رحلة استكشاف الأرض والإنسان في معرض عبدالله السعدي بالبندقية

القيّم الفني طارق أبوالفتوح يجمع أعمال الفنان ومسارات استكشافه عبر الطبيعة والذاكرة والرؤى الإنسانية مترامية الأبعاد في 'أماكن للذاكرة، أماكن للنسيان'.
خالد بن صالح
الإمارات

يمثّل معرض الفنان عبدالله السعدي "أماكن للذاكرة، أماكن للنسيان" الجناح الوطني لدولة الإمارات في الدورة الـ 60 لبينالي البندقية المنعقد من 20 أبريل/نيسان الى 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بإيطاليا، وهو تجربةٌ فريدةٌ في كيفية تصميم جناحٍ يضعُ الأعمال الفنية متعدِّدة الوسائط في منحى تفاعلي مع الزوّار، في مسار استكشاف رحلة الفنان عبر الطبيعة والذاكرة والرؤى الإنسانية مترامية الأبعاد. وهو عملٌ تركيبي مُلهِم استطاع من خلالهِ القيّم الفني للمعرض طارق أبوالفتوح أن يجمع مسارات طويلة من رحلات الفنان المتشعّبة في مكانٍ واحد، وهو تحدٍّ فرض ترتيباً محكماً لكل العناصر والقطع التي جمعها الفنان عبر أربعة عقود من تجربته الفنية الطويلة.

في هذا الحوار نقف مع القيّم الفني طارق أبوالفتوح الذي يشغل حالياً مدير قسم فنون الأداء والقيّم الأول لدى مؤسسة الشارقة للفنون على العناصر الملهِمة التي تم إبرازها لتستقطب عشاق الفن المفاهيمي المعاصر وتخلق تجربة تفاعلية متكاملة مع الزوار لتضعهم في قلب الرحلة التي خاضها الفنان في استكشاف الأرض ومكانة الإنسان فيها.

 بدايةً ما هي المرجعية الفنية التي انطلقتَ منها لتجهيز الجناح بهذه الطريقة ليكون وجهةً ملهمة سواء للزوار المتخصصين أو من مختلف الشرائح ومن أين استوحيت اسم المعرض؟

استوحيت اسم المعرض "عبدالله السعدي... أماكن للذاكرة، أماكن للنسيان" من أعمال الفنان نفسها، حيث يقدم المعرض ثمانية أعمال أنتجها الفنان أثناء رحلاته في البرية وهي لا تستند على منطق التوثيق الحرفي لكل شيء، بقدر ما لها علاقة بالتناغم مع الطبيعة ورؤية العالم بمنظور جديد من خلالها. يبتكر عبدالله عالمه الذاتي الخاص من خلال رسم خرائط الطرق التي يسلكها وهو عالم فني خاص به يحوي بين طياته ما يُتذكّر وما يُنسى من الأماكن وذلك هو شأن الذاكرة الجمعية التي تكون تاريخ غير رسمي ينتصر بالدرجة الأولى لكل ما هو إنساني وعلى صلة بالطبيعة ولتمسي القصيدة والأحجية والحكاية والعمل الفني أمكنة في حدّ ذاتها.

يذهب عبدالله السعدي وحده في رحلاته في البرية التي تستمر عدة أيام أو أسبوع، ترافقه فقط كتب عن موضوع معين أو حيوانات (كلب أو حمار) وأحياناً دراجة هوائية أو كما في عمله الأخيرة ذهب برفقة جهاز غرامافون واسطوانات موسيقي قديمة.  

كما أنني أنطلق من معرفة سابقة بطبيعة أعمال الفنان السعدي الذي تعاونت معه في عمل بعنوان "ترحال" عام 2020 والذي يعتمد على نقوش على صخور وأحجار جمعها الفنان في رحلةٍ برية دامت ثلاثة أيام في إمارة الفجيرة، ما دفعني إلى استلهام فكرة "التناص" مع الطبيعة لتكون منطلقاً للتعامل مع رحلات وأعمال الفنان الذي يعتبر من الرعيل الأول من الفنانين الإماراتيين ممّن اقتحموا مجال الفن المفاهيمي برؤى حداثية مؤسِّسة باتت بمثابة مرجعيات فنية لمن جاؤوا بعدهم من فنانين.

