رجال أمن 'يعرّون' الانتفاضة التونسية من آخر مكاسبها

صدمة تهز شبكات التواصل والرأي العام في تونس بعد انتشار مقطع مصور لعناصر من الشرطة تسحل رجلا عاريا في طريق عام في وضح النهار.

تونس - لا عزاء للتونسيين العالقين في نفق المآلات السياسية والاجتماعية لانتفاضتهم المغدورة الا ضوء خافت يفاخرون به الصديق قبل العدو بتحول بلدهم لمنارة للحريات في المنطقة، لكن حتى هذا الانجاز اليتيم تعكره بين الحين والأخر فضائح في غرف أبت الظلمة ان تغادرها "أبطالها" افراد من جهاز الأمن، لكن الصدمة كانت مروعة هذه المرة وعصية على البلع والاستيعاب بعد انتشار فيديو يظهر تعنيف عناصر من الشرطة بشدّة لمواطن عار في احد شوارع العاصمة.

والأربعاء انتشر كالهشيم في النار مقطع فيديو قصير وثق لحظة اعتداء شرطي ملثم الوجه في منطقة سيدي حسين الشعبية المتاخمة للعاصمة على شاب مطروح ارضا فيما احاط به زملاؤه، قبل ان يسحبه احدهم سحلا ويقتاده داخل عربة تحمل شعار وزارة الداخلية.

وتوضح جودة الصورة السيئة ان مارا كان يوثق المشهد سرا، كما يمكن سماع صوت صوت نسائي يستنكر ما كان يحدث على قارعة الطريق نهارا واثناء مرور مواطنين.

والأسوأ ان الحادثة سُجلت تزامنا مع احتجاجات تشهدها المنطقة  على خلفية وفاة شاب آخر كان قد تم توقيفه وهرب من قبضة الأمن.

وأكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني في تصريحات اعلامية الخميس أن الاخير توفي في مستشفى بعدما هرب من التوقيف، نافيا ان يكون التعذيب سبب مفارقته الحياة.

فيما زعمت وزارة الداخلية على لسان ناطق باسمها ان الضحية الثاني جرد نفسه طوعا من ملابسه.

وقال ليد حكيمة في تصريح لإذاعة موزاييك المحلية (خاصة) ان دورية أمنية خلال قيامها بعملية تمشيط رصدت شخصا تحت تأثير مادة كحولية في حالة غير عادية من الهيجان، مضيفا ان عناصر أمنية توجهوا نحوه قصد التحري معه الا أنه دخل في حالة اكثر هستيرية وقام بتجريد نفسه كليا من ملابسه أين تمت محاولة السيطرة عليه وايقافه.

وسرعان ما كذبت لقطات من مقطع الفيديو الرواية الأمنية المتهافتة.

ونشر رواد مواقع التواصل لقطات شاشة توضح ان احد عناصر الشرطة هو من قام بنزع ملابس الضحية.

من جهتها رفضت منصة "تونس تتحري" المتخصصة في تعقب الأخبار الزائفة تحت إشراف نقابة الصحافيين هذه الرواية.

وأوضحت المنصة أنه بعد متابعة مقاطع الفيديو والتقصي فيها تبين أن ادعاء الداخلية زائف وأن رجال الأمن هم من قاموا بنزع سروال المواطن.

وفي أولى الردود الرسمية تعهّدت النيابة العمومية بفتح بحث تحقيقي في ما جاء في الفيديو، في تقص قالت انه سيشمل ايضا الأحداث الأخيرة التي عاشتها منطقة سيدي حسين على خلفية وفاة شاب في مركز امن.

ونبهت "الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الأساسية" في بيان الخميس إلى أن "سحل مواطن" قد يشكّل "خطورة (لناحية) فقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها".

كما ندد برلمانيون من الأحزاب الحاكمة والمعارضة بالحادثة على هامش جلسة عامة للمجلس، ودعى الرئيس الثاني للبرلمان طارق الفتيتي رئيس الحكومة والمكلف بمهام وزير الداخلية بالنيابة هشام مشيشي بالاعتذار للشعب التونسي.

