دكتاتورية المستنيرين وأحدث أشكال الغنوصية

أصحاب البرامج التي تسعى للسيطرة على عقول البشر ووجدانهم لغايات فكرية أو سياسية أو اقتصادية، لا يتوقفون عن محاولاتهم.
بعض الجماعات تسعى إلى بناء دين جديد تتمكّن انطلاقًا منه من تأكيد سيطرتها على الأفراد والشعوب
الدين يبقى أقوى وسيلةٍ للسيطرة على الشعوب التي عرفتها البشرية

عمّان ـ يبدو عنوان الكتاب أوّلَ وهلةٍ صادمًا؛ فنحنُ نعرف أنواعًا من الدكتاتورية وكلّها تتعلّق بأنظمة الحكم السياسيّ، سواء أكانت هذه الأنظمة ملكية أو جمهورية، فردية (حكم الفرد)، أو جماعية (حكم الطُغم كالطغم العسكرية، أو الحزبية، أو الطبقات كما في دكتاتورية البروليتاريا)، وقلّ ما استُخدم هذا المصطلح خارج هذا الإطار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تبدو المفارقة كبيرة أن يمارس المستنيرون (الذين يفترض بهم دورًا تنويريًّا، مناقضًا نظريًّا للدكتاتورية) الدكتاتورية، فكيف تكون الدكتاتورية في الفكر والعلم والمعرفة؟
عندما تطّلع على محتوى هذ الكتاب تكتشف مدى خطورة الممارسات الدكتاتورية في هذه المجالات، فإذا كانت الدكتاتورية تعني في ما تعنيه فرضَ الوِصَاية على الناس، وقولبتهم في قوالب محدّدة، فإنّنا نكتشفُ الدورَ الخطير الذي اضطلع به أصحاب المشاريع الفكريّة والثقافيّة والعلميّة على مدار تاريخ نشأة هذا الجماعات التي لا نعرف عنها وعن نشاطاتها إلا قليلًا، الجماعات التي تغلغلت في حياة الشعوب وثقافاتها، ولم يعد بالإمكان فصلُها وتمييزُها. 
ويبدو أنَّ هذا الخلطَ كان مقصودًا بحدّ ذاته؛ لأنّ نشرَ الأفكار المطلوبة، والمرغوبة لا يكونُ عبر كنس الفكر القائم ومحوه وتحويل عقول الناس إلى صفحة بيضاء يُكتب عليها ما يُراد، فنحن لا نُنكر أنَّ هناك أفكارًا، سواء أكانت فلسفية أم دينية، أم معتقدات، أم ممارسات سلوكية، أم قيمًا أخلاقية وغيرها قد استقرّت عميقًا في وجدان الناس الجمعي، وفي الوجدان الفرديّ، ولا يبدو من السهولة تغييرها. 
لكنّ أصحاب البرامج التي تسعى للسيطرة على عقول البشر ووجدانهم لغايات فكرية أو سياسية أو اقتصادية، لا يتوقفون عن محاولاتهم، وبذل جهودهم في هذا المجال، ولا تتوقّف عقولهم عن ابتكار كلّ الوسائل والأدوات لتحقيق هذه الغاية، وبناءً على ذلك تطوّرت وسائل الإعلام والدعاية، وأدواتها من أقمار صناعية، وإنترنت، وأجهزة هواتف ذكيّة، وشاشات تلفزة، وسينما وغيرها من التكنولوجيات الحديثة. 
هذه الجماعات حوّلت الفكر والعلم إلى أيديولوجية، وهي لا تخفي أنّها تسعى إلى بناء دين جديد تتمكّن انطلاقًا منه من تأكيد سيطرتها على الأفراد والشعوب. ولا يخامرنا الشكّ أنّ الهدف النهائيَّ لدى هذه الجماعات هو السيطرة على الأفراد والشعوب، وما الفكر إلا أداة لهذه السيطرة، وما الدعوة إلى دينٍ جديدٍ إلا وسيلة لتحقيق هذه السيطرة، فهم يدركون تمامًا أنّ الدين يبقى أقوى وسيلةٍ للسيطرة على الشعوب التي عرفتها البشرية، إذًا، فهم يريدون أن يستبدلوا دينًا بدين، دينًا يتوافق مع ظروف العصر وطبيعته، والتطوّرات التي طرأت على المجتمعات البشرية أثناء تطوّرها عبر آلاف السنين. وهم بلا أدنى شكّ ينظرون إلى الديانات التي استقرَّت عليها شعوب العالم، مثل المسيحية واليهودية والإسلامية والبوذية وغيرها، على أنّها عقبة كأداء في طريقهم لتثبيت سيطرتهم على شعوب العالم، فهذه الديانات، بما اشتملت عليه من قيم أخلاقية، وتعاليم وأفكار ما زالت قابلة للتكيُّف مع حركة التاريخ، وما زالت تستحوذُ على عقول وقلوب جماهير واسعة، وتشكّل محرِّكًا قويًّا لفاعليّتهم السياسية، والاجتماعية. 