في ما تمثّل التحدي الأكبر لك كقيّم فني لعرض الأعمال الثمانية للفنان عبدالله السعدي والذي يوصف بأنه فنان غزير الإنتاج ويشتغل بشكل يومي؟

كان التحدي الأبرز بالنسبة لي كقيّم فنّي عند بدء العمل على هذا المعرض هو كيفية اظهار التجربة الثرية للفنان وغزارة انتاجه منذ أربعة عقود، ونقل ملمح هام من مساره الفني وهو عمله الدؤوب المستمر على الأرشفة والتوثيق. وعندما قررنا أن يركز المعرض على الأعمال المرتبطة بالرحلات، قال لي عبدالله أنه لا يبدأ في الرسم أو الكتابة أثناء الرحلة إلا عندما يشعر بالتوحد مع الطبيعة وهو ما ذكرني بما كتبه أدونيس في كتابه التأسيسي "ديوان الشعر العربي" عن ممارسات الشعراء القدامى في الجزيرة العربية.  بدأت في قراءات متعددة عن تاريخ الشعر العربي ووجدت الكثير من التشابه بين أعمال عبدالله وممارسات الشعراء العرب مما شجعني لدعوة الجمهور إلي التأمل في نهج ممارساته الفنية المعاصرة علي علاقة مع العملية الإبداعية للشعراء في شبه الجزيرة العربية منذ ما يربو على الألفي عام. في أثناء الرحلة التي تستمر لعدة أيام يقوم عبدالله السعدي بالتخييم في البرية. وبشكل تدريجي يتولد إحساسه بالتوحد مع الطبيعة وعندها فقط يبدأ في الرسم أو الكتابة على قماش اللوحات أو الأوراق في تطابق لما كان عليه الشعراء العرب القدماء حين كانوا يخرجون ويرتحلون كممارسة شعرية وإبداعية وهو ما يوضح الجذور التاريخية الموغلة في القدم للممارسات الفنية المعاصرة في دولة الامارات.

وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال الثمانية تحوي مجتمعةً 456 قطعة فنية نستكشف عبرها ثماني رحلات وهي "رحلة الطوبي" و"رحلة الخرير والحرير" و"رحلة النعال" و"رحلة على خطى قمرقند على الأقدام" و"رحلة على خطى قمرقند بالسيارة" و"رحلة الصوفي". ويضاف لهذه الأعمال مشروعان جديدان تم انتاجهما خصيصاً لبينالي البندقية وهما "رحلة الغرامافون في الحورة" و" رحلة الغرامافون على دراجة هوائية". على سبيل المثال عمل "رحلة الصوفي" يضمّ 87 قطعة فنية من علب حلوى قديمة قام الفنان بتثبيت قماش الرسم بداخلها وعليه رسومات لخرائط الطريق وأبجديات ومقاطع شعرية تعبر عن تجربته الفنية في البرية ورؤيته للطبيعة بمنظور مختلف.

كيف تمّ التعامل مع كل هذه المواد والخامات المجمّعة على مدار 40 سنة من الإبداع والبحث والتركيب؟

انطلقتُ من فكرة اعتبار العالم المترامي للفنان عبدالله السعدي كنزاً على كل زائر أن يبحث عنه ويصل إليه بقوة جذب بصرية وعاطفية ولذلك كانت الفكرة هو خلق مسار داخل المعرض مٌستوحى شكله من لوحات الفنان مكون من فترينات بداخلها بعض القطع الفنية معروضة بشكل متحفي وتقود الزائر إلي مساحة تشبه استوديو الفنان وفيه العديد من الصناديق المعدنية التي يحتفظ في داخلها بأعماله والتي يقوم ممثلين متواجدين بشكل دائم في المعرض بفتحها وعرض القطع الفنية المخفية داخلها للزوار بما فيها من رسومات ومخطوطات ولفائف وصخور وخرائط . يشترك في المعرض 16 ممثلاً من الامارات يستعيدوا طقوس الفنان في مرسمه، حيث يقوم هؤلاء المؤدون المحترفون بفتح العلب للزوار كما يروون لهم الكثير من الحكايات والقصص المرتبطة بالمعرض ومساراته الفنية والفكرية في أكثر من رحلة وكذا قراءة مقاطع من شعر عبدالله السعدي ويومياته.