ويدير المشيشي الوزارة الأكثر حساسية في البلاد بالنيابة بعد اقالته وزير الداخلية توفيق شرف الدين من مهامه، وبقاء تحوير حكومي صادق عليه البرلمان معلقا على خلفية صراع صلاحيات مع الرئيس قيس سعيد.

"بلادنا عرتنا"

والردود الرسمية المستنكرة لم تشف غليل رواد مواقع التواصل، اذ حفل فيسبوك بتعليقات جمعت بين الاستنكار والصدمة من الحادثة وبين السخرية من الرواية الرسمية، كما انتشر وسم تحت اسم "بلادنا_عرتنا".

ودونت نايلة "سردية ظريفة يتم تناقلها منذ الصباح اليوم من مسؤولين أمنيين وإعلاميين وحتى بلاغ الإدارة العامة للأمن الوطني.. وتتمثل في أنه الشاب كان في حالة سكر وتعاطي مخدرات (وانه قام يتجريد نفسه من ملابسه بنفسه.. فعلاً فعلاً هذا الي شاهدناه في الفيديوهات التي كانت من زوايا مختلفة وأظن أنه "سحل نفسه بنفسه وضرب نفسه بنفسه أيضا".

وكتبت نرهان متهكمة "من الفضل ان نثبت اقفال على سراويلنا تفاديا لفتحها دون قصد من افراد الشرطة".

واضافت رحمة "انها وزارة الداخلية يا سادة، فلا تلموها على خلعها ملابسنا الداخلية".

من جهته قال محرز "من المستحيل ان تبلغ شرطة المشيشي هذا المستوى من التجبر والعنجهية في فضاء مفتوح امام اعين الناس دون ضوء اخضر وضمانات من رئيسهم المباشر.. محاسبة هذا التعيس الفاشل يجب أن تكون من بين أولويات المرحلة القادمة وإزاحته بكل الوسائل مسألة حيوية".

سلوك ممنهج رغم التكذيبات والتطمينات

والإصلاحات التي عرفتها الأجهزة الأمنية بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لا تزال غير كافية رغم التحسن الطفيف الذي احدثته.

وهذه أحدث أعمال عنف تكون الشرطة طرفا فيها، ما أثار احتجاجات وانتقادات لاذعة ضد وزارة الداخلية بعد سلسلة من الانتهاكات المشابهة.

وتأتي هذه الحادثة بعد أشهر قليلة من وفاة الشاب عبد السلام الزيان المصاب بداء السكري في مركز للإيقاف في آذار/مارس بصفاقس (جنوب وسط) بعد تأخره في تناول جرعات الأنسولين. وتم اتهام الشرطة بالإهمال والتقصير فيما حصل.

وقبلها فقد الشاب أحمد قم خصيته بسبب العنف المبرح على أيدي الشرطة في مركز الإيقاف في المنستير (ساحل) أثناء الاحتجاجات الاجتماعية التي اجتاحت عدة مدن تونسية في كانون ثان/يناير الماضي.

وتدفع وزارة الداخلية كبقية أجهزة الدولة ضريبة الانقسامات السياسية التي تعطل اي إصلاحات جذرية.

كما تسللت المعركة السياسية الى جدرانها المتصدعة ما تسبب في ظهور انقسامات عميقة في داخلها على خلفية الولاءات الحزبية.

وزادت النقابات الأمنية التي تحولت تدريجيا الى مارد عصي عن الترويض وجسم برؤوس متعددة يزاحم القيادات الأمنية في مواقع القرار العليا من عمق المشكلة.

والإفلات من العقاب السمة الرئيسية الطاغية على التجاوزات و"الجرائم" الأمنية التي وقعت قبل انتفاضة 2011 وبعدها.

ومن النادر انتهاء التحقيقات الادارية التي تعلن عنها وزارة الداخلية عقب احداث مماثلة بتحويل الملف الى القضاء، فضلا عن ان الاحكام القضائية تبقى وفق مراقبين دون المأمول في صرامتها.