رحلة بحث عن 'وجود مفعم بالمعنى' مع فرانك مارتيلا

الفيلسوف الفلندي والباحث في علم النفس يسعى لمعالجة السؤال الأكثر إلحاحا على الاطلاق: ما الذي يجعل الحياة ذات مغزى؟

يفتتح الفيلسوف والباحث في علم النفس فرانك مارتيلا كتابه "حياة رائعة.. تأملات حول الوصول إلى وجود مفعم بالمعنى" بتساؤلات الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد "كيف جئت إلى العالم؟ لماذا لم أُسأَّل عن ذلك؟ لماذا لم أُعلم بالقواعد والقوانين لكني أقحمت فقط في الصفوف...؟ كيف بت متورطًا في هذه المغامرة المدعوَّة بالحقيقة؟ لماذا يتعين عليّ المشاركة؟ أليست تلك مسألة اختيار؟ وإذا ما أجبرت على المشاركة، أين المدير؟ لدي ما أقوله عن هذا. ألا يوجد مدير هناك؟ إلى من سأتقدم بشكوتي؟" لتشكل مدخلا لتساؤلاته التي يتناولها كتابه الذي ترجمه صامويل خيري وصدر أخيرا عن دار صفصافة، ويعد جولة بحثية تجمع الكثير من القضايا والأفكار من الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والأدب، وذلك لمعالجة السؤال الأكثر إلحاحا على الاطلاق: ما الذي يجعل الحياة ذات مغزى؟

يتسأل مارتيلا أين كنتَ عندما أصابتكَ لا جدوى الحياة؟ هل كان ذلك أثناء عشائك الثالث الذي تجهزه في الميكروويف خلال أسبوع؟ حين كنت تفكر مليًّا في نكهة "الكاتشاب" وفوائده الصحية؟ ماذا عن ضغطك على زر الإرسال الساعة الثانية صباحًا، بعد انتهائك من مهمة عمل طارئة لتكتشف فقط أن العالم لن يكون على الأرجح قد تحسَّن بقدر شبر واحد على ضوء إنجازك؟ ربما فاجعة مغيرة للحياة، جعلتك تدرك أنك لم تبذل الجهد الكافي للتفكير فيما تريده حقًّا منها. أو ربما صحوت ببساطة ذات نهار محدقًا في ذاتك في مرآة الحمام، وتعجبت إذا ما كانت هناك أي إضافة لهذا الشيء القصير المجنون المدعو الحياة.

ويسعى إلى تفسير لماذا يسعى الناس وراء المعنى في المقام الأول، ويفحص الخطأ التاريخي الذي مهد لصعود القلق الوجودي المعاصر، ويوفر طرقًا مطروقة سهلة تقود إلى وجود مفعم أكثر بالمعنى. ويقول "ربما تبدو بعض الأفكار غريبة، قد تبدو أخرى واضحة، وتبقى أفكار أخرى قد تتبناها بالكامل فعلًا. ومع ذلك، فهذه الأفكار معًا تهدف إلى توفير أساس صلب وراسخ لك لكي تبني عليه وجودًا حياتيًّا مرضيًا، مبرزًا للحياة، ومفعمًا أكثر بالمعنى.لا تقلق، لست وحدك، ستكون في هذا الكتاب في مصاحبة كثير من المفكرين والفلاسفة العظماء، الذين بلغوا حد المواجهة مع ضآلة الوجود وانتهوا على الجانب الآخر مع إحساس مجدد مؤكد على الحياة بجدواها".

