رؤية جديـدة للأدب الإسلامي عند الراحل أسعـد الكاشـف

ما كتبه المخرج الأديب أسعد الكاشف كان لقاء بين الأديب والحياة من خلال التصور الإسلامي بأسلوب لُحمته وسداه العاطفة الدينية.

ما أكثر ما حمل هذا الزمان من أحداث وأفكار وممارسات كلها ألم وقتام، ولكن جذوة الإيمان المتوقدة لم تخبُ ولن تنطفئ "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون".

ففي الوقت الذي تحول قسط وافر من الأدب والأدباء العرب إلى مواكبة تيارات غربية، حمل نخبة من الأدباء المسلمين مشعل الإسلام الوهاج، يبرزون الرؤية الإسلامية فيما يكتبون، لمواجهة متغيرات العصر، وحاجاته الجديدة، والتعامل معها بمنهج إسلامي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالعقيدة الإسلامية السمحاء هي المحصن الأول للأديب قديما، والخلفية الثقافية للأدب حديثا، فانتقلت هذه الأسس إلى التجربة الشعورية عند الأديب الملتزم بإسلامه فكرا وسلوكا ومنهجا، ودخلت إلى نسيج عمله، لتشكل النسيج الذي يروي زهرات إبداعه، تعطِّر إنتاجه الأدبي، وتصبغه بألوان زاهية.

ما أحوج المسلمين اليوم إلى الأدب السامي والإنسان المسلم يشعر بضغوط المعارك القاسية في ساحات نفسه، وعلى ثرى أرضه، وفي أُفق عالمه، إنه في مسيس الحاجة إلى سماع كلمة حنان في دنيا تسيطر عليها المادية والقهر، إنه في ألح الحاجة إلى من يعزف له لحنا نديا في الساعات التي تجثم فيها على صدره كآبة، وعلى نفسه ركام الذكريات.

فمن أحرى من الأديب المسلم أن يقدم كلمة الحنان، وأن يعزف اللحن الندي، وأن يزيل من الصدر الكآبة وينفض عن النفوس ما علا عليها من ركام حزين، فيقدم قصائد وقصص ومسرحيات عن القيم التي تجمعهم، والأهداف العليا التي تشدهم والمطامح الكبرى التي يرنون إليها، ومن أحرى من الأديب المسلم أن يصوغ تجارب الإنسان المسلم صورا فنية، ومقطوعات يعطيها بعد الأصالة ويعمق في النفوس معانيها، ويمدُّ مساحاتها، ويناغم أضواءها وظلالها، ليفجر في قلوب المسلمين الإيمان القوي الذي يقضي على الفزع الآتي ويبدد خيوط اليأس والأسى التي بدأت تنسج من أحداث العصر ظلالاً على رؤاه ليكون كل مسلم مؤمن يتحرك بتناغم وانسجام مع المبادئ الإسلامية السامية.

أدب هادف بناء مغذِّي للعواطف الإسلامية يرقى بالإنسان أيا كان هذا الإنسان، يدعو إلى الاعتزاز بالإسلام منهجا كاملاً، ونظاما شاملاً من خلال تناوله السوي لمعطيات الحياة، فهو نتاج يعتز بلغة القرآن ويحاول أن يتمثل شيئا من خصائص صياغته كما يترسم سمات الأسلوب النبوي الكريم هو أدب يصد عن الفكر الإسلامي وعن اللغة العربية أعني التيارات تلك التي تتهادى الأمة الإسلامية في أخلاقها، في آدابها، في لسانها العربي.

أسعد الكاشف ورؤيته الجديدة:

إن ما كتبه الأستاذ أسعد الكاشف كان لقاء بين الأديب والحياة، من خلال التصور الإسلامي، بأسلوب لُحْمتُهُ وسُداهُ العاطفة الدينية، وتتجلى في أسلوبه المعاني القرآنية، والآيات المحكمات في السياق الأدبي، لتعطي المعنى والدليل، وقد حاول تجاوز الأهداف الدنيا إلى المعاني العليا، حتى أنه يحاول التسامي، متطلعا إلى الحق والخير والجمال، إنه أديب التزم في رؤيته خصائص أمته الإسلامية، ويتجلى هذا الالتزام في تصوره الإسلامي للحياة، ينفعل بهذا التصور في إطار من قيم الإسلام ومبادئه، وبصياغة معبرة وموحية، فيقول في رائعته "لا تخف أبدا  حيث أننا في رحاب الله نمشي"