بالحديث عن البيئة المحلية، كيف استطاع الفنان عبدالله السعدي أن يصل إلى هذه التوليفة من الأعمال اليومية إن صح التعبير لينجز أعمالاً مفاهيمية ترتبط بالطبيعة والإنسان المحلي ولكنها تتجاوز حدودها الجغرافية لتحاور العالم؟

يقوم الفنان بخلق عالمه الخاص والذاتي فهو لا يقوم بالرسم بغرض توثيق الطبيعة ولا يمكن تفسير وجودها في أعماله كتعبير عن حنين إلى الماضي يرسم صورة خيالية لمشهدية طبيعية ما قبل حداثية في الإمارات. ولا يمكن اعتبارها مشروعاً فنياً نشأ كرد فعل للتطور الحضري المتسارع. فهي تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. هي طبيعة ليست بمعزل عن الحياة المعاصرة. فلا يتجاهل السعدي في بعض الأعمال المظاهر العصرية التي تظهر من خلال أعمدة الكهرباء والطرق السريعة والأنفاق، بالإضافة إلى البيوت والمساجد والمباني العامة والنوادي والفنادق. فهو يقوم باختيار واعٍ ودقيق للأماكن التي يحتفظ بها للذاكرة وتلك التي تذهب طي النسيان، في عملية إبداعية فكرية وجمالية وحسية وعاطفية في الوقت نفسه. الازدواجية الحتمية بين أماكن الذاكرة وأماكن النسيان تتآلف مع ثيمة بينالي البندقية هذا العام "الأجانب في كل مكان"، ورغم انطلاقها من بيئة محلية وحميمية إلا أنها تنفتح على العالم وتسائله.

هل من وثائق ترافق المعرض لتضيء أكثر على أعمال الفنان؟

طبعاً هناك كتاب مرفق بعنوان "عبدالله السعدي.. أماكن للذاكرة، أماكن للنسيان" يحتوي على مقالات تحليلية ودراسات حول الممارسات الإبداعية للفنان، حيث أجرى فيه الشيخ سلطان سعود القاسمي حواراً مع الفنان حول الرحلات التي قام بها وأعماله وممارسته الفنية عموماً ونص للدكتورة عائشة بالخير عن علاقة أعمال الفنان بالذاكرة الجمعية في الامارات، كما رصد يونس مشيش المتخصص في الشعر العربي القديم التشابهات العديدة بين أعمال السعدي الفنية والشعراء العرب القدامى، بالإضافة لحصر لرحلات الفنان بقلمة وريشته مع بعض من يومياته أثناء رحلاته.

عن الفنان عبدالله السعدي:

يعتبر الفنان الإماراتي عبدالله السعدي من روّاد الفن المفاهيمي الذين عزّزوا المشهد الفني المعاصر منذ الثمانينيات وأثّروا على جيلٍ كامل من الفنانين في المنطقة. درس في جامعة العين والتحق بعدها بجامعة كيوتو سيكا في اليابان حيث درس فن التصوير الياباني بين عامي 1994 و1996. شارك في العديد من المعارض الجماعية والفردية محلياً ودولياً، في العام 2021 أنجز عملاً من الأعمال الدائمة في إطار "برنامج الفنون البصرية في الأماكن العامة" لإكسبو 2020 دبي. شارك في بينالي الشارقة 12 و13 في 2015-2017 وبينالي فينيسيا 2011- 2015 و"هنا وهناك" المتحف الجديد، نيويورك عام 2014. كما قدم معرضاً فردياً بعنوان "الطوبي" في مؤسسة الشارقة للفنون عام 2014 وشارك في معرض "تعابير إماراتية، رؤية تتحقق"و "منارة السعديات"، أبوظبي في عام 2013 وفي "لغات الصحراء" متحف الفن (كونستميوزيوم) في بون 2005 وفي بينالي سان باولو 2004 وفي منتدى لودفيغ للفن الدولي آخن بألمانيا عام 2002.