رحلة بحث عن الحرية تنتهي حيث تبدأ في 'مقتل دمية'

رواية حامد الشريف تضم بين ثناياها محفزات تستثير القارئ وتستفز فيه تساؤلات تجعله طوال رحلته يبحث لها عن إجابات بين السطور والصفحات.
غادة سيد
الاسكندرية

القاهرة - بغلاف معبر عن فكرة الرواية ببساطة ودون ضجيج يجعل من هذه الدمية الرمز، بطلا محركا لأحداث انطلقت من بيئتها لتلتقيها البطلة في بلاد بعيدة وكأنهما على موعد لتعلم الدروس وخوض التجارب، وهو ما يعكسه حجم الخط الذي كُتب به العنوان.

يقودك الفضول وأنت ترى تلك اليد الخفية على الغلاف الداكن ممسكة بالخيوط المقطعة وقد فقدت سيطرتها على الدمية ولم تعد تتحكم بها. فما سرها؟ وهل أصبحت الآن دمية حرة  ذات إرادة؟ أم ستبقى ممدة بلا حراك؟ هل حركتها ستفيدها وهي التي لاتملك إلا رصيد معرفي ضئيل؟ أم ستتخبط في دروب الحياة على غير هدى؛ تقفز من نوافذ الأحلام لتسقط في غيابات الكوابيس.

ثم يأتي الإهداء الذي أعتبره الفصل الأول للرواية، والمحرك لأحداثها، وربما كان جزءً من الأحداث التي تنساب على صهوة جمل رشيقة وعبارات سردية أنيقة تجملها عذوبة اللغة وأصالتها 

لينتقل الكاتب حامد الشريف بسلاسة ماتعة؛ يعدو بك قاطعا صفحات الرواية بفصولها الخمسة عشر. مشكلا محطات وعلامات دالة على الطريق الذي سلكته روايته يصيغها جملا قصيرة في بداية كل فصل. كهذه الجملة في الفصل الحادي عشر بعنوان " خطيئة" فقد كتب: وحدها القناعة تحول دون تشظي حياتنا.

وجملته في مستهل الفصل الثاني عشر وعنوانه "مسافة" حين كتب :  لا شيء يضاهي متعة انتهاك القوانين.

يبدأ روايته بلحظات حالمة للبطلة التي تركت وطنها بحثا عن حرية افتقدتها إثر تقييد خانق وتهميش متعمد أودى بحقها في ميراث أبيها؛ لينتهي إلى جيب الأخ الأكبر  دون رادع، وقد ظهرت إرهاصاته في ضعف الأم وغياب الوازع الديني الذي لايملك منه الأخ إلا المظاهر الخالية من الجوهر.

تروي البطلة مباشرة عن نفسها.. فها هي تستمتع بفرشاتها وألوانها على أحد أنهار الريف السويسري. 

بعد أن قايضت بمعظم ميراثها مقابل حريتها بالجزء القليل المتبقي من حقها في أموال أبيها الذي رحل ورحلت معه كل الأشياء الجميلة. أخذ معه الأمان ولم يبقي لقلبها إلا كرها لأخيها واستنكارا لضعف أمها، ورغبة في الإنتقام من الجميع ولو بالرحيل بعيدا وتركهم يعانون نظرات الاستهجان والتقريع من المحيطين.

ضمت الرواية بين ثناياها محفزات تستثير القارئ وتستفز فيه تساؤلات تجعله طوال رحلته  يبحث لها عن إجابات بين السطور والصفحات:

• هل الهروب نوع من الحرية؟ أيعد اختيارك للطريق مبتعدا عن المشاكل قرارا حرا؟ أم لايعدو أن يكون جبنا  وضعفا مستترا خلف شعار أجوف؟

•  هل انتقاء مشجبا مناسبا لكل مشكلة تقابلنا يعد حنكة ودهاء؟ أم هو التساهل بعينه بتبريرات غير مستساغة إلا من صاحبها؛ يهدهد بها ضميره قبل الغفوة، ويمنحه مسبقا صك الغفران لكل ما قد يرتكبه من خطايا مستقبلية في حق نفسه؟

• لِم نتبنى نظرية العين الواحدة؛ التي تبصر مناقب من نؤيده، ولا تقع إلا على مثالب من نعارضه؟ هذه العين ذاتها تتبدل وتتغير زاوية رؤيتها مع تغير الزمن والمواقف وبحسب الحاجات والرغبات.

• هل نسحب الثقة ممن خبرناهم؛ لبعض ذنوب اقترفوها لنمنحها لمن لا  نعلم عنهم شيئا الا ما صدروه لنا من ميزات وان خالطتها الخطايا؟

في النهاية لا تملك إلا أن تضع يدك على متناقضات بدأت تتكشف لك في شخصية البطلة الشابة.

هي ناقمة على سلبيات مجتمعها. تتمرد عليه. تنشد كل ما افتقدته فيه عند الغرباء الذين لاتنفك عن الارتياب فيهم. تتشكك في تصرفاتهم ونواياهم وهو أمر طبيعي تفرضة الغربة والوحدة فكيف لم تفطن لذلك؟

تتخذ من الرسم مهربا و  ملاذا ترسمه بريشتها لتفر من واقعها إليه.

خرجت من مجتمع يستنقصها ويرى أنها أضعف من أن تحمي نفسها فيفرضون عليها حمايتهم المكبِّلة لتخرج إلى مجتمع تراه يحتقر هيئتها وثقافتها ودينها ولايراها إلا أداه في يد الرجل رغم ما يعيشه من تحضر وتطور وبيئة  خضراء غنية.