لقد نشأت تلك الجماعات الفكرية في أحضان الرأسمالية، وهي على اختلافاتها الشّكلية، إلا أنّها جميعها تبقى مخلصةً للفكرة الرأسمالية، وتعمل في خدمتها، وقد خاضت معارك فكرية وسياسية مع خصوم أيديولوجيين كُثر، وحققّوا انتصاراتٍ معيّنةً في بعض الحالات (على سبيل المثال في الصراع مع الأيديولوجية الشيوعية والأيديولوجية الفاشية)، وهم يخوضون صراعًا قويًّا وعنيفًا في بعض الحالات في وقتنا الراهن مع الأيديولوجية الدينيّة موظِّفين في هذه المعركة فلول خصومهم الأيديولوجيين السابقين، خاصّة بعد تحقيق الرأسمالية انتصارها الكبير بداية تسعينيّات القرن الماضي على الأنظمة الاشتراكية، معلنة «نهاية التاريخ»، لكن لم يمضِ عَقدان من الزمن حتّى وجد النظام الرأسمالي نفسَه في مواجهة أعداء لا يقلّون خطرًا عليه من الشيوعية والفاشيّة، ممثّلين في الديانتين المسيحية (في نسختها الأرثوذكسية) والإسلامية، بصورة أساسية. 
ولمّا كانوا قد قطعوا شوطًا كبيرًا في محاربة المسيحية (الكاثوليكية) في عُقر دارها (أوروبّا الغربية)، فقد انتقلوا إلى محاربة المسيحية (الأرثوذكسية) التي يرَون فيها أيديولوجية مقاوِمة بديلة لدى شعوب أوروبّا الشرقية في مواجهة الهيمنة الرأسمالية بزعامة الرأسمالية الأميركية المتوحِّشة، وكذلك محاربة الإسلام السياسيّ الذي طرح نفسه قائدًا لحركاتِ الإصلاح السياسي في عددِ من الدول الإسلامية. 
هذا الكتاب للباحثة الروسية المعروفة تشيتفيريكوفا أولغا نيكولايفنا - الصادر  حديثا عن "الآن ناشرون وموزعون، من ترجمة الدكتور باسم الزعبي - يسلّط الضوءَ على العديد من الجماعات الفكرية العلنَية والسّريّة، وأبرز القضايا التي عملت عليها من أجل تحقيق أهدافها المتمثّلة، من وجهة نظرها، بمحاربة الله الخالق، وإلغاء الدين (وهي تعني هنا الدين المسيحي بنسخته الأرثوذكسيّة) والتأسيس لدين جديد يضع الشيطان مكان الله. 

رفضُ الإنسانيّة يتحقّقُ برفع شعار الإنسانوية العابرة، الذي يُنظرُ إليه أنّه مرحلةٌ أخيرةٌ وختاميةٌ للإنسانية، ويهدفُ إلى تذليلِ الطبيعةِ البشرية ذاتها التي تمثّل الجسد غير الكامل (الناقص) والوعي الضعيف

نحن نؤكّد أنّ هذا النشاط الذي تقوم به هذه الجماعات هو فعلٌ حقيقيٌّ غيرُ وهميّ، وهو ملحوظٌ في بعض الحالات، وما قدّمته الباحثة في هذا الكتاب هو أن وضعت الكثير من الفعاليّات التي حدثت وتحدث في العالم في سياق محدّد، ولا شكَّ لدينا في النتائج التي توصّلت إليها الباحثة من أنّ هذه الفعاليّات إنما تأتي في إطار محاربة الدين (وهنا لا نرى فرقًا بين الأديان السماوية من حيث الاستهداف)، إلا أنّها لم تتطرّق للغاية النهائية لهذا الفعل، الذي نراه نحن في أنّه وسيلة للسيطرة على عقول الناس وقولبتهم، ومن ثَمَّ تسهيل عملية الهيمنة الاقتصادية القائمة على استغلال الطبقة الرأسمالية المهيمنة للجماهير الواسعة والشعوب المستضعفة على حدّ سواء. 
