"خطايا مقصودة" جراح سيطول نزيفها

عبدالله السلايمة دأب على التنقيب في الجانب المؤلم من ذاكرة "السيناويين"، راصدًا في مختلف أعماله القصصية والروائية إشكالية العلاقة بين الدولة وأبناء سيناء.
يوسف (الشخصية المحورية) في الرواية، شاب وُلد وعاش وتلقى مراحل تعليمه ما قبل الجامعى في سيناء أثناء فترة الاحتلال الإسرائيلي
السلايمة حالفه التوفيق في اختياره "خطايا مقصودة" كعنوان، أو كعتبة أولى لروايته

باستثناء روايته الأولى "بركان الصمت" دأب الروائي عبدالله السلايمة على التنقيب في الجانب المؤلم من ذاكرة "السيناويين"، راصدًا في مختلف أعماله القصصية والروائية إشكالية العلاقة بين الدولة وأبناء سيناء، وفي روايته الأخيرة "خطايا مقصودة" الصادرة  مؤخرًا عن دار "الإسلام للنشر" لا يشذُّ عن هذه القاعدة، فمن خلال قصة شخصيتها المحورية "يوسف" يصوّر تلك الإشكالية، وما نتج عنها من سوء فهم لا يزال قائمًا بين الطرفين.
تدور أحداث الرواية في سيناء، وتحديدًا في مدينة "العريش" حيث لجأ إليها بعض أهالي "رفح"، فرارًا من الحرب الدائرة بين الدولة والجماعات الإرهابية، من بينهم "يوسف" (الشخصية المحورية) في الرواية، وهو شاب وُلد وعاش وتلقى مراحل تعليمه ما قبل الجامعى في سيناء أثناء فترة الاحتلال الإسرائيلي، عاش خلال هذه الفترة آلام بدأت بفقدانه المبكر لأمه قبل بلوغ الثالثة من عمره، وعيشه مرارة اليُتم، كذلك معايشته فترة إجبار الإحتلال الإسرائيلي لبعض أهل سيناء على الرحيل من ديارهم عقب نكسة 1967.
وزادت الآلام من شوق «يوسف» وشغفه لرؤية دولته «مصر»، والإلتحاق بالجامعة، وعندما يحدث ويلتحق بكلية الحقوق بالقاهرة نزولاً على رغبة أبيه (ليناضل من أجل استرداد حقوقهم التى تحرمهم الدولة من الحصول عليها) يصطدم بأمور عدة تجعله يُعيد حساباته ويراجع مفاهيمه حول مفهوم الدولة والوطن والحياة بشكل عام.
ومع تنامي الأحداث يعيش فترة قيام الثورة وما تلاها من أحداث وفوضى، ويلاقي مع ذويه معاملة أسوأ وأقسى من الدولة، حيث يتم التعامل مع أهل سيناء كإرهابيين، ويتم قتل واعتقال وتشريد الكثير منهم، ما زاد من اتساع الفجوة بينهم وبين السُلطة، وليس الوطن، وتنتهي الرواية بمقتل "يوسف" إثر تعرضه لقذيفة أودت بحياته.

رواية "خطايا مقصودة" للروائى عبدالله السلايمة امتداداً لمشروعه الإبداعى عن سيناء، وفضلاً عن كونها تكشف عن وقائع/ جراح لا تزال تنزف، وسوف تظل تتقيّح لوقت طويل، إلا إنها توضح للقارىء صورة سيناء الحقيقية، وتكشف له عن وجهها الآخر الإيجابى الإبداع

