رافعة جديدة للعلاقات بين مصر والسودان

قررت القاهرة والخرطوم تجاوز العمل الدعائي والنظر إلى الانجاز.

الطموحات التنموية المشتركة واحدة من المفاتيح الرئيسية في العلاقات المصرية السودانية الآن، بعد فترة من التوتر تراكمت فيها مجموعة من السحب السياسية، كادت أن تؤدي إلى فصم علاقة وطيدة بين شعبي البلدين تمتد مئات السنين.

الهدوء والأمن والاستقرار أصبحت من العلامات الإيجابية البارزة خلال الأشهر الماضية، والثبات الظاهر فيها يؤكد أن هناك عزما على تجاوز العقبات التي تراكمت على مدار سنوات، ولم يستطع الطرفان تخطيها بسبب فقدان القدرة على المكاشفة، وأوشكت أن تتمدد وتنتشر بما يهدد مستقبل العلاقات بينهما.

اللقاءات التي تعقد بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ونظيره السوداني عمر البشير، في أي من العاصمتين، القاهرة والخرطوم، أو على هامش اجتماعات إقليمية ودولية مختلفة، رسخت ملامح التقدم الذي يظهر مع كل لقاء يعقده المسؤولون في الدولتين، لأنها تتطلع دوما إلى الأمام، وتمنح اهتماما للمحددات التي يتوافقون عليها وترك القضايا الخلافية، كي تسير الأمور بوتيرة جيدة.

وضعت القيادة السياسية في القاهرة والخرطوم يديها على واحدة من النقاط الحيوية المتعلقة بالتفاهم على أسس تنموية، بما يعود بالنفع على كل طرف، وتجنب الجراح المزمنة والقفز على ما يمكن أن تسببه من آلام ليس هذا أوانها. وهي صيغة صاعدة في المنطقة، فمن خلال المكونات الواعدة التي تحملها المشروعات يمكن تسوية الكثير من الأزمات السياسية.

لدى مصر والسودان مجموعة كبيرة من النقاط التي يمكن التلاقي عندها بصورة عملية، إذا خلصت النوايا، وتمت تنقية الأجواء بطريقة تساهم في البناء. الأمر الذي انتبهت إليه القيادات السابقة، لكنها لم تأخذ المسألة بجدية كافية، وتعطلت عند أول مشكلة تواجهها، وهو ما أرخى بظلال سلبية على كثير من القضايا، وحال دون الوصول إلى قاعدة راسخة يمكن التأسيس عليها منذ سنوات.

التنمية مفهوم جذاب والتباحث بشأنها ومناقشة تفاصيل العديد من المشروعات المرتبطة بها مسألة ضرورية، حاول البلدان توظيفها بصورة صحيحة من قبل، غير أن الإرادة لم تكن متوافرة، ولعب الرضوخ للغوايات والمواقف الأيديولوجية الضيقة دورا خطيرا في وقفها.

التحركات التي بدأت من الجانبين في هذا الاتجاه مؤخرا، لها ما يؤيدها محليا وإقليميا ودوليا، فقد أضحت مشروعات التنمية ثيمة تتوافق عليها دول كثيرة، وعبرها يمكن القفز على الخلافات، ووضع مرتكزات أساسية للعلاقات، في وقت تسعى فيه مصر والسودان إلى وضع حلول حاسمة لجملة من الأزمات الاقتصادية.

البلدان يملكان مقومات جيدة وواعدة، تصلح لتكون مدخلا لكثير من المشروعات، بعضها جرت مناقشتها، والبعض الآخر بحاجة لمزيد من تقريب المسافات، بما يضمن عدم العودة إلى ما يعكر الصفو الراهن، ووضع تطلعات تحقق المصالح العليا مستقبلا.

وبعد أن تم اعتماد هذه القاعدة تلاشت تقريبا الخلافات، والدوائر التي كانت تفتعل الأزمات من حين لآخر، ولم نعد نسمع صوتها أو نرى تحريضها، لأن هناك رغبة عارمة بتنحية كل ما يفضي إلى التباين والتركيز على ما يؤدي للتفاهم.

