"رحلة واحدة وسبع طائرات" أدب الرحلة بمذاق قيمي

الشاعر المصري ناصر صلاح يسرد رحلته إلى مدينة طهران عام 2006 .
الكتاب يستعمل وسائل التحفيز الفني، والتي تركزت في الإعلانات السردية التي تعمد لتجهيز القارئ لمفاجآت قادمة
الطبيعة الفكهه بالكتاب مستقاة من مصرية صميمة شاعت بأنحاء الكتاب الممتع

ورد في أسفار التراث القيم مديح الأسفار والرحلة، فقال الثعالبي: "إن السفر يفتح المذاهب، ويجلب المكاسب، وُيكسب التجارب، وُيطلع على العجائب، ويشد الأبدان، وُينشط الكسلان، وُينسي الأحزان، ويحط سورة الكبر، ويبعث على طلب الذكر"، لهذه الفضائل ذاعت محبة أدب الرحلة لدى القراء، فأقبلوا عليه ينهلون من نبعه الثرى، ويمتعون عقولهم بآيات الفكر، وقلوبهم بضوء الاعتبار في أحوال وثقافة الآخر.
وعند طرق باب كتاب "رحلة واحدة وسبع طائرات" للشاعر ناصر صلاح، 2019، نجد وصفًا للكتاب في استهلاله بكونه سرد رحلة سفر الشاعر إلى مدينة طهران عام 2006، ممثلًا لشعراء مصر في مؤتمر القدس الدولي، وأنها رحلة واحدة استقل خلالها سبع طائرات، وحدثت فيها أحداث طريفة وأخرى جادة بتعبير الكتاب. 
وعند المضي قدمًا في القراءة يجد القارئ مادة شيقة جاذبة تحقق قاعدة الكتابة الأثيرة بوجوب تثبيت القارئ وتوثيقه بحبال المتعة الفنية، فلا يملك فكاكًا، واستعمل الكتاب وسائل التحفيز الفني، والتي تركزت في الإعلانات السردية التي تعمد لتجهيز القارئ لمفاجآت قادمة، ففي سعي الشاعر وحصوله على الموافقات اللازمة لسفره، وتأكيد المسئولين أنه لا توجد عوائق أمامه لإتمام الرحلة، يقول: "لكن اللي جرى غير كده خالص، ولا في الأحلام" ص 14، وفي الصفحة التالية حول سفرة الثلاثة أيام المفترضة والمخطط لها ببرنامج طيران الخليج قبل الوصول لمقصد الرحلة، يقول: "هذا هو المقرر علي طيران الخليج .. لكن مفيش مقرر بيحصل أبدًا!!!!" ص 15.

قماشة الرحلة كانت تستأهل إشباعًا أكثر، وإبحارًا أطول، رغم تبرير الشاعر بضياع مدوناته التفصيلية عن الرحلة، إذ كان يجب إثبات نصوص مهمة سواء في الهامش أو في المتن أو عبر ملحق