أنا من أنا؟

أسير هذا العصر

أسير على هذا الدرب الطويل

المظلــــــم

و أمسَّ أشواك الحياة  بلمسة

و أغوص ألوان العذاب  بعزَّة

لكنني يوماً ما شكوت راجيا

ما رجوت  سائلاً

 ما سألت  زائلاً

بل شكوت للإله الأوّل

بل رجوت عفو العزيز القادر

بل سألت كرم الكبير المنعم

الله علمني الحقيقة قائلاً سبحانه

"واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح"

حقا إنه نتاج أدبي هادف، حدد الفكرة، وضح الهدف، بكلمات موحية، وأسلوب أدبي يشرح واقعا، يؤكد هذا الواقع بآية بينة من التنزيل العزيز، حيث لا يترك مجالاً للسامع أو القارئ للحيرة، أو اختلاط المعنى، أو حتى أن يسرح الخيال بعيدا، لأنه دفع بسلاسة وسهولة، الحقيقة التي إليها يرنو، والهدف الذي إليه يسعى، بآية كريمة لا يأيتها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

وبينما يكون القارئ مستغرقا في هذا الخيال الإلهي الرحيب، وقد أشبع فكرة بالحل الذي يريد، نراه ينتقل إلى نقلة أخرى، لراحة القارئ فيقول:

صدق الإله العظيم حيث قال حيث

أرشدني للجمال

جمال صدقِ

جمال حق

جمال قول في الجمال

وكأنه قدم بتلك العبارات ليلج إلى داخل نفسه فماذا رأى عندما عاد إلى ماضيه:

عدت بماضي البعيد  لأنظر

سيئات الدرب كم باتت تُؤَرّق فكرتي

فأرى في الطريق السهل صعباً و أرى

كل ذنب يحرك مهجتي

أبكى دموعاً  نادماً  جائعاً لروح

لقلــــب

ضحوك مخلص

ثم لا يلبث أن ينسل بعذوبة ورشاقة، وبالتزام إسلامي إلى واقع الحياة إلى المجتمع وما فيه إلى كل ما ألاقيه وتلاقيه ونلاقيه في المجتمع والحياة يتناوله بالتصور الإسلامي الأصيل، ليرسم الدرب السارب، والطريق الممهد، ولكنه يسترسل بإسهاب محبب أحيانا وإسهاب ممل أخر عندما يُكبر من ذكر الأسى والقتام ولكنه مع ذلك، يتخير الكلمات المصورة التي تعطي المعنى، وتلائم عناصر هذا التصوير، نرى من خلالها الواقع المنظور الذي استطاع أن يعبر عنه الأديب بوضوح يشعر القارئ بمشاركته فيما يرى، ولكن بنفاذ عاطفي يسبر إلى أغوار النفس فنراه يقول:

فلا أرى غير النفاق مبتسم المحيا

الكاذبة

غير أشواك الطريق 

غير أجزاء الحريق

تظلم النفس أحياناً  فلا تحس في الحياة

قيــــــمة

حتى في العقيق

تعتم العين أوقاتاً

فلا ترى حتى من النجم البريق

تطفئ الدنيا المروءة

من حياة قد غدت  فمّ ضبِ في الطريق

وفي رشاقة ينتقل المؤلف من موضوع إلى موضوع، حتى يصل إلى عتاب الزمان، ينفعل لكن بعتاب يلتمع فيه أسى النفس، فيصيح الزمان من العتاب فيقول:

ضجّت الأيام من هول الصدى 

كفرُ و إلحاد و فساد يتبختر 

هذا غرني  و هذا سرَ فيّ  هذا داع من

نفاق يتعفر

هذا وردىّ المحيا  إنه بوق رياء يتستر

أسعد كاشف

ويبلغ مدى الصبر عند الأديب غايته، عندما يرى أن الفضيلة أصبحت ألعوبة وسخرية، فيُسدل الستار عليها بشتى الوسائل، حتى تحيا الرذائل والموبقات، وتذوى العقول النضرة كمداً وحنقاً، هنا يتوجع الأديب في أسى، بأسلوب استنكاري بليغ أعطى فيه للتصوير حيوية تحرك العاطفة، وتأخذ بمجامع القلوب فيقول:

