دار الحفلات الموسيقية في برلين تدشن عهداً جديداً

قيادة إستثنائية جديدة بروحها وأسلوبها لكنها مخضرمة بتاريخها وخبرتها مع المايسترو الألماني الأسطورة كريستوف اشينباخ.
اشينباخ حَقّق أول نجاحاته وهو في العاشرة بفوزه بالجائزة الأولى في مسابقة شتاينواي في هامبورغ
عشاق الموسيقى في برلين بإنتظار ما سيكتشفه إشنباخ من خلال قيادته لأوركسترا دار الحفلات الموسيقية

تمتليء شوارع العاصمة اﻻلمانية برلين وجدرانها منذ أيام بملصقات دعائية عن حدث موسيقي إستثنائي يترقبه محبو الموسيقى الكلاسيكية فيها بشوق وشغف كبير، يتمثل ببدء دار الحفلات الموسيقية في ساحة الجندرمة ماركت التاريخية Konzerthaus am Gendarmenmarkt، التي تعتبر إحدى أبرز المعالم الحضارية للعاصمة برلين، معمارياً كبناء، وفنياً كأوركسترا، موسمها الجديد 2019 / 2020 الذي سينطلق في أغسطس/آب القادم، تحت قيادة إستثنائية، جديدة بروحها وأسلوبها، لكنها مخضرمة بتاريخها وخبرتها، وذلك مع قائدها الجديد المايسترو الألماني الأسطورة كريستوف اشينباخ، الذي ستُمثل قيادته لها خلال الفترة القادمة، وهو يتخطى عتبة الثمانين، منعطفاً استثنائياً في تاريخها، لما يمتلكه من خبرة طويلة وأسلوب مميز في القيادة، سينعكس بكل تأكيد على أدائها المستقبلي في عزف المقطوعات الموسيقية.
قامت إدارة الدار بتوقيع عقدها مع المايسترو اشينباخ في 20 يونيو/حزيران من العام الماضي، بحضور وزير ثقافة برلين كلاوس ليدرير، الذي قال بأن توقيع هذا العقد يعني حصول برلين على أحد أعظم قادة الأوركسترا في العالم، أما اشينباخ فقد قال بأنه كمايسترو سيعمل مع الأوركسترا على المَزج بين الكمال والتقاليد الموسيقية والتجديد. سيشغل اشينباخ هذا المنصب لثلاث سنوات، تسعى دار الحفلات الموسيقية للاحتفال معه خلالها بعيد ميلاده الثمانين في فبراير 2020 وبمرور 200 سنة على تأسيسها في 2021 أما أوركسترا الدار فقد تأسست عام 1952 باسم أوركسترا برلين السيمفوني (BSO) في الجزء الشرقي من مدينة برلين، وباتت مِن يومها الأوركسترا الرسمية للدار، وقد تم تغيير اسمها عام 2006، وأخذت تسمى منذ ذلك الحين بأوركسترا دار الحفلات الموسيقية Konzerthausorchester.
وُلِد المايسترو كريستوف اشينباخ في مدينة بريسلاو عام 1940، وكانت سنوات حياته الأولى عبارة عن رحلة من الآلام التي لم تفت مِن عَضد الطفل الصغير، الذي نشأ وكبر ليُصبِح أحد أبرز أساطين قيادة الفرق السيمفونية في العالم. فقد توفيت والدته، مُدرِّسة البيانو، عِند ولادته. أما والده هيربرت رينغمان، الذي كان عالماً موسيقياً، فقد توفي خلال الحرب العالمية الثانية، فبقي برعاية جدته، لكن الموت لم يمهلها حيث توفيت وهو في السادسة. حينها تعَهّدته ابنة عَم أمه فليدور إشنباخ، التي أخذ منها اسمه فيما بعد، بالرعاية، والتي شَكّل انتقاله للعيش معها بداية حياة جديدة، فقد انتبهت لموهبته الموسيقية التي بَدأت ملامحها تظهر بشكل مبكر لأنها كانت عازفة بيانو، وتعهدتها بالرعاية عبر إعطائه دروساً في العزف على البيانو. 
عن هذه الفترة يقول اشينباخ رداً على سؤال "كيف أنقذتك الموسيقى؟" ضمن لقاء مع قناة فرانس 24 في يونيو/حزيران 2019: "الموسيقى هي حدث حياتي، فقد كنت تائهاً بسببب ما مررت به وأثر بي من أمور فظيعة، وفقدت القدرة على الحديث والتعبير عن نفسي، وأمي التي تبنتني كانت عازفة بيانو، تعزف كل ليلة لساعات، وكان هذا أول عهدي بسماع الموسيقى، وهو ما أعطاني القوة للعيش من جديد".
حَقّق اشينباخ أول نجاحاته وهو في العاشرة بفوزه بالجائزة الأولى في مسابقة شتاينواي في هامبورغ، وبعد تخرجه من الثانوية بآخن، درس بالمعهد الموسيقي في كولن، ثم عاد إلى هامبورغ وانضم لكلية الموسيقى والمسرح، حيث درس على يد إليزا هانسن العزف على البيانو، وعلى يَد فيلهلم بروكنر روغبيرغ فن القيادة. وبرغم طفولته المأساوية، ينتقي اشينباخ كلمات عميقة ليَصف مشاعره وتعريفه لمفهوم البيت، فيقول في مقابلة مع صحيفة Hamburger Abendblatt في أغسطس/آب 2012: "مركزي.. ويقولها مشيراً إلى قلبه.. هو في داخلي، أنا أعيش هنا".

