظري والتطبيقي وبما لم يعد يرفد صروحنا الجامعية العريقة إلا لماما بكل ما هو جديد ونافع ليثري سوق العمل من جهة، وليلبي طموحات الباحث والمجتمع من جهة أخرى؟
- الحقيقة وبصفتي أستاذ وأكاديمي ومن خلال نصيحة أبوية أقدمها إلى طلاب الدراسات الأولية والعليا بشأن كيفية اختيارهم للمواضيع، أقول نعم هناك نوع من التكرار والاجترار لموضوعات ربما كتب فيها سابقا أو إنها ليست ذات أهمية ولا تقدم شيئا ذا بال للمجتمع، ولطالما نصحت طلابي وعلمتهم من خلال مناهج البحث وتحقيق النصوص في الدراسات العليا وأخص منهم طلاب العلوم الإسلامية والأدب والنقد العربي ولفت انتباههم إلى أن واحدة من مشاكلهم هي عدم مقدرتهم على اختيار الموضوعات وكنت أسترعي انتباههم إلى أن هذه الموضوعات يفضل أن تكون نابعة من حاجة المجتمع لتمر أشبه ما يكون بدائرتين، أولهما دائرة كبيرة معنية بالاهتمام العام، وثانيهما دائرة أصغر تتمثل بالاهتمام الدقيق والمركز، بمعنى أن البحوث يجب أن تحيط علما بمشاكل المجتمع بشكل عام، ومن ثم نأتي بعد ذلك لنناقش واحدة من المشاكل التي لها مساس بحياتنا، وأنا أفضل أن يكتب الطالب عما يخص حاجة المجتمع ومن ثم يختار الحقل الذي له المساس بمفردات حياته من بينها ليثير التساؤل البحثي بغية الإجابة عنه، ومن المهم جدا أن نربط العلم بالحياة، والدين بالحياة، فهناك الكثير من المسائل والتساؤلات الكبرى التي تحتاج إلى بحث لنصل إلى مقترباتها أو إلى حوافها على أقل تقدير حتى لو ظل جزءا من بعض تلكم التساؤلات قائما لتنير الإجابات أمامنا الدرب، ولا بد من اختيار عناوين ومضامين تتماهى مع تسارع عجلة الحياة التي يتجدد الكثير من حيثياتها ومفاصلها كل يوم وبشكل مطرد لتغطيتها والإجابة على تساؤلات المجتمع الملحة حيالها.
* كثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة الجامعات والكليات والمعاهد الأهلية فهل تعدونها ومن وجهة نظركم ظاهرة صحية معتمدة ومعمول بها في كل دول العالم، أم أنها ظاهرة سلبية ودخيلة ستؤثر بشكل أو بآخر على جودة التعليم العالي ورصانته مستقبلا في العراق؟
- أما ما يخص سؤالك عن الكليات الأهلية، فأنا وبصراحة ممن يعارضونها، وأجد بأن يكون النشاط والعلم والتربية حكرا على الدولة وهذه هي وجهة نظري، ففلسفتي في الحياة هي أن أي شيء يدخل في حيز الربح المادي فإنه سيفقد كثيرا من بريقه ومحتواه الذي وجد من أجله، فعندما تتحول المؤسسة التربوية أو التعليمية إلى مصدر للربح فإنها ستفقد حتما جانبا من أصالتها لصالح المال، ودائما ما يكون رأس المال على استعداد لخسارة الكثير من الأشياء باستثناء المال، وإذا ما خير بين فقدان شيء من الرصانة مقابل عدم خسارة جزء من الأرباح فقطعا سيكون منحازا إلى أرباحه على حساب الرصانة، وهذا بالفعل ما نجده في الكليات الأهلية لأن المعادلة قد أصبحت ربحية، ولا بد من الرجوع إلى الكليات الحكومية لنعتني بها ونوليها اهتماما كبيرا وبما يضمن عودتها إلى رصانتها مشفوعة بارتقاء العراق واسترجاع مكانته العلمية المعهودة، فالكليات الأهلية قد أثرت كثيرا على رصانة التعليم وصنعت لنا جيلا يعتقد بأنه وبدفع المال فإنه يشتري شهادته وهذا واقعا ما يحصل، ولا أعمم ذلك بطبيعة الحال، ولكن أقول على الأرجح وبما أسفر عن تخرج الآلاف من الطلبة ممن لا يمتلكون المؤهلات العلمية الكافية.