حسرة يا رجالي أين أنتم

ضمكم بار و مقهى و تركتم

عيش عزّ في الصلاة

و هجرتم  عيش مجد في الصيام

ودرأتم عيش عطف في الزكاة

ولكنه لم ييأس، بل ينتفض مهدداً متوعداً، ليس تهديد شاعرِ بالهجاء، ولا تهديد كاتب بالتهكم، ولا تهديد أديب بالرمز، ولكنه تهديد من القوى الجبار، فيقول:

أما سمعتم يا رجالي

دقَّ ناقوس النذر

بسم الله الرحمن الرحيم "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة"

ولكن الأديب ذو الحس المرهف، والمشاعر الإنسانية، يحدب على البشرية، ويخشى عليها العذاب، فيدعوهم برفق إلى سلوك الجادة سلوك الصراط المستقيم فيقول:

عودوا إلى الله القوي

عودوا إلى الله الكبيــر

عودوا إلى الله العظيم

ليس مالي ليس مالك ليس ملكك

يوم لا ينفع مال ولا بنون

إلا من أتى الله بقلب سليم

ويستمر الأديب في هذا الحدب، وتلك الرأفة، على الإنسانية فيبين بأسلوب أدبي متميز، مفعم بالروح الإيمانية، كم هي رحمة الله واسعة، من محكم آيات الكتاب العزيز، فيقول:

فتأكد رحمة الله الحليم حيث قال:

بسم الله الرحمن الرحيم

فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، فإن الله يتوب عليه

ثم يختتم الأستاذ الكاشف رائعته وعبارات تريح السامع أو القارئ وتبعث في نفسه اطمئناناً شبقاً محبباً، عندما يقول

في بقاع الأرض فامرح وتنقل

ليس جرم في هواك

في مناحى الدنيا فاسرح وتلطف

ليس ذنب حيث ذاك

طالما أنت بالإسلام تمشي

فلتعش  كيف شئت

لا تخف أبداً  حيث أنت

في رحاب الله تمشى

كلمة أخيرة

إن الصورة المشرقة بجلال الإسلام وعظمته، جديرة بأن نرُسم بأسلوب هذا العصر، وفلسفته، وأن نلون بما يتسم به هذا العصر من ظلال عبقرية في النفس والعقل

الأدباء المسلمون هم من تنفذ إليهم الأشعة الروحانية، بعد عميق الدرس والإطلاع للتثقيف وزيادة المعارف، فتدفق تلك الأشعة بالمعاني الحية الخالدة سموا بالبيان الساحر، وكشفا عن تراث الإسلام وجلاء لجوهره الصافي، ومعدنه الفطري النفيس

صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة

إن ما كتبه الأديب الراحل الأستاذ أسعد الكاشف، ليس إلا دفقة جياشة من قلب ملئ بالإيمان، ففاض، لذلك فإنني اعتقد أن ما كتب ليس شعرا وليس نثرا، ولكنه من هذا وذاك كثيرون طرقوا هذا الباب، ولكن شتان بين ما كتبوا وكتب ففي الوقت الذي نرى قدرة الأستاذ الكاشف على التكوين في المعاني والأسلوب الفني في المبنى، وجعل آيات القرآن الكريم دليلاً موجهاً للهدف والخير، لأنه يكتب من نفس مفعمة بالإيمان، ثقل عليها ما تراه وتبصره من صراعات العصر، وانجراف الشباب المسلم في تلك التيارات الموارة، من يمين ويسار، فحاول أن يذكر، ولكن بأسلوب أدبي يدغدغ العواطف، ويخاطب أعماق النفس فكان ما كتبه مؤثراً، وممتعاً، حيث يُستشفُّ من خلال الكلمات وفي سياستها، خيوط من النور الذي شع به الإسلام الحنيف على الإنسانية في رقة وحنان، فسعد به المؤمنون، واهتدى به كثيرون.

ما أحوجنا في هذا العصر إلى تلك الأقلام التي تتفيأ ظلال العقيدة فتكتب بروح الإسلام، تدعو إلى الهدى، إلى الصراط المستقيم.