رسالة اردنية الى المزايدين... والى اسرائيل

بعد أربعة وعشرين عاما على اتفاق السلام مع إسرائيل، يكتشف الأردنيون كيف عمل الملك حسين على حمايتهم، ولو غصبا، عن إرادة بعض الجهلة الذين يهوون الشعارات الفارغة.

قطع الأردن الطريق على المزايدين في الداخل والخارج. لم يكن قرار الملك عبدالله الثاني القاضي برفض استمرار تأجير أراضي الباقورة والغمر الى إسرائيل سوى خطوة أخرى تكشف المرونة الأردنية في التعاطي مع المستجدات الإقليمية من دون التخلي عن مبادئ ثابتة مرتبطة بمصلحة المملكة. ما حصل تطبيق عملي لشعار "الاردن اوّلا" الذي رفع في عمّان وكل مدينة اردنية في مرحلة ما بعد خلافة عبدالله الثاني لوالده مطلع العام 1999.

تتطلب مصلحة المملكة في أحيان كثيرة اتخاذ قرارات حاسمة. لم يتردد عبدالله الثاني وقبله الملك حسين، رحمه الله، في اللجوء الى الحسم عندما تطلب الوضع ذلك. ليس توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل في السادس والعشرين من تشرين الاوّل- أكتوبر 1994 سوى قرار مصيري آخر اتخذه الحسين بن طلال من اجل حماية الأردن وحقوقه في الأرض والمياه.

واجه الأردن عندما وقع اتفاق السلام حملات شديدة عليه، خصوصا من النظام السوري الذي راح يتحدث الكبار فيه عن ان "تأجير الأرض يشبه تأجير العرض". نسي اركان النظام السوري، الذي لم يرد يوما استعادة الجولان المحتل، انّه لولا اتفاق السلام، الذي سمّي اتفاق وادي عربة والذي وقعه اسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي والدكتور عبدالسلام المجالي، رئيس الوزراء الأردني وقتذاك، لكان الأردن يعاني الى اليوم من انعكاسات التجاذبات الإقليمية. لولا اتفاق السلام، لكان الأردن الضحية الاولى للقرار الإسرائيلي بالانتهاء من عملية السلام. ليس رفض تجديد تأجير اراضي الباقورة والغمر سوى ردّ على كلّ أولئك الذين خونوا الأردن في تلك المرحلة وذلك من اجل تغطية خياناتهم التي لم تصب سوى في خدمة إسرائيل.

لم يقدم الاردن على خطوة التوصل الى اتفاق سلام مع إسرائيل الّا بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو من خلف ظهره. لم ينزعج الملك حسين من اتفاق أوسلو، على الرغم من ان ياسر عرفات اخفى عنه موضوع المفاوضات السرّية التي كانت تجري في العاصمة النروجية. وعندما زار "ابوعمّار" العاهل الأردني على رأس وفد فلسطيني قبل أيام من التوصل الى اتفاق أوسلو في آب – أغسطس من العام 1993، لم يتحدث عرفات عن المفاوضات السرّية واحتمال التوصل الى اتفاق مع إسرائيل. اكتفى، على حد قول احد أعضاء الوفد المرافق له، بالكلام العام. اصرّ على الكلام العام علما ان الهدف من اللقاء كان وضع الملك حسين في أجواء ما يدور أوسلو. في ختام اللقاء، اخذ "أبو عمار" العاهل الأردني جانبا وقال له: اننا نجري مفاوضات سرّية مع الإسرائيليين، وفي حال توصلنا الى شيء سنضعك في الصورة.

عندما حصل اللقاء مع الملك حسين، كان الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي يضعان اللمسات الأخيرة على الاتفاق الذي تم التوصل اليه في آب – أغسطس، لكنه وقع في حديقة البيت الأبيض في أيلول – سبتمبر 1993 برعاية الرئيس بيل كلينتون الذي دفع في اتجاه المصافحة التاريخية بين رابين وعرفات.

هل كان على الأردن انتظار حصول اتفاق فلسطيني – إسرائيلي تقوم بموجبه دولة فلسطينية مستقلّة، قد لا ترى النور يوما، كي يتوصل مع اسرائيل الى اتفاق يحفظ له حقوقه في الأرض والمياه ويرسم الحدود النهائية للمملكة؟ لم يكن امام الملك حسين من خيار آخر بعد توقيع مصر معاهدة سلام مع إسرائيل في آذار – مارس 1979 وبعد القرار المتخذ من العاهل الأردني نفسه في صيف العام 1988 والقاضي بفك الارتباط مع الضفّة الغربية.