* من أنواع التعليم التي برزت مؤخرا ما يعرف بالتعليم المدمج كنوع من أنواع التعليم التي تزاوج بين الصفي - الحضوري - والتعليم الإلكتروني عن بعد، ترى ما هو رأيكم بهذا النوع من التعليم، وهل ترون في استمراره وانتهاجه فائدة من شأنها الارتقاء بالتعليم العالي إلى أفق أرحب لمواكبة التطورات العلمية العالمية؟
- بالنسبة إلى التعليم المدمج فهذا كانت له ظروفه الخاصة ولكننا والحق يقال قد استفدنا منه، وأنا حاليا ألجأ إلى استخدامه أحيانا نتيجة العطل الكثيرة، أو بسب الغيابات الاضطرارية، وتوقف الدوام لأسباب عديدة خارجة عن إرادتنا، وبما يؤثر على طلبة الدراسات العليا على وجه الخصوص فأضطر إلى تعويضهم بالتعليم المدمج عندما تكون هناك عطلة رسمية، أو إجازة، أو لوجود عائق ما نتيجة الظروف الجوية ونحوها ولكن وبخبرتي المتراكمة فإن التعليم الوجاهي المباشر مهم جدا وبما يضمن التواصل الإنساني بين الأستاذ وطلبته، وألفت إلى أن وقوف الأستاذ أمام طلبته وبالأخص طلبة الدراسات العليا داخل قاعة المحاضرة يساعد كثيرا على تداعي الأفكار، وعلى العصف الذهني وبما يستدعي أفكارا لم تكن في خلد التدريسي للحديث عنها على النقيض من التعليم المدمج، فوظيفتي كأستاذ جامعي تتمحور حول تحويل الطلبة من أناس يستهلكون العلم إلى أناس ينتجون علما، وتأسيسا عليه فلا بد من تشجيع الحوار الإنساني الصفي المباشر بين الأستاذ وطلبته وبما يجعل المحاضرة ثرية ودسمة مع الاستفراد بأشياء ما كانت تخطر على بال الأستاذ ولا تطرق ذهنه بغيرها، بخلاف المحاضرة الافتراضية التي تفتقر إلى هذا التفاعل المتأتي من اللقاء المباشر وجها لوجه بين الطرفين، وفي عالم الفن والدراما يقولون بأن المسرح هو أبو الفنون لوجود هذا التفاعل وجاهيا بين الممثلين على خشبة المسرح وبين الجمهور الجالس أمامهم، وهي علاقة مبنية على الفعل ورد الفعل المباشر الذي يحفز على مزيد من الإبداع والتألق ولهذا تجد أن الفنان المسرحي فنان فعال بإمكانه الالتزام بالنص أو الخروج عليه أحيانا بل وإضافة شيء جديد إلى ما هو مكتوب في النص كذلك، وهذا هو عين ما يحدث في المحاضرات داخل قاعات الدرس وبما يجعلها أكثر فاعلية وأكبر تأثيرا وأشد نضجا بخلاف المحاضرات الافتراضية المفتقرة لكل هذا التفاعل المطلوب.