ومن شخصيات الرواية أيضًا هناك شخصية «صابر» والد يوسف، وهو كما هو حال أهل سيناء عاش مهمشًا فى مختلف مراحل عمره، وتعرّض أثناء فترة الإحتلال الإسرائيلي للسجن، ومن ثم للتعذيب بسبب رفضه العَمَالة مع المحتل الإسرائيلي وخيانة وطنه مصر، لكنه بعد الثورة يلقى حتفه برصاصة طائشة، وهناك شخصيات ثانوية أخرى أعطى الكاتب لكل منها دورها وحيزها المناسبين.
توكل مهمة نجاح الكاتب الأولى في إثارة فضول القارئ واستجابته بالإقبال على العمل، أو النفور منه واستهجانه، في مهارته وخبرته في اختيار عنوان عمله الإبداعي، وأعتقد أن الكاتب عبدالله السلايمة قد حالفه التوفيق في اختياره "خطايا مقصودة" كعنوان، أو كعتبة أولى لروايته. 
وكون العنوان هو مرآة النسيج النصي، وهو الدافع للقُرّاء، وهو الشرك الذي يُنصب لاقتناص المُتلقي، من الأهمية قبل الولوج إلى عالم رواية "خطايا مقصودة" التوقف أمام العنوان الذي اختاره السلايمة باعتباره مفتاحًا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي، بحيث لا يمكن للقارىء تفكيك بنيات النص الدلالية واستكشاف مدلولاته ومقاصده، دون امتلاك المفتاح، أي العنوان الذي يمنحنا النور اللازم للإضاءة على النص والكشف عن طبيعته.
"خطايا مقصودة" جملة اسمية مركبة جمعت بين دالين بليغين، أولهما: خطايا (جمع خطيئة، ومفردها: الخِطْءُ، ولغة يعني الذنب)، والجمع يفيد الكثرة، أي كثرة الذنوب، وما عظُم منها، ومفردة "خطايا" مشحونة بدلالاتي المخالفة، والإساءة المتعمدة التي تستلزم الصفح أو التعويض، وثانيهما: مقصودة، وفي القصد: إتيان الشيء، والقصد: هدف، غاية، نية، تعَمُدْ.
واجتماع إيحاءات خطايا، مع إيحاءات مقصودة يجعلنا نتساءل في حيرة عن سبب ارتكاب تلك الذنوب العظيمة عن عمد!، ولماذا؟!
اتسم طابع الرواية بالجدية فهي ترصد واقع "سيناء" المأساوي، ووقائع وأحداث تعبر عن تاريخ العلاقة الشائكة بين الدولة وأبناء سيناء، عالج الكاتب تلك القضية بمهارة قابضًا على خيوط الأحداث، ونجح في تسليط الضوء على مشاعر شخوصه وانفعالاتها وخوفها وغضبها، معتمدًا في ذلك لغة رصينة، وجملة سردية سلسة ورشيقة، وحوارًا اعتمد علي تصعيد الحدث وإظهار ما تخفي الشخصيات في داخلها كحوارات (فؤاد وموسى ـ كمال ومها ـ كمال وأمه، وسام ومها).

Egyptian novel

ولم يترك "يوسف" (الشخصية المحورية المثقفة) يستأثر بدوران الحدث حوله، بل أفسح المجال لـ (مها) كي تشاركها البطولة، وجاء بشخصيات ثانوية أخرى (ليلى، فؤاد، موسى، أم كمال، حليمة، فوزية) أعطى لكل واحدة منها حيزها المطلوب المعبّر عن حالها.
واستحضر من خلال "يوسف" تاريخ  تلك العلاقة بين الدولة وأبناء سيناء، تلك العلاقة/ الإشكالية التي يرد الكاتب سببها إلي تلك النظرة العوراء التي دأبت كافة الأنظمة التي تعاقبت على حُكم الدولة على النظر بها نحو أهل سيناء، ويراها ـ أي تلك النظرة العوراء  "مسألة ثقافية بحتة"، إذ يتبنى كل من الطرفين موقفًا ذهنيًا تجاه الآخر ويؤمن به، ويتقمص بجهل دور المدافع عن وجهة نظره، بغض النظر عن صحتها من عدمها، دون أن يكون لدى أحدهما الاستعداد لتفهم طبيعة وثقافة الآخر، وإن تاريخ العلاقة بين الطرفين، أثبت أن السُلطة أكثر تعنتًا في هذا الشأن، ولم تسع في يوم ما لإظهار حسن نيتها تجاه أبناء سيناء، ورغبتها في التوصل إلى حل حقيقي، يأخذ بعين الاعتبار حقوق وواجبات كل منهما تجاه الآخر".
ذلك هو السبب الرئيس في تعامل الدولة معهم بقسوة، متخذة من سعيها لتطهير ديارهم من الإرهاب حجة لقتلهم وتشريدهم، ومحو موطنهم الذين وُلدوا ونشأوا وعاشوا فيه، وتركهم يتدبرون أمر معيشتهم بمفردهم، وعلى نحو يزيد من إحساسهم بأنها ـ أي الدولة ـ تتعمد إذلالهم كعقاب جماعي على ذنب لم يرتكبه أكثرهم!
ويبقى القول: تأتى رواية "خطايا مقصودة" للروائى عبدالله السلايمة امتداداً لمشروعه الإبداعى عن سيناء، وفضلاً عن كونها تكشف عن وقائع/ جراح  لا تزال تنزف، وسوف تظل تتقيّح لوقت طويل، إلا إنها  توضح للقارىء صورة سيناء الحقيقية، وتكشف له عن وجهها الآخر الإيجابى الإبداعي.