وتستمر هذه الأسلوبية في شغل القارئ، وكأنه يقول انتظر معي وسترى ما يعجبك، وقد كان، يقول لرجل الأمن القومي في مطار القاهرة: "ممكن اطلع الصالة؟ فقال: بسلامة الله. قلت: مش هلاقي الأمن الغذائي بيطلبني بعد شوية؟ فقال: لا، إطمئن. لكنني لم أطمئن مطلقًا لأن ما حدث بعد ذلك كان حلمًا ما بين الروعة – الاندهاش الجميل - والروعة – الخوف المطلق - كما سنرى في الحلقات القادمة إن شاء الله" ص 17.
والمرح المحبب الذي تشربت به أنحاء الكتاب، يقدم لمحة عن الشاعر الذي ضمت طبيعته في آن واحد طبيعة المثقف الفاعل، وطبيعة ابن البلد "ملح الأرض" المصري البسيط الطيب، ابن شعبنا الذي لا يعرف ترف الأثرياء، ففي مفارقات ساخرة لا يملك معها القارئ سوى الإبتسام لأنها قريبه من حياته وخبراته، عندما يدخل فندق الإنتركونتيننتال: "ولأول مرة أشاهد الفنادق الكبيرة من الداخل، فقد شاهدت فندق 2 نجمة في الأقصر بمؤتمر أدباء مصر عام 2004، وكان منزلي الضيق أفضل منه ألف مرة، بهرني الجمال وأدهشني النظام وسحرني المكان" ص 21، وتجربته مع بذخ الفنادق الفاخرة، وترفها المسرف، يقول: "الله .. الله .. ده جناح من غرفتين وحمامين، (..) في الصباح تناولنا الإفطار وطبعًا حاجة تانية خالص اتضح للواحد إنه لم يفطر قط في حياته" ص 22 بتصرف.
وهذه الطبيعة الفكهه مستقاة من مصرية صميمة شاعت بأنحاء الكتاب الممتع، فعندما يلتقي به ويعرف بنفسه أحد رواد المؤتمر: "أهلا وسهلًا .. عارف الأبيضاني رئيس منظمة شباب الأمة بلبنان سني"، فيرد عليه الشاعر في لماحية سخية بالظرف عندما يسأله اللبناني: "أخى من؟!"، يقول "عارف الأسمراني!! ابتسم الرجل وقال: هكذا المصري، دائمًا ضحوك" ص 57.
وبالكتاب عبارة آراها مركزية معبرة عن الطيبين من المصريين، فعندما أنهي سفرته عقب انفضاض المؤتمر فورًا وأصر على العودة لمصر في احتجاج معبر عما يفارق ثقافته وهويته، ولما وصل مطار القاهرة يقول: "فوجئت في المطار بجزء كبير من الوفد المصري والفلسطيني يعود، لكن من طريق دبي في نفس اللحظة، لم أخرج مع الوفد رغم مراسم الاستقبال، وخرجت مع الغلابة" ص 79.
وكتاب الرحلة رغم إيجازه سخي بالتفاصيل والمفردات الدقيقة، مع استعمال لغة طيعه متشربة بالعامية المصرية السهلة، واستعمال علامات الترقيم والأصوات المكتوبة، وهي تناسب سرود اليومي الفيسبوكية المشهورة، كما ضمت أقوالا وأمثلة ونصوصا تداولية غامرة هادفة للقيم الوطنية، ففي تبويب "الله أكبر فوق كيد المعتدي" بالكتاب نجد المثقف الفاعل الذي يستثمر المناسبة لإظهار قيم المقاومة، ففي الفندق يطلب من مرافقه أن يدعو له الشعراء، ويحضر ببهو الفندق شعراء عرب وأجانب، ويدور بينهم حديث جماعي حول الشعر ودوره الوطني، ثم التنعم باستماع القصائد، ثم يطرق الأسماع عزف علي البيانو للنشيد الحماسي الشهير، فيقترح الشاعر أن تُعاد المقطوعة والمساهمة بغناء جماعي، ويثبت في الكتاب النص كاملًا لإعادة طقس المقاومة وتثمير سحر الثبات والمنافحة عن هوية الوطن العروبي. 
يقول: "كانت لحظات اقشعرت فيها الأبدان، وصفت فيها الأرواح وانشرحت القلوب، ودمعت العيون" ص 48، ثم يقدم لمحة ذكية عالية الجودة حول هذا البعد المهم في الكتابة، يقول: "سبحان الله! أي قبول هذا، وأي إخلاص يرفع الله به كلمات عبدالله شمس الدين في مكان غير المكان وعلى ألسنة غير الألسنة" ص 49، وتنتهي الأمسية الثقافية الراقية ويصعد الشاعر لغرفته في سعادة غامرة، يقول: "وأنا في منتهي السعادة والرضا، لذا لأول مرة منذ الخروج من القاهرة أنام نومًا عميقًا مريحًا، فدعوني أنعم به ونكمل بعد" ص 49.  

