دراسة: على صانعي السياسات تعزيز التأهب للأزمات الاقتصادية

'لماذا تتصاعد الأزمات المزمنة في الاقتصاد العالمي؟' دراسة تناقش مظاهر الأزمات المتتالية والمتداخلة والمتعددة التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة ولا يزال يكابد تبعاتها.

عاصفة من الأزمات الاقتصادية يشهدها العالم تتسع وتتمدد شرقا وغربا ملقية بظلال قاتمة على حياة البشر، حيث تمكنت الصدمات المتمثلة في تداعيات جائحة كوفيد - 19 وما ارتبط بها من إغلاق عالمي، والحرب الروسية الأوكرانية والتغيرات المناخية المتسارعة، وأخيرا الحرب الإسرائيلية على غزة، من إطلاق هذه العاصفة من الأزمات المستمرة والمتتالية والمتداخلة بعضها مع بعض، طالت العديد من الصناعات حول العالم، ونالت من مستوى دخل الأسر ومدى قدرة الشركات على الاستمرار في ظل أسواق مالية غير مستقرة، كما هددت إمدادات الطاقة من النفط والغاز الطبيعي، وكذا الاستقرار السياسي لدى حكومات عدة متقدمة كانت أو نامية أو فقيرة، وأثرت على مختلف الشرائح الاجتماعية في دول مختلفة.

الدراسة التي جاءت بعنوان "لماذا تتصاعد الأزمات المزمنة في الاقتصاد العالمي؟" والصادرة أخيرا عن مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية بأبوظبي، ناقشت مظاهر الأزمات المتتالية والمتداخلة والمتعددة التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة ولا يزال يكابد تبعاتها، ومنها: تفاقم أزمة الطاقة الأوروبية، تزايد أزمات القطاع المصرفي، عدم استقرار أسعار النفط، انعدام الأمن الغذائي، ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية.

كما ناقشت المحفزات تعمق تلك الأزمات والتي تتمثل في ثلاثة أبعاد: اختناق سلاسل التوريد من جراء جائحة كوفيد ـ 19، انعكاسات الأزمات الجيوسياسية على الاقتصاد العالمي، التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية، بالإضافة إلى أنها استعرضت التحديات والمخاطر المتوقع حدوثها، وأخيرا تضع توصيات ومقترحات يمكن تقديمها للحكومات في ظل الأزمات الدائمة والمتتالية التي يكابدها العالم الآن ومنذ أكثر من ثلاث سنوات.

ترى الدراسة أنه من أجل التمكن من التعامل مع أزمات ارتفاع الأسعار، ومن ثم التضخم الجامح، ومن أجل زيادة درجة التكيف والمرونة والقدرة على تحمل الصدمات، فإن السياسة النقدية لدى البنوك المركزية حول العالم تحتاج نهجا قويا يزيد درجة صمودها أمام التغيرات المفاجئة وغير المتوقعة في سيناريو الاقتصاد الكلي.

وهذا التوجه تسير نحوه الاقتصادات المتقدمة بالفعل، فبينما قدمت الحكومة الأميركية الفيدرالية دعما هائلا ومركزا للغاية في شكل حزم تحفيزية تقدم مباشرة إلى الأسر، نفذت البلدان الأوروبية في البداية برامج أكثر تواضعا إلى حد ما تركز بدرجة كبيرة على منع تسريح العمال، وعلى برامج الإنفاق لدعم التحولات الخضراء والرقمية، وهو نهج تحتاج دول العالم المختلفة إلى تبنيه والبناء عليه، بغية تخفيف وطأة الأزمات المتتالية والدائمة في الاقتصاد العالمي على الأسر والأفراد والشركات.

وتلفت إلى أنه سيكون من الجيد أن تعي الحكومات أن الجنوح إلى سياسات التقشف المالي في خضم الأزمات الراهنة من شأنه أن يخنق النمو ويؤثر على نحو غير متناسب على الفئات الأكثر ضعفا، ويؤثر سلبا على مساعي المساواة بين الجنسين، ويعيق آفاق التنمية عبر الأجيال، لذا تحتاج الحكومات إلى أن تعمل على إعادة تخصيص وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام من خلال تدخلات سياسية مباشرة من شأنها خلق فرص عمل جديدة وتنشيط النمو. وهو ما سيتطلب، بدوره، تعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية، وضمان استمرار الدعم من خلال الإعانات الموجهة والمؤقتة، والتحويلات النقدية، والخصومات على فواتير الخدمات، التي يمكن استكمالها بتخفيضات في ضرائب الاستهلاك أو الرسوم الجمركية.