التطورات المتسارعة التي شهدتها العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا من المؤشرات التي تؤكد أن التنمية أحد صمامات الأمان للدول، وسوف يتزايد الاعتماد عليها كأدة مؤثرة في حل المشكلات، لأن روافدها تتجاوز الأفكار السهلة، وتصل إلى حد التوجهات والممارسات الاستراتيجية، باعتبارها المنقذ من التدهور وباب الخروج من الآلام.

الكثير من القوى الكبرى تعول على زيادة الاستثمار في أفريقيا، ومنهم من قطع شوطا طويلا في بناء منظومة متماسكة من المشروعات التنموية، استعدادا للمستقبل، الذي تبدو فيه هذه القارة من الأماكن الجاذبة. لذلك أرادت مصر والسودان تعظيم هذه الزاوية والتوسع فيها بالشكل الذي يعود بالنفع على كل منهما.

الشروع في تطوير هذه القاعدة بات من القناعات الرئيسية لدى القيادات السياسية في البلدين، والمرجح لها أن تتضاعف الفترة المقبلة، مع اتساع نطاق الهدوء في المنطقة، لأن العناصر الحاكمة للتنمية الجديدة لم تعد قاصرة على المستوى الثنائي، بل يمكن أن تمتد للإقليم برمته.

اللافت أن الخطوات العلمية في هذا الفضاء تسعى إلى توثيق العلاقات الاقتصادية، الثنائية والجماعية، بشكل يتخطى تجارب سابقة، كانت محكومة بالدعاية أكثر من الانجاز، ما جعلها مهزوزة ومن السهولة أن تتعرض لنكسة سياسية تعصف بها عند كل محك يعتريها، صغيرا أم كبيرا، أو خطاب سلبي يتبناه أحد الإعلاميين.

الرافعة الجديدة التي تنطلق منها العلاقات المصرية-السودانية، وسوف تتبلور ملامحها الفترة المقبلة، تقوم على أربعة عناصر.

الأول: تصفية الأزمات السياسية في المنطقة، وتسريع وتيرة المصالحات، والامساك بزمام المبادرة للتوصل إلى حلول سريعة، قبل أن تضع بعض الجهات غير الراغبة في الاستقرار العصي وسط العجلات، فقد هيأت الصراعات الطويلة فرصا جذابة لقوى لا تستطيع التعايش في أجواء بعيدة عن التوترات.

الثاني: إنهاء ميراث الخصومات الداخلية في الدول الأفريقية، لأن مشروعات التنمية لن تشهد نجاحا في ظل احتدام الحروب الأهلية. وقامت الخرطوم بدور معتبر في تعديل الدفة لتمهيد الطريق لحل نهائي للأزمة في دولة جنوب السودان، وأشرفت بدعم ومشاركة أطراف أخرى، على توقيع اتفاق السلام بين الرئيس سيلفا كير وغريمه ونائبه الأول السابق رياك مشار في أغسطس الماضي.

الثالثة: توظيف المشتركات بين دول الجوار، والبحث عن الطرق الناجحة للاستفادة منها. وفي حالة مصر والسودان هناك حزمة من العوامل يمكن أن تكون أداة لحل مشكلات ممتدة، أبرزها الرغبة في توفير أجواء تحافظ على الأمن الوطني لكل دولة، ووضع حلول حاسمة للعناصر التي مثلت ضغطا على أي من الدولتين، وتزايد الفرص الاقتصادية الحقيقية المتاحة، وسرعة الاحتواء السياسي الذي حال دون دخول العلاقات في نفق مظلم.

الرابعة: مباركة قوى دولية لكثير من الخيارات الاقتصادية الرامية لتعزيز الاستقرار، وهو ما التقطته جهات إقليمية متعددة، وعزفت على أوتاره، فالنظام الدولي الذي يعاد تشكيله تدريجيا، يعطي الأبعاد التنموية أهمية فائقة، لأن عمليات تكسير العظام وتحقيق المكاسب يمكن أن تتجاوز الآليات التقليدية المعروفة. لذلك نجد سباقا سريعا للسيطرة على المفاتيح المهمة التي تتحكم في توازنات القوى مستقبلا، وفي مقدمتها الاقتصاد.