* التعليم والامتحان الإلكتروني عن بعد نوع من أنواع التعليم الملجئة التي فرضتها ظروف حظر التجوال والحجر الصحي ولاسيما عقب انتشار وباء كورونا المستجد للحيلولة من دون انتشار الجائحة آنذاك، إلا أن لهذا النوع من التعليم وكما تعلمون وبرغم محاسنه إلى حد ما، بعض التبعات، فما هو رأيكم بالتعليم والامتحان عن بعد، هل تؤيدون استمراره في المستقبل المنظور، أم الحد منه، أم إيقافه كليا؟
- سبق وأن قلت في الإجابة السابقة بأن التعليم المدمج مطلوب لأسباب موضوعية، ولظروف ملجئة طارئة، ولكنه لن يصل بأي حال من الأحوال إلى مستوى النضج والتفاعل الصفي والحضوري المطلوب، ومن الضروري اعتماده في الحالات الاضطرارية الطارئة ولكن وعندما يزول هذا الاضطرار فلا بد من العودة إلى الوضع الطبيعي المتمثل بالتعليم الحضوري، أما بشأن الاعتماد على التعليم والامتحان الإلكتروني عن بعد فهذا لا أحبذه، لأنه أشبه بالامتحان الآلي المفتقر إلى الإبداع، مع غياب المجال الكافي للتواصل الإنساني بين الأستاذ وطلبته بطريقة الحوار المباشر، والأخذ والرد، وتداعي الأفكار، وتبادل النقاش، وإثارة التساؤلات وبما يحفز الطلبة على مزيد من النشاط والحيوية والإبداع، وبالتالي ولجملة هذه الأسباب مجتمعة وباختصار فأنا لست مع التعليم المفتوح عن بعد، الامتحان عن بعد ممكن، أما التعليم عن بعد فلا أؤيده لأنه يضعف الرسالة المرجوة، أسوة بالأهداف المتوخاة من التعليم العالي.
* يسأل كثيرون سؤالا حائرا يتردد مرارا وتكرارا، أين مسرحنا الجامعي، بل وأين رياضتنا الجامعية، ومعلوم بأن 80 في المئة من المسرحيين الموهوبين الجادين كذلك الحال مع الأبطال الأولمبيين ممن يرفعون اسم وأعلام بلادهم عاليا، ويحرزون الميداليات الملونة في البطولات الأولمبية، هم من طلبة أو من خريجي الجامعات، ولاشك بأن تراجع الرياضة الجامعية محليا هو السبب في حصول العراق على ميدالية أولمبية وحيدة وفريدة على مدار 64 عاما مسجلة باسم الرباع العراقي عبدالواحد عزيز، حصل عليها في أولمبياد روما عام 1960 مع أن العراق كان قد بدأ مشواره في البطولات الأولمبية فعليا منذ عام 1948 في دورة لندن الأولمبية؟!
- الحقيقة وقبل الإجابة على هذا السؤال، دعنا نسأل سؤالا أكبر منه قد أحالنا إليه سؤالك الآنف، أين درس النشيد في المراحل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية؟ أين درس الرسم؟ أين درس الاقتصاد المنزلي؟ أين درس الموسيقى؟ أين درس الإنشاء؟ ومن ثم لاحقا وفي المرحلة الجامعية، أين المسرح؟ أين الفنون التشكيلية؟ أين المرسم؟ أين ورش الخزف والسيراميك؟ أين مختبر التصوير الفوتوغرافي؟ أنا خريج الجامعة المستنصرية وكنت وهذا ما لم أتحدث عنه بمعرض إجابتي على سؤالك الأول، ودوري في تأسيس المركز الثقافي والاجتماعي في الجامعة المستنصرية وكنت أول رئيس لمجلس إدارته وكان المركز يضم كل هذه الأنشطة وكان هناك سينما جامعية، ومسرح جامعي بطواقمه كافة وقد قدم العديد من العروض المسرحية المهمة، بل وشكلنا فرقا جامعية أيضا فيما أشرفنا على أخرى ومنها فرقة فرح، والفرقة الخليجية، وفرقة دانا، وكنا نتعاون معها في حقبة الثمانينات، وكانت فرقة الجوهرة الخليجية البصرية تقدم استعراضات على مستوى عال لفن الخشابة الفلكلوري، وكان لدينا في الجامعة ورشة للرسم والخزف والسيراميك وكان عندنا فرق موسيقية إضافة إلى المعارض الشخصية، والحقيقة أن المسألة أكبر من حصرها بالموهبة فحسب، وهذا هو رأيي على الدوم بأنه وإذا ما أردنا أن نخرج بجيل وسطي لا يعرف التطرف فعلينا أن نهتم بتشذيب هذا الجيل، وأن نعلمه ونجعله ميالا وذواقا إلى الفنون المسرحية والتشكيلية والموسيقية الجادة فالشخصية ذات الحس المرهف، المتذوقة للثقافات الهادفة مع تنوع الاهتمامات النافعة، مثل هذه الشخصية لن تكون متطرفة، وأعتقد والاعتقاد هو قمة الإيمان بالحقيقة بأننا وإذا اهتممنا بالفنون والثقافة والمسرح والرسم وكل الأنشطة التي لم نعد نهتم بها زيادة على الرياضة والفرق الرياضية، والعودة إلى مسابقات ومنافسات مديريات التربية فإننا سنصنع بذلك جيلا لا يعرف التطرف وهذه وسيلة مهمة جدا لتحقيق الغاية النبيلة المرجوة.
وأضيف بأن لدي مشكلة دائمة مع طلبة الدراسات العليا، متمثلة بقدرتهم على استيعاب الفكرة وتلقيها، إلا أنهم غير قادرين للتعبير عنها بمعنى أنهم لا يستطيعون أن يجدوا وعاء لغويا لوضع الفكرة فيها، مع افتقار الطالب للقدرة على التعبير وأسلوب الكتابة وهذا كله بسبب إهمالنا لدرس الإنشاء، وأذكر بأنني خريج إعدادية الحلة للبنين وهي إعدادية عريقة خرَّجَت شعراء ومثقفين يشار لهم بالبنان أمثال سعيد حميد، والشاعر موفق محمد، وكان يدرسنا اللغة العربية وهو الذي حببني بالأدب العربي وجعلني أتوجه لدراسته جامعيا لأتخصص فيه، وكان درس الإنشاء وقتها من أهم الدروس وأحبها إلى قلوبنا، وكنت في هذه الفترة أكتب القصة القصيرة وقد فزت بالمركز الأول بفن القصة القصيرة على مستوى التربية، يوم كانت الإعدادية حتى على مستوى العلوم الصرفة تضم مختبرات علمية للفيزياء والكيمياء وعلوم الإحياء، وبما تفتقر إليه جامعاتنا حاليا، ومؤكد بأنني مع عودة جامعاتنا إلى الأنشطة الفكرية والثقافية والعلمية والفنية المتنوعة لنصنع جيلا واعيا ومثقفا يمتلك حسا مرهفا ويتذوق الجماليات يؤمن بحرية التعبير وبالرأي والرأي الآخر بعيدا عن التطرف وذلك لدفع خطاب الكراهية وكبح جماحه، هذا الخطاب وللأسف الشديد موجود وعلى مستوى عال في مجتمعنا اليوم.
