درس تاريخي لا يُنسى

عزل الرئيس الأميركي موضوع يستحق تدريسه في المدارس والجامعات لكي يفهم الطلاب هذا النموذج الرائع لطريقة الحكم المؤسسي واتخاذ القرارات وتنفيذها.

يتكون الدستور الأميركي من 4543 كلمة فقط، أي بحجم ورقة بحثية لطالب الجامعة، ولكنه أقوى دستور في العالم. وعندما ادعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن المادة (2) من الدستور الأميركي تخوله فعل أي شيء، تصدى له خبراء القانون الدستوري ليصححوا المفهوم الخاطئ لديه، ويذكروه بأن القسم الخامس من المادة (2) من الدستور الأميركي تدعو الى عزله في حالة الرشوة والخيانة والجرائم العليا، وقد اعتبروا دعوته لأوكرانيا للتدخل في الانتخابات الرئاسية جريمة عليا وهي إساءة استخدام السلطة لتحقيق مصالح شخصية. وحيث أن مجلس النواب الأميركي وافق على عزل ترامب، فقد بات قاب قوسين أو أدنى للعزل إذا وافق مجلس الشيوخ عليه، وأغلب الظن أنه سيوافق، إذ ما هو الفرق بين مجلس النواب والشيوخ؟ إن العملية متطابقة، وسوف يصوت مجلس الشيوخ على نفس القرار فلماذا يحبط قرار مجلس النواب؟ لا يوجد مبرر لذلك.

إن سر قوة الولايات المتحدة هو في ديمقراطيتها. وقد شعر مجلس النواب أن الديمقراطية في خطر، وخشي على الدولة من الانهيار لتصبح كدول العالم الثالث، فقام بوضع حد للرئيس لأن المجلس حريص على البلاد وليس على الرئيس. فأي إنسان يمكن أن يكون رئيسا ولكن ليس كل بلد يمكن أن تصبح وطنا، لذا فإن ملايين البشر من مشارق الأرض ومغاربها يحلمون بالهجرة والحصول على الجنسية الأميركية، لكي يصبحوا مواطنين لهم كافة الحقوق التي يتمتع بها الأميركي الأصلي. ولا يقتصر الأمر على المزايا المرتبطة بالجواز الأميركي، بل أنه يتجاوزه الى تقمص الثقافة الأميركية القائمة على الحرية الفردية وحفظ كرامة الإنسان الأميركي.

صحيح أن نظام الحكم في الولايات المتحدة هو نظام رئاسي والرئيس له حق الفيتو ضد أي قرار يصدره الكونغرس، لكنه ليس عشوائيا. بل يسير على مراحل، فإذا سن الكونغرس قانوناً فإنه يرفعه للرئيس للتوقيع عليه خلال عشرة أيام، فإذا انقضت العشرة أيام دون أن يوقع الرئيس عليها، يعتبر القانون نافذاً. ويمكن للرئيس الاعتراض على قانون أو قرار شريطة أن يوضح أسباب الاعتراض، ثم يعيده إلى الكونغرس، فيقوم الكونغرس بالتصويت على اعتراض الرئيس فإذا وافق ثلثا الكونغرس بغرفتيه (النواب والشيوخ) على الاعتراض، يطرح القانون في الكونغرس للمناقشة والتعديل، كما يحق للرئيس استخدام حق النقض للقرار لإبطاله، فيعاد إلى الكونغرس للتصويت عليه، ويجب أن يحصل الرئيس على ثلثي أصوات الكونغرس للموافقة على نقضه وإذا فشل الرئيس في الحصول على موافقة ثلثي الأعضاء على النقض، يبطل فيتو الرئيس ويُقر القانون.

من هنا نفهم سر الموقف الأميركي اتجاه العرب، فطالما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد القرارات التي تصب في صالح العرب، والقرارات ضد إسرائيل، فالرئيس خاضع للكونغرس، وليس حرا في اتخاذ قرارات تعبر عن موقفه الشخصي، فالشعب الأميركي يحب اليهود وهناك جناح متدين جدا في الكونغرس وهم يؤمنون بالحق التاريخي لليهود في إسرائيل لأن الإنجيل يقول ذلك، ومن غير المحتمل أن تتغير الثقافة الأميركية بحيث تأخذ موقفا عادلا من العرب، فالثقافة الشعبية هي التي تصوت على اختيار الرئيس والنواب والشيوخ وتدعم مواقفهم وبالنسبة للشعب الأميركي فإن التوراة والإنجيل مكملان لبعضهما كما أن إسرائيل هي النموذج الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط وهي التي تستحق الدعم في خلافها مع العرب، ولا يستطيع الرئيس اتخاذ موقف مغاير.

وعليه، فإن عزل الرئيس الأميركي موضوع يستحق تدريسه في المدارس والجامعات لكي يفهم الطلاب هذا النموذج الرائع لطريقة الحكم المؤسسي واتخاذ القرارات وتنفيذها، ولفهم سر عظمة أميركا التي لا يمكن أن تهزم، إلا إذا تغيرت الثقافة الشعبية وصار الأميركيون يقدسون الأفراد وينقادون لهم مهما فعلوا ويخافون من غضبهم ويتصرفون حسب تعليماتهم.