ويضيف مارتيلا "نحن نتوق كبشر إلى أن تكون لحياتنا أهمية، وأن تكون ذات قيمة ومعنى. "نُصلب لنَطمَح في المعنى" كما قد حاجج أستاذ علم النفس "روي بوميستر".يعد الافتقار إلى المعنى نقصًا نفسيًّا مصاحبًا باكتئاب وأحيانًا انتحار.يعد المعنى ضروريًّا للدافع الإنساني، والسعادة وبشكل أكثر عمومية لامتلاك حياة تُعتبَر جديرة بالعيش. لقد أظهرت في الواقع عدة دراسات أن أولئك الأفراد الذين اختبروا إحساسًا قويًّا بالهدف في الحياة يتجهون إلى أن يعيشوا أكثر. استقى "فيكتور فرانكل" الناجي من المحرقة والطبيب النفسي المشهور، هذه الخبرة من مصدرها الأولي خلال الوقت الذي أمضاه في معسكرات الاعتقال. فقط أولئك الأفراد الذين كانوا قادرين على الاحتفاظ بإحساس بالهدف في مثل هذه الظروف القاسية امتلكوا فرصة للنجاة. كان مغرمًا باقتباس مقولة "نيتشه": "من يملك سببًا يحيا من أجله يمكنه تحمل أي شيء تقريبًا".

ويرى أن الخلل يتمثل في أن الثقافة الغربية قد أصبحت بشكل متزايد غير مؤهلة للإجابة بأي طريقة حقيقية أو مرضية على "لماذا" المحتومة. فقد أجابت أغلب الحضارات عبر التاريخ على التوق إلى المعنى بتوفير إطار ثقافي ثابت يشتمل على إجابات لأسئلة الحياة الكبرى. عندما تساءل أسلافنا "كيف يتعين عليّ أن أعيش حياتي؟"، رجعوا إلى ثقافتهم وعاداتهم، ومعتقداتهم، ومؤسساتهم الاجتماعية الرصينة والثابتة لتقدم لهم الإرشاد. إلا أن العصر الثقافي الحالي، قد زعزع استقرار الأسس القديمة للمعنى. على الرغم من أن العلم المعاصر قد حسّن إلى حد كبير ظروف الحياة المادية، فإنه استبعد تفسيرات ومنظومات العالم القديم القيمية وعجز عن توفير أساس جديد صلب للقيم الإنسانية والمعنى. كما يحاجج المتخصص بتاريخ الأخلاقيات، الفيلسوف الاسكتلندي "ألاسداير ماكينتير" بأن القيم الغربية الحديثة بنيت على فتات رؤية أقدم للعالم لم تعد تصنع معنى بعد. لقد ورثت المجتمعات الغربية قيمًا معينة لكنها فقدت الصلة بالرؤية الأعرض للعالم التي استخدمت كأساس وتبرير لهذه القيم. وتتنامى حاليًا في أرجاء العالم قوة تأثير هذه الرؤية الغربية للعالم المتزايدة علمنة وفردية.

تحتاج لأن تعيش حياة من اختيارك الذاتي، وأن تقود ذاتك

ويشير مارتيلا إلى أنه في الرؤية العالمية المثالية المعاصرة، أنت حر في تعيين مصدر فهمك الخاص للمعنى، وشق دربك الخاص الفريد، المبني على قيمك المختارة بشكل ذاتي. مع الأسف بدلًا من أن تشعر بالتحرر، تشعر فقط بأنك خاوٍ. تشقى أكثر، وتعمل بشكل أكثر براعة، وتأثيرًا، عن الأجيال السالفة، إلا أنك في حيرة على نحو متزايد من تفسير سبب شقك لطريقك بهذا التصميم. ما الغاية التي يخدمها عملك الممل؟ لقد سقطت برغبتك في فخ الانشغال الذي يصفه ببلاغة المؤلف تيم كرينر هكذا: "يعمل الانشغال كنوع من التأكيد الوجودي المجدد، تحوط ضد الخواء؛ لا يُحتمَل بالتأكيد لحياتك أن تكون خاوية أو تافهة أو بلا معنى إذا أنت مشغول جدًّا، ومحجوز تمامًا، محل طلب كل ساعة يوميًّا".تفعل كل ما تستطيعه للاحتفاظ بهذا الإحساس بالانشغال والاستعجال لتجنب الملل والتهديد بالبقاء وحيدًا مع أفكارك. يبدو الناس راغبين في السعي وراء أي أهداف تحددها رموز سلطة ما، كي تجنبهم التفكير فيما يريدون حقيقة هم أنفسهم أن يصنعوه بحياتهم. يفسر هذا شذوذ الوجود المعاصر الذي انتبه له إيدو لانداو: "يكرس كثيرون تفكيرًا أكبر في ليلة واحدة للتداول بشأن أي مطعم أو فيلم يتعين أن يذهبوا إليه عما يكرسونه في حياتهم بأكملها للتداول بشأن ماذا يمكن أن يجعل حياتهم مفعمة بالمعنى".