بعد إنهاء دراسته الموسيقية عام 1966 بدأ اشينباخ مسيرته كعازف بيانو، حتى بات أحد أبرز عازفيه في العالم. كَرّس نفسه أولاً لمُرافقة الأغاني وعَزف مقطوعات ما يُسَمّى بموسيقى الصالة، ثم قام بتأسيس فرقة لموسيقى الغرفة قدّم معها ومِن خلالها أعمالاً تنوّعت بين الباروك والموسيقى الحديثة، ثم تحَوّل إلى قيادة الأوركسترا بعد حصوله على شهادة في فن القيادة عام 1972، وبَدَأ مشواره فيها قائداً لأوركسترا صالة موسيقى زيورخ، ثم أوركسترا هيوستن، وأدار للفترة من عام 1999 إلى عام 2002 مهرجان موسيقى مقاطعة شليسفيش هولشتاين في شمال ألمانيا وقائداً لأوركسترا NDR في نفس الوقت تقريباً، ثم قائداً لأوركسترا فيلادلفيا وباريس، وأخيراً قائداً للأوركسترا السمفوني الوطني في مركز كينيدي بواشنطن، كما حلّ ضيفاً على أشهر صالات وقاعات الموسيقى في العالم لقيادة فرقها السمفونية كفيلهارموني برلين وفيينا ونيويورك ولندن وأوركسترا شيكاغو وطوكيو ودريسدن وميلانو. 
كعازف بيانو رَكّز شينباخ على موسيقى شوبرت وموزارت، أما كمايسترو فقد بَرع في قيادة حفلات الموسيقى السمفونية والأوبرالية على حد سَواء، كما سَاهم في تقديم عروض موسيقية لموسيقيين معاصرين.
كان من بين أساتذته ومُرشديه الذين أثّروا فيه كثيراً المايسترو الأسطورة هربرت فون كارايان وجورج زيل، كما لعِب هو أيضاً دور المُرِشد والمُوَجّه للكثير من الموسيقيين، أبرَزُهم عازف البيانو الصيني لانغ لانغ، وعازفة البيانو الألمانية جوليا فيشر. وكانت موهبته موضع تكريم عالمي متواصل، فقد حَصل عام 2002 على وسام صليب الجدارة الاتحادي من جمهورية ألمانيا الاتحادية، ثم جائزة ليونارد بيرنشتاين، بالإضافة الى جائزة غرامي عام 2014، تلَتها بعام جائزة إرنست فون سيمنز، التي تُعَد بمثابة جائزة نوبل للموسيقى، والتي نالها كعازف بيانو ومايسترو. 
وأخيراً تم تكريمه عام 2016 بجائزة بول هيندميث من مدينة هاناو. وعندما سُئِل عدة مرات عَن سَبب تَخَلّيه عَن صِفته كعازف بيانو وتحوله إلى قيادة الفرق السيمفونية كان جوابه على الدوام: "أجد بأن التواصل مع نفسي، وَحدي مع العمل، ليس كافياً، لأني أريد أن أعيش وأصنع الموسيقى مع الناس، هكذا حصل الأمر".
قد لا يكون كريستوف اشينباخ عظيم بفن الخطابة، وإن كان ذكياً في إختيار مفرداته وتوصيفاته، لكنه بكل تأكيد عظيم بحضوره وأدائه كمايسترو، وهو عادة ما يثير إعجاب المُقابل بهالته الرهبانية، التي تضفي عليه مع زيّه الأسود وقاراً وجاذبية. 
قال مرة في مقابلة مع مجلة Stern في فبراير/شباط 2015: "سأبقى راغباً في قيادة الفرق الموسيقية حتى عندما أبلغ من العمر 100 عام، لأني قد أكتشف في سن الـ 99 ما لم أكتشفه حتى الآن". لذا فعشاق الموسيقى من سكان برلين في إنتظار ما سيكتشفه إشنباخ من خلال قيادته لأوركسترا دار الحفلات الموسيقية ومعها، وما سيضيفه لها من رؤيته العميقة وخبرته الغزيرة، التي نضجت وتراكمت على مدى سنين طوال من المثابرة والجهد والنجاح المتواصل، وجعلته أسطورة ومثالاً يحتذى في فن قيادة الفرق الموسيقية ورائداً من روادها في العالم على مدى قرنين.