تُعدد مساوئ مجتمعها لتهرب منه رغم ما به من محاسن تغض الطرف عنها لنجدها تعدد أيضا مساوئ مجتمعا آخر هي من اختارته ورأت فيه الواحة المريحة

فنجدها تسقط في كل اختبار مرت به وهي لا تدري، فهي تلصق كل نقيصة بمن حولها مبرئة نفسها منها.

عندما ارادت الانسلاخ من جلباب أخيها وعباءة أمها، فما كان منها إلا أن خلعت عباءتها استجابة لحيلة ساذجة  تتناسب مع سذاجتها من غريب لم تلتقيه إلا مرة أو مرتين،  حين قال لها:" الفتاة الجميلة لا تخفي وجهها.".

هي تحب وتكره ثم ترتاب ثم تبتعد وتقترب لتغادر ثم تنتظر أن تعود. تفعل كل ذلك عن قناعة، بسبب  تخبطها نظرا لوحدتها في بلاد غريبة، تراها تضخم الأمور وتتوهم أشياء وتمنطق اللامنطق وتُكيف تفسيرات بعيدة عن الواقعية.

تارة تقول: " فنحن الفتيات يطربنا كثيرا الغموض. " ثم تقول: " ما يستهوينا في الشباب صدقهم وعفويتهم."

تتحدث عن جشع الأخ واتتهازيته وتخليه عما يتشدق به من مبادئ  وتفعل مثله حين تقول: "أظن الكتاب سيحقق نجاحا كبيرا بحكم أن الكاتبة فتاة. أظنكم تدركون أن قومي سينجحونه وإن من باب امتهانهم لنا معشر النساء. لايهم الأهم أن يلقى رواجا ويحقق مكاسب كبيرة".

"سأصبح مشعوذة .... ما الضير في ذلك؟! لعلها تجارة مربحة طالما ليس لي صنعة اتكسب منها هنا! فالفن كما يقال لا يؤكل عيشا."

ثم حديثها عن تمسكها بدينها أمام محاولات الراهبة. لكنها تقول:

"تلك العباءة اللعينة كانت سببا فيما آلت إليه الأمور.. فمن حقي المفاخرة بما أمتلكه من جمال يفتقده غيري. وليس عيبا لو أبديته للعيون المتلهفة وبارزت فيه غيري من الفتيات".

* تقول عن حبيبها الذي سيغير دينه من أجلها: " لن أرهن حياتي لمجهول يترصدني. قد يأخذني على حين غرة ويعيدتي لدوامة أحزان لم أنجو منها".

ثم تقول في نفس الصفحة: "لعلنا كنا أنا وهو مفردتين جميلتين جاءتا في سياق أفسد معناهما".

فلا يسعك وانت مدفوعا من الكاتب الذي نجح في استثارة عواطفك وأجج مشاعرك تجاه محاولة إنقاذها او تنبيهها لما غفلت عنه؛ خاصة وانت تراها في كل مرة تسلك الطريق الآخر. ولم لا وهي التي تباغتك بين الفينة والأخرى بحوار مباشر معك طالبة منك الدعم أو التأييد.

لكن ما أن تصل إلى مشارف نهاية الرواية تلحظ أنها فطنت لكل ما كان مخفيا عنها وتعلمت الدرس بالتجربة. علمت من تجربتها ما كنت تحاول تلقينها إياه، فكان ذلك لها أنفع وأنجع وأكثر رسوخا؛ حين اكتشفت أنها لم تكن سوى دمية يحركها الآخرون كيفما شاؤوا. ولم تكن هي سوى أحد هؤلاء الآخرين؛ عندما تلاعبت بقناعاتها من أجل اثبات لاشيء.

فكان قرارها بالعودة من حيث جاءت.  فالمواجهة تبدأ من هناك، والحرية أن تقاوم بوجهك. لا  أن تدير ظهرك للمشاكل وتفر منها. فهذا قمة الضعف والجبن والعبودية.

عادت وهي لا تملك اليقين في النتائج لكن يقينها الراسخ في أنها لن تكف عن المحاولة من أجلها وأجل من يعانون مثلها.

وأخيرا قد تكون الدمية لفتى أو فتاة و لكل من شعر بالظلم  والتقييد وحاول نيل حريته بالفرار.، إعلم أن الحرية بالمواجهة.

اقتباسات:

* لعلهم يظنون أن المرأة العربية المغرقة في البداوة متخلفة لا تتقن شيئا غير أن تكون أنثى يفترشها رجل.

* ربما لأننا لا نرى قيمة ما نملك حتى نرى فقدا يعيشه غيرنا. أو أنني بحاجة إلى تجارب حقيقية حتى أعود لرشدي.

* أجرمت في حق نفسي عندما لم أرض عن معيشة لم تكن بذاك السوء، إذ يكفيني منها  وجود أمي.

* كنت أظن لفرط غبائي أن هربي انتصار كيير يُسقط خصومي بينما كنت أكرس ضعفي، وأمنحهم فرصة الإمعان في قتلي أو التعدي على حقوقي.

ثم تختتم كلامها في رسالتها للحبيب: " كان عليّ العودة لموطني كي أستعيد نفسا  انتُهكت آدميتنا، وروحا عُذبت حتى ضاعت هويتها لعلنا نجتمع يوما ما إذا وجدتها. عندها سأكون قادرة على المواجهة. ووقتها فقط أصبح جديرة بك؛ إن لم يجهزوا علىّ، ويتحول مقتل دمية إلى حكاية دامية لفتاة مناضلة عجزت عن نيل حقوقها".

رواية  "مقتل دمية" للكاتب السعودي حامد الشريف رواية لغتها مبهرة سردا ووصفا وحوارا،  يكفيه جملة من كلمتين: " أيُلمس الزمن؟".

هي مزيج من البلاغة والرصانة والحصافة وحتى بعض الجمل الفلكلورية الشعبية،  بساتين من روعة ووديان من جمال.