أدب الرحلات
سخي بالتفاصيل والمفردات الدقيقة

هنا نجد تذوق اللحظة المسرودة الماضية فحضرت بهيئتها الآن، فكانت واقعًا جديدًا بالكتابة، عاشه القارئ مع السارد، وحصلت بينهما الصحبة، بالتالي كانت وجاهة الإستئذان. ومصاحبة القارئ حققت المعايشة، حيث السير مع الحكاء طوال الرحلة نرى بعينيه، ونتذوق الحدث بمشاعره، وهي أسلوبية ضاعفت من متعة الرحلة للقارئ، يقول فور وصوله الفندق قبل ليلة المؤتمر: ".. كل فرد في غرفة مستقلة، ولن أصف الغرفة لكم فأنا متعب أود النوم أولًا" ص 33.
وأتت لمحات قيمة المقاومة الوطنية أيضًا في ظلال الحكي عن شخصيات ألتقى بها في الرحلة، فيصف مأساة جمال الدرة والد الشهيد محمد الدرة وكان بصحبته عندما عطبت الطائرة الأولي، يقول: "طب الراجل المريض جمال الدرة اللى هيعمل 24 عملية، وعمل زيهم من ساعة استشهاد ابنه هيبات فين؟!" ص 19، وفي موضع آخر يحكي عن حديثه مع الدره حول وقائع الشهادة، وما أصابه من رصاص الغدر، وكيف أجرى عدة جراحات، وتبقي مثلها.
ورغم القيمة الوطنية، ومحبة الشاعر لوطنه العروبي، وشوقه لوطنه المصري، ومنافحته عنه، فهو يلوم أيضًا على واقعه السياسي والاجتماعي، في مفردات كثر، فيقول عند ضياع الآيديهات الخاصة بالمشاركين في المؤتمر، فيصف هذه الفوضي: "بدأنا الفوضي المصرية" ص 36، وكأن الفوضي المصرية حتمية وعلامة لفوضي نموذجية في مواطن أخرى. كما يشير لإشارات المرور في البحرين في ترانزيت مر به لساعات أنها: "بلا عساكر، فقط العلامات والجميع يحترمها، حتى المصري الذي لا يحترم الإشارة في بلده" ص 76، كما يعجب لبعض العرب الذين تشغلهم الشهوات، فهذا العربي في الطائرة الذي تعلق عيونه بفتاة أجنبية، ثم الممشي الكهربائي في مطار دبي، وحجرات الكمبيوتر للإطلاع واستعمال الإيميلات وكيف دخل الشاعر لأحد الأجهزة بعد مغادرة أحدهم فوجده كان يشاهد موقعًا إباحيًا، ولم يكلف نفسه حتى إغلاقه في مجاهرة صريحة بالمعصية، ويعقب للحضور عن الموقع المفتوح على الشاشة: "مش أنا ده واحد كان هنا ونسي ياخده معاه" ص 29.
كما تحدث الشاعر عن أنماط من الشخصيات ومواقفهم، وكان منصفًا في ترداد الهنات والحسنات، وفي بيان الاتجاهات والمواقف، وتعداد المواقف الثقافية والسياسية، ويوضح قيمة مهمة عن المقاومة الموقفية، أي المقاومة التي تلتزم بمبدئها في المواقف المتباينة، فعقب عودته بسنوات يتم دعوته لمؤتمر شعري أخر، فيرفضه، ويشير للمتصل به أنه لبّى الدعوة السابقة عندما كانت قضية دعم لفلسطين، أما مع تبدل المواقف فإنه يرفض الدعوة، ويجد بالصحف أخبار عن الوفد الأدبي ويسعد أنه لم يجد بأعضائه أحدًا يعرفه.
يبقي أن نذكر أن قماشة الرحلة كانت تستأهل إشباعًا أكثر، وإبحارًا أطول، رغم تبرير الشاعر بضياع مدوناته التفصيلية عن الرحلة، إذ كان يجب إثبات نصوص مهمة سواء في الهامش أو في المتن أو عبر ملحق، ومنها استعمال صديقه لقصيدة له في موطن المثول أمام مقام الرسول (عليه الصلاة والسلام) الشريف، بمسجد المدينة المنورة، وكان هناك أفارقة معه يدفعونه، فتمتم بقصيدة الشاعر "مكسوف ووشي في الأرض منك يا رسول الله"، وكنت أرى إثبات القصيدة على الشأن الذي وضحته، وهذا مثال لنصوص وتفصيلات كثر كان يمكن إثباتها، كما أن مدخل الكتاب كان يصلح عتبة موازية في الغلاف الأخير بامتياز.