يتبيّن اليوم اكثر من ايّ وقت كم كان الملك حسين بعيد النظر. كانت هناك فرصة وجود اسحق رابين في موقع رئيس الوزراء. كان لا بدّ من التقاط هذه الفرصة قبل فوات الاوان. لم يمض سنة واسبوعان على توقيع اتفاق وادي عربة حتّى وُجد من يقتل اسحق رابين في قلب تل ابيب في الرابع من تشرين الثاني – نوفمبر 1995.

استطاع الأردن الحصول على اقصى ما يمكن الحصول عليه. اذا كان اتفاق السلام مع إسرائيل يعني شيئا، فانّ اول ما يعنيه هو دفن فكرة ان يكون الأردن وطنا بديلا للفلسطينيين. هذه الفكرة، التي دفنت نهائيا، عزيزة جدا على قلب اليمين الإسرائيلي، خصوصا على المنتمين الى مدرسة ارييل شارون.

في قرار الملك عبدالله الثاني بالنسبة الى الباقورة والغمر غير رسالة. الرسالة الاولى هي بالطبع للمزايدين في الداخل الأردني وامثالهم من يتامى النظام السوري وأدوات ايران، فضلا بالطبع عن جماعات الاخوان المسلمين الذين يرفعون شعارات طنانة رغبة في الهدم ونشر البؤس. ثمّة رسالة أخرى موجهة الى إسرائيل نفسها. الأردن بلد يحترم الاتفاقات الدولية، لكنه ليس مستعدا لدعم خيارات بنيامين نتانياهو التي تقوم على تجاوز خيار الدولتين. واهم من يعتقد ان الأردن مستعد للسير في خيارات أخرى غير خيار الدولتين، أي خيار الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. يمر الاردن في ازمة اقتصادية عميقة، لكنّ هذه الازمة لا تعني باي شكل تخليه عن دوره وعن مواقفه التي تشمل التصدي لسياسات اليمين الإسرائيلي القائمة على تكريس الاحتلال للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

لم يعنِ اتفاق وادي عربة ايّ تخل عن أراض اردنية. قضت الضرورة في حينه تأجير أراض لإسرائيل لمدّة خمسة وعشرين عاما. انتهت مدّة الايجار، ارتأى صاحب الارض ان ليس من مصلحته تمديد العقد، لذلك الغى عبدالله الثاني الملحقين المتعلقين بالباقورة والغمر. جاء القرار صفعة لاولئك الذين يرددون منذ فترة طويلة في مناسبة وغير مناسبة ان الأردن تابع لإسرائيل. ظهر بوضوح ليس بعده وضوح ان الأردن يعمل مصلحته ومصلحة شعبه. اضطر الملك حسين وبعده الملك عبدالله الثاني في أحيان كثيرة الى اتخاذ قرارات غير شعبية. لم يكن قرار توقيع اتفاق السلام مع اسرائيل قرارا شعبيا. لم يحل ذلك دون اقدام الملك حسين على خطوة التوصل الى اتفاق وادي عربة. فالقائد هو الذي يقود وليس ذلك الذي ينقاد من الشارع. بعد أربعة وعشرين عاما على اتفاق السلام مع إسرائيل، يكتشف الأردنيون كيف عمل الملك حسين على حمايتهم، ولو غصبا، عن إرادة بعض الجهلة الذين يهوون الشعارات الفارغة.

لا يزال هناك من يريد تحرير فلسطين من النهر الى البحر انطلاقا من الأردن او من جنوب لبنان. هناك من خوّن الأردن لانّه انقذ الفلسطينيين من انفسهم في العام 1970. هناك من لا يريد فهم ما هو الأردن وما هو دوره الإقليمي وكيف ان الملك حسين بنى دولة عصرية لا تمتلك أي موارد. من يتجرّأ على الوقوف امام مرآة وسؤال نفسه: ما الذي كان حصل لو انتصرت "المقاومة" على الجيش الأردني (الجيش العربي) في 1