تقول المؤلفة في مقدمة الكتاب: "نشهدُ اليومَ ثورةً عالميّةً في المجال الثقافي، تهدُفُ لتغييرِ جوهرِ الإنسانِ ذاتِه. كلُّ هذا يُظهِرُ المضمُونَ الدينِيَّ لـ«النّظام العَالمِيّ الجديد» الناشئ بشكلٍ جَلِيّ. وإذا ما كانت النُّخبُ الماليةُ العالميةُ تَنشَطُ تَحتَ رايةِ الإنسانيّة، والتنويرِ، والعقلانيّة، بمعنى أنّها كانت قائمةً على أُسسٍ دنيويةٍ صرفة، فإنّ هذا المشهدَ يتحلَّلُ اليومَ مثل ملابسَ باليةٍ، ومِن خِلالِها تَتَكَشّفُ المضامينُ الحقيقيةُ لـ«أعمالهم»-وهي محاربةُ الإيمانِ بالله، التي تُحاولُ أن تلغي سُلطةَ اللهِ واضعةً مكانَها القوةَ العالميةَ العُليا للإنسان بصورةِ المسيحِ الدجّال – أنتيخريستوس"، وتضيف: "لذلك فإنّنا نشهد في أيّامنا هذه هجومَ اللادينيين في المجالات كافّة: الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والإدارية، والتعليم والثقافة (الأدب والسينما والموسيقى، والتلفزيون، والأعمال الاستعراضية). كلُّ شيءٍ موجّهٌ نحو تغييرِ بناءِ الإنسانِ الروحيّ جذريًّا. من الواضح أنّ الدوائرَ الحاكمة بدأت تشطب الآراء التنويرية، والإنسانية، لكنّهم لا يستطيعون أن يعلنوا، حتّى الآن، بصورةٍ جليّة، أنّ برنامجَهم الرسميَّ هو مناهضة الله، والولاء للشيطان. 
 فرفضُ الإنسانيّة (Humanism) يتحقّقُ برفع شعار الإنسانوية العابرة (Transhumanism)، الذي يُنظرُ إليه أنّه مرحلةٌ أخيرةٌ وختاميةٌ للإنسانية، ويهدفُ إلى تذليلِ الطبيعةِ البشرية ذاتها التي تمثّل الجسد غير الكامل (الناقص) والوعي الضعيف. وهذا يعني القضاء الذاتيّ على الإنسانية، إذ أُعلن أنّ حقَّ الإنسان يكمن في أن يظلَّ الإنسان قابلًا للتعديل حتّى لا يعودَ إنسانًا. 
 كما نرى، وحسب كلام «العلماء»، فإنّ الدوائر العالمية المسيطرة يبدؤون بطرح خططهم بشكلٍ مكشوف، محوِّلين وعيَ البشرية إلى وعي تكنوتروني يتّسم بالسحر والغموض، قادر على تقبّل حكم الإنسان الخارق في ظروف كارثية من صنع الإنسان نفسه، اشتغلت عليها مراكز الدراسات وأدمغة الغرب منذ زمن بعيد. إلى أيّ درجة تعتبر هذه الأفكار جديدة، وما جذورها ومغزاها الحقيقي ودورها أيضًا الذي تلعبه في إعادة بناء الإنسان روحيًّا؟ 
يشتمل  الكتاب الذي طبع بدعم من وزارة الثقافة الأردنية على مقدمة  وخمسة عشر فصلا: التجارب الأولى لإعادة صناعة الإنسان والعلماء السَّحَرَة والبحث عن «المعرفة العليا»، والغنوصية.. جوهرُ الماسونية وقلبُها، ونظرية داروين.. عملية اختراق «المستنيرين»، ونظريةُ التطوّر وفق الصوفية (Theosophy) أو الثناء على عن لوسيفيرو تحت سلطة «العُلويّين المجهولين». رسالة التدمير ومن أنشأ اليونسكو ولماذا؟ و«العصر الجديد». النواة الجديدة للحكومة العالمية وتكنيك «العصر الجديد» من الشامانية إلى المخدّرات الإلكترونية و«مؤامرة الدلو». القضاء على المحظورات الأخلاقية، والمؤسّسات الدولية في خدمة «العصر الجديد»، وحقوق «عدو الإنسان» بدل «حقوق الإنسان» بوصفها معيارًا دوليًّا، والإنسانوية العابرة (TRANSGUMANISM) هي القضاء على الإنسان، والإنسانوية العابرة أحدث شكل من أشكال الغنوصية، وتنحية «الهدّامين»، والمشروعات الإنسانوية العابرة لدى الدوائر الحاكمة، إضافة إلى الخاتمة، وقائمة بالمصطلحات.
يذكر أن المترجم د. باسم الزعبي، هو كاتب وباحث أردني، صدر له ما يربو على عشرين كتابا في الترجمة والأدب، أما المؤلفة فهي باحثة في مجال التاريخ والعلاقات الدولية في موسكو، وهي ناشطة ثقافية، صدر لها العديد من المؤلفات في المجالات التاريخية والثقافية والفكرية.