* حكمة تؤمن بها؟
- "رأس الحكمة مخافة الله" فالإنسان وعندما يخاف الله تعالى، فإن أمره سيستقيم كله، ومثل هذا الإنسان المستقيم لا يمكن أن يبدر منه ما يؤذي أو يعيب لا بحق نفسه ولا بحق من حوله ولا تجاه وطنه، فالأساس هو أن نخاف الله سبحانه وتعالى، وأن نرتقي بأخلاقنا لكي يرانا حيث أمرنا، ولا يرانا حيث نهانا وهذه مسألة مهمة جدا، فعندما تخاف الله تعالى فلن يخاف الناس منك، والمثل الشعبي الدارج يقول "اللي يخاف الله، لا تخاف منه" وبالفعل وعندما يضع الإنسان مرضات الله نصب عينيه فلن يفعل ما يؤذي إطلاقا، ولقد علمت أولادي على ذلك وأقول لهم بأن كل أمر تريدون الإقدام عليه أو تشرعون به، ضعوه على ميزان الله سبحانه وتعالى فإذا استقام مع ما أراده الله تعالى منكم فتوكلوا على الله، وأما إذا لمستم منه تقاطعا ظاهرا أو ما يشوبه ويعتريه شيء من الشك فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، والحلال بين، والحرام بين، فاستقيموا وإذا استقمتم فسينير الله بصائركم.
* شخص تدين له بالفضل لكل ما وصلت إليه؟
- قطعا وبدون أدنى تفكير أنا أدين بالفضل إلى رسول الله ﷺ، لأنه أسوتنا الحسنة، وهذا ليس كلام شخص يزعم أو يدعي ذلك لكي يقال عنه بأنه إنسان متدين فأنا أؤمن ليس إيمانا دينيا فقط، وإنما إيمانا موضوعيا أيضا بشخصية النبي وأنا معجب بشخصيته بقدسيتها وبسلوكها الدنيوي، بشخصيته العقائدية والفكرية، لأن النبي كانت شخصيته على شقين، الشق الديني، والشق الدنيوي، وكان يتصرف كقائد وكإنسان بطريقة أنا معجب بها جدا حتى على مستوى تعامله داخل أسرته ولذلك أنا درَّست مادة فقه السيرة لطلبة العلوم الإسلامية وتعمقت كثيرا بشخصية النبي وأعجبت بها أيما إعجاب على المستوى الشخصي، وحتى لو أردت كباحث وأكاديمي أن أتعامل مع شخصية النبي بمعزل عن نبوته وإن كان ذلك الأمر صعبا، فهو شخص خارق للعادة لا تستطيع إلا أن تحبه وتعجب به نتيجة مواقفه وحكمته وكثير من مواقفه السياسية وبما هو حري بأن يدرس في أرقى الأكاديميات العالمية، وأنا بصدد تأليف كتاب حول فكر العدالة الانتقالية وهو مفهوم سياسي وقانوني حديث جدا وكان النبي رائدا من رواد العدالة الانتقالية، وهذا موضوع جميل جدا يتناول كيف كان ﷺ ينظر إلى التحولات الكبرى التي حصلت بين جاهلية العرب وإسلامهم، وكيف تعامل مع هذه العدالة الانتقالية بفكر متطور جدا، ولهذا كله وزيادة فقد أعجبت بشخص النبي بشقيها الإنساني والرسالي على سواء.