ويخاطب مارتيلا قارئه "تحتاج لأن تعيش حياة من اختيارك الذاتي، وأن تقود ذاتك، إلى فكرة واضحة فيما يتعلق بأي طريق تريد أن تسلكه. تحتاج لأجل ذلك إلى بعض القيم الجوهرية لتساعدك على اجتياز تحديات الحياة. ولذلك تحتاج إلى أخذ بعض الوقت للتأمل ووضع اختياراتك الحياتية موضع تساؤل ومواجهة أي شك وجودي قد يبقى تحت سطح وجودك.هناك تاريخ طويل وحافل من المفكرين ـ يمتد من ليو تولستوي وتوماس كارليل وسيمون دي بوفوار إلى سورين كيركغارد وآلان واتس ـ الذين وجدوا أنه بمواجهة عبث الحياة والإيمان بتفاهة الوجود فقط يمكن أن تحرر نفسك لتجد إحساسًا مفعمًا أكثر بالمعنى في حياتك. وهنا نوجه إلى طريق جديد للتفكير في المعنى الذي يخاطب إنسانيتنا العامة، فبالتالي لا يهم هنا موطنك الثقافي، أو الديني، أو غير ذلك، إذ إنك ستقاد نحو حياة مرضية أكثر ومفعمة أكثر بالمعنى".

ويؤكد على أن "القدرة المذهلة للبشر على الحب، والاحتفال، والندب، والغناء، والرقص، والحلم، تلك الحياة الناشئة من تكدس الأكسجين، والكربون، والهيدروجين، وباقة من الذرات الأخرى، تمثل عجبًا يستحق التقدير. كلما نُقدر الحياة الإنسانية كحدث اعتباطي، ولا يمكن التنبؤ به، يتعين علينا أن نكون ممتنين أن كل واحد مننا يحوز حياة فريدة ليعيشها. يملك الوجود الإنساني قيمة ومعنى حتى في كون مجرد من أي قيمة مطلقة؛ في الحقيقة، أنت تجعل الوجود ذا قيمة بتعيين قيمة له.ركز على المعنى في الحياة، عوضًا عن التأمل في معنى الحياة".

ويخلص مارتيلا قائلا "لا يدور المعنى في الحياة حول الحياة بشكل عام، إنه يدور حول حياتك. إنه يدور حول الكيفية التي يمكن بها أن تمارس وجودك الفريد كوجود ذي معنى وجدير بالحياة. وتعد ممارسة وجودك الفريد كوجود ذي معنى أبسط مما قد تظن، اتصل بذاتك بمتابعة الأنشطة والأهداف التي تحمل معنى لك؛ ابحث عن مساحات للنمو واستغل المجالات التي تتقنها؛ اتصل بآخرين بالسعي إلى العلاقات الحميمية، وأحسن صنعًا إلى الآخرين. قد لا يكون لهذه المصادر الأربعة للمعنى صدى ثوري كبير، لكن نقاط قوتهم تكمن في هذا بالضبط. إنهم يمثلون حجر الزاوية بالنسبة لوجود ذي معنى يمكن أن تدركه فعليًّا أنت –وكل شخص آخر– كأمر ثمين. كف عن مطاردة أشباح الدهور الماضية. كف عن الاشتياق لمعنى مفروض على الحياة من فوق. كف عن السماح للآخرين بوضع المعايير لحياتك. عوضًا عن ذلك ركز على جعل حياتك الخاصة مفعمة أكثر بالمعنى، وحيوات أولئك الذين تهتم بهم. قد يكون لهذا صوت النصيحة البسيطة، لكن في داخلها يكمن الطريق إلى حياة ذات معنى. كما كتب "كامو": "حقيقة واحدة، إذا تكون جَلية، تعد كافية لتوجيه وجود ما".