على جانب آخر، تحتاج البنوك المركزية حول العالم أن تعزز التعاون فيما بينها من أجل تسييل ديونها عن طريق شراء الأوراق المالية الحكومية التي لن يشتريها المستثمرون الخاصون، فضلا عن تعزيز التعاون الدولي في المجالات الأساسية ذات الاهتمام المشترك، مثل التجارة الدولية، وتوسيع شبكة الأمان المالي العالمية، والتأهب للصحة العامة والتحول المناخي.

وتؤكد الدراسة على إمكانية الاستثمارات العامة الاستراتيجية في التعليم والصحة والبنية التحتية الرقمية والتكنولوجيات الجديدة وبرامج التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه، أن تقدم خدمات اجتماعية كبيرة، إذ من شأن العوائد المتأتية من الاستثمارات الأجنبية، أن تسهم في تسريع نمو الإنتاجية، وتعزيز المرونة في مواجهة الصدمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، كما أن هناك حاجة ماسة إلى التزام دولي أقوى لتوسيع الوصول إلى المساعدة المالية الطارئة، بما يسهم في إعادة الهيكلة وتخفيف أعباء الديون عبر البلدان النامية، وتوسيع نطاق تمويل أهداف التنمية المستدامة، بما يعمل في النهاية على التخفيف من آثار الأزمات الاقتصادية على المجتمعات وتخفيف المعاناة الإنسانية، والزيادات غير المقبولة في التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية.

وتوضح أنه لرصد تراكم المخاطر ومعالجة نقاط الضعف، لاسيما في قطاع الإسكان أو في القطاع المالي غير المصرفي الأقل تنظيما، فإنه ينبغي لاقتصادات الأسواق الناشئة السماح لعملاتها بالتكيف قدر الإمكان، استجابة للظروف النقدية العالمية الأكثر تشددا ويمكن أن تساعد تدخلات الصرف الأجنبي أو إجراءات تدفق رأس المال في التخفيف من التقلب المفرط أو غير المرتبط بالأسس الاقتصادية، فرغم لجوء العديد من البلدان إلى دعم الأفراد والشركات بسياسات واسعة، وإن ساعدت في تخفيف الصدمة فعليا، فإنه قد ثبت أن العديد من هذه التدابير مكلفة وغير مستدامة، وبدلا من ذلك يتعين على الحكومات أن تتبنى إجراءات هادفة تحافظ على الحيز المالي، وتسمح – في ظل ارتفاع أسعار الطاقة – بخفض الطلب على الطاقة، وتجنب الإفراط في تحفيز الاقتصاد.

كما أنه استجابة للمخاطر الجيوسياسية المتزايدة ينبغي للاقتصادات التي تعتمد على التمويل الخارجي أن تضمن مستوى مناسبا من الاحتياطيات الدولية، فضلاعن احتياطيات رأس المال والسيولة في المؤسسات المالية.

وتخلص الدراسة إلى إمكانية أن يساعد فهم ومراقبة التفاعلات بين المخاطر الجيوسياسية والمخاطر الأكثر تقليدية المتعلقة بالائتمان وسعر الفائدة والسوق والسيولة والعمليات، في منع وقوع تداعيات مزعزعة للاستقرار من جراء التوترات الجيوسياسية. ومن ثم يجب على صانعي السياسات تعزيز التأهب للأزمات وأطر الإدارة للتعامل مع عدم الاستقرار المالي المحتمل والناجم عن التوترات الجيوسياسية المتزايدة، حيث ينبغي أن تستمر الترتيبات التعاونية بين مختلف السلطات الوطنية في المساعدة على ضمان الإدارة الفعالة، واحتواء الأزمات المالية الدولية، من خلال تطوير آليات حل فعالة للمؤسسات المالية التي تعمل في ولايات قضائية متعددة. كما يجب تعزيز شبكة الأمان المالي العالمية – وهي مجموعة من المؤسسات والآليات التي تؤمن ضد الأزمات وتقدم التمويل اللازم للتخفيف من تأثيرها – من خلال اتفاقيات المساعدة المتبادلة بين البلدان، وتشمل شبكات الأمان الإقليمية، ومقايضات العملات، أو الآليات المالية، وخطوط الائتمان الاحترازية من المؤسسات المالية الدولية.