بعد ذلك أنا أدين لنفسي بالفضل وقد لا يبدو الأمر غريبا، فتركيبتي النفسية قد ساعدتني في ذلك كثيرا، فأنا في حالة تصالح غير طبيعي مع الذات لكوني لا أعرف الكراهية، لا أعرف البغضاء، لا أعرف الحقد على أحد، وقد حرصت على الدوام لأن أتوازن في حياتي كلها، وهذا يعود إلى إيماني بقدر الله سبحانه وتعالى، ولا شيء يستحق الكراهية، أو أن تسود حياتك بالسواد والظلمة والحقد، بل أن تمضي في حياتك قدما إلى أمام، ولا تلفت إلى الوراء، ولا تندم على شيء كنت قد أقدمت عليه في حينه وفي ظرفه وبما أسقط عليك بعض المعطيات التي جعلتك تأخذ قرارا فيه فلا تندم عليه، ولا يجوز أن تحاكم حاضرا بمعطيات الماضي، فهذا أمر صعب جدا، وقد استفدت من ذلك في التعاطي مع التاريخ، وتعلمت بأن لا أحاكم قرارات وأنشطة ووقائع معينة حدثت في التاريخ بمعطياتنا الحالية، ولا كيف اتخذ الحاكم أو الأمة قرارها في حينه فهذا من الناحية المنهجية لا يجوز، وهذا هو عين ما أتعامل به مع نفسي وبالتالي فأنا أدين لهذه الخاصية التي زرعت في صدري فطرة، أو توفيقا من الله عز وجل ما جعلني دائم البحث عن الحقيقة وتطوير الذات وكل من حولي ولا آخذ الأمور على عواهنها، حتى في بعض الثوابت الفكرية والثقافية والمجتمعية والعشائرية لأن القدسية لم تأتها لذاتها، وإنما لمن صنعها، حيث كانت هناك وعلى الدوام مؤسسات تحاول أن تثبت بأن هناك ثوابت هي بالأساس ليست ثوابت دينية، وإنما أريد لها ذلك لسبب ما قد يكون سياسيا أو مؤسساتيا، ومع جرأتي في الطروحات إلا أنني لست حادا فيها وأحاول أن أعبر عنها وأناقشها من دون حواف مدببة أو جارحة كي لا ترتد عليَّ هجوما من قبل مؤسسات تقليدية بسببها وأحاول دائما قراءة الواقع قراءة موضوعية مع إعادة النظر في كثير من الخطاب الديني وبعض الآراء التي أريد لها أن تكون ثوابت وهي ليست كذلك، ما جعلني في ومهدنة مع الذات لأن الأشياء بمقاصدها وبما أن قصدك هو إرضاء الله تعالى ونفع الناس فلا تتردد بالإقدام على قضايا بحثية بغية الوصول إلى الحقيقة والعمل على تجليتها ونصاعتها وإماطة اللثام عن بعض ما طمس من قبل جهات متطرفة أحادية لا تمثل ضمير الأمة.
* ماذا تشكل المرأة في حياتك، وأنت القائل مع "الزن" وشعارات "تمكين" المرأة اختلت قناعاتها وتم التلاعب بـ"إعدادات فكرها حتى صار هدفها - الذي سيقت إليه سوقا – هو تقويض المواضعة التاريخية التي حكمت العلاقة بين الرجل والمرأة منذ خلقت حواء فكيف تنظرون إلى المشاريع النسوية والتغريبية التي تسعى إلى إحداث خلل بالمنظومة القيمية والمجتمعية، العربية منها عامة، والعراقية خاصة؟
- مؤكد أنني أحب المرأة وأقدرها وأحترمها كثيرا وأؤمن بالتكامل بين الرجل والمرأة ولكن بعيدا عن محاولات المجاميع النسوية، والفكر النسوي الحثيثة لتحويل هذا التكامل إلى حالة من الصراع وهذا غير صحيح إطلاقا هذا أولا، أما ثانيا فهو كيف تكون المرأة مقتنعة بأنها متكاملة ومتعاونة مع الرجل ومؤمنة بوظيفتها في هذه الحياة، ومن ثم نصل وكما حصل في غضون العقود الأخيرة من عدم اقتناع المرأة بواقعها أو بما كانت عليه، فهناك من يتلاعب بفكرها ليوهمها بأن هذا الواقع الذي تعيشه والذي تربت عليه وتوارثته واقتنعت به هو واقع غير جميل لتدخل في صراع مع الرجل وبما لا ينفع البتة، فهناك ثمة سوء فهم كبير بين التساوي الإنساني بين الرجل والمرأة، وما بين الفروقات الوظيفية بينهما لتتحول إلى مزاحمة الرجل على وظيفته بذريعة التساوي معه، وهذا غير صحيح، وذلك لاختلاف الطبيعة البيولوجية والسيكولوجية بينهما، وبكل تأكيد عندما تترك المرأة مسؤولياتها لتبحث عن مسؤوليات الرجل لتزاحمه عليها فإنها ولاشك ستقصر في واجباتها مع أن الرجل مكتف بذاته ولا يحتاج إلى من يزاحمه، وكذلك هي المرأة مكتفية بذاتها وليست بحاجة إلى مزاحمة الرجال في مسؤولياتها، ولاغرو أنه وعندما يترك أحدهما مسؤولياته ومكانه ويغادر مقعده ليجلس في مقعد الآخر فإن مقعده سيكون شاغرا ما يؤدي إلى مشاكل لا تحمد عقباها، فالمرأة تساوي الرجل إنسانيا ولكنها لا تتساوى معه وظيفيا، ولا بد من إفهامهما "الرجل والمرأة" بأن لكل منهما وظيفته في هذه الحياة والتي من شأنها أن تكمل وظيفة الآخر ولا تتقاطع معه، فيما نلاحظ بأن المرأة صارت تترك حيزها لتدخل حيز الرجل بغية منافسته ما أسفر عن التقصير في تربية الأبناء، زيادة على التزاحم على إدارة دفة القيادة داخل الأسرة الواحدة، واختلال مبدأ القوامة وبما فاقم من حجم المشاكل بينهما ولا بد من التثقيف في هذا الجانب لتحقيق التوازن في المجتمع، ولاشك أن محاولة إسقاط ثقافات مجتمعات أخرى على مجتمعنا تمثل مشكلة حقيقية وذلك من خلال عولمة لا تؤمن بخصوصيات المجتمعات ومن المعلوم بداهة بأن الثقافات الإنسانية غير متشابهة وكذلك الأعراف والتقاليد والتركيبة الإنسانية والثقافية والمجتمعية والعرفية، فضلا على البنية التاريخية فكلها مختلفة ومتباينة بين مجتمع وآخر، ودعني أعطي مثالا أؤمن به ولطالما كررته دائما وكتبت فيه وعبرت عنه في مقالات عدة "هل نصلح نحن في قضية الاقتراع الفردي السري القائم على اختيار الأفراد في الانتخابات لممثلين في البرلمانات، وهذه لا تناسب مجتمعاتنا المحافظة لكونها قائمة على المرجعيات وعلى المثل العليا وعلى القدوة، وهل يستوي المثقفون مع غير المثقفين، صوت هذا لا يساوي ذاك، وهذا إسقاط غربي علينا، ولأن مجتمعاتنا تقوم على أساس الشورى، وأهل الحل والعقد، فلا بد من إعادة النظر في ذلك ومحاولة اجتراح شيء في مجتمعاتنا وخلق نوع من الحراك الثقافي والنخبوي لكي نصل إلى أنموذج انتخابي ديمقراطي مختلف تماما عن فكرة الانتخابات الحالية، ولذلك نرى بأن الممالك مستقرة أكثر من الجمهوريات، لأن الملكيات تشبه مجتمعاتنا القائمة على أسس عشائرية، فالملكية نظام يصلح للمجتمعات العشائرية قائم على النخبوية والتنكوقراط، لينتقي بموجبه الملك الرمز أهل الحل والعقد، ومجلس الأعيان، وهذا هو نموذج قريب من المجتمع الإسلامي في بواكيره، فالنخبة الصالحة لقيادة الأمة كانت تتقدم على البقية ليس لمرتبتها الدينية، وإنما لميزاتها وكفاءتها الإدارية والتكنوقراطية.
* هل هناك ثمة مقترحات تودون طرحها وتقديمها على طاولة البحث والمناقشة وبالأخص خلال المؤتمرات والندوات العلمية المقبلة لفتح آفاق التعاون المشترك بين الجامعات والمؤسسات الثقافية العربية والإقليمية المناظرة فيما يتعلق بالتنسيق لعضوية اللجان العلمية والتنفيذية، تفعيل فرص التدريب والتطوير المهني، أولوية نشر البحوث في المجلات الفصلية والدورية المحكمة، إنتاج برامج (إذاعية / رقمية / تلفزيونية) مشتركة وممولة تتناول الصروح الآثارية، المعالم التراثية، علاوة على سيرة ومسيرة أبرز الشخصيات الأكاديمية والفكرية ماضيا وحاضرا، زيادة على تناول أهم السمات الثقافية والفلكلورية في عامة الدول العربية والإسلامية؟
- نحن بالفعل بحاجة إلى أن نعود أمة واحدة ونفسح المجال للأجواء المناسبة وإعادة الألق للفكر العروبي مع محاولة النهوض بالثقافة العربية والإسلامية وهذا لا يحصل من دون تكامل بين البلدان ولذلك فمن المهم جدا أن نعالج مشاكلنا بطريقة تبادلية وتكاملية ولاسيما وقد اتضح لنا في السنوات الماضية بأن معظم مشاكلنا واحدة، وطريقة تفكيرنا داخل المجتمعات العربية متقاربة جدا، كذلك ما نتعرض له من هجمات كلها متقاربة، فأمننا الثقافي واحد، وأمننا المجتمعي واحد، وأمننا القومي واحد، والهجمة على هويتنا، وثقافتنا، وديننا، وثوابتنا، وتاريخنا العريق، ولغتنا العربية واحدة، ولكأننا بالشعوبية الجديدة وقد صارت بمثابة امتداد للشعوبية القديمة التي ظهرت في العصر العباسي، ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى تمتين علاقاتنا، وتفعيل أخوتنا، وبحاجة إلى أن نرص صفوفنا ونتوحد مجددا، لنحافظ على وشيجة واحدة تجمعنا ولكي نحقق النتائج المرجوة من هذا التوحد، ولا ريب بأن على عاتق النخب تقع المسؤولية الكبرى لإيصال هذا المعنى، علاوة على تفعيل العلاقات بين العرب والشعوب الإسلامية الأخرى، فهناك تشويه للعلاقات العربية على مر عقود مع نظيراتها الإسلامية، ولا بد من تذليل العقبات ومد الجسور وخلق علاقة أكثر اريحية وأشد انسجاما وإعادة اللحمة مجددا بين العرب والكرد، العرب والأمازيغ، العرب والأفارقة، العرب وبعض النزعات القطرية، وكذلك هو الحال مع سائر الشعوب التي عاشت معنا، وعلى المراكز البحثية القيام بذلك، وبذل المزيد من الجهود الحثيثة في هذا الاتجاه.
* كلمة أخيرة تودون قولها قبل الختام
- أنا أدعو إلى التفكير، إذ يتحتم علينا الخروج من جمود التلقي، وعلى أمتنا أن تستعد لأن تفكر وأن تسمع صدى صوتها، ويجب أن يكون هناك نوع من الحوار وعدم تغييب الرأي الآخر، وبرأيي أن هذا من شأنه أن يخلصنا من مشاكل كثيرة، فهذه التابوهات التي خُلقت فكريا وثقافيا وعرفيا يجب أن تنتهي ويجب أن نميز ما بين الثوابت العقدية، وما يخص الناس والأعراف والعلاقات العامة وغيرها كثير وكلها يجب أن تكون متاحة للحوار والنقاش والنتاج الفكري المعمق، فنحن لا نفكر بقدر ما نستنسخ حتى في الآراء الفقهية التي استجد منها الكثير فيما نقف نحن عاجزين لنتفرج عليها من دون القدرة على إنتاج فقه واقعي لكوننا لا نجد لها نظائر في الفقه القديم، وعندما نتوقف عن تقدير حاجات الناس الملحة المبتدعة والجديدة فسيتحرك حينها العرف، والعرف قد لا يكون مسيطرا عليه، وقد لا يكون موافقا لمقاصد الشريعة، وقد لا يكون بالمحتوى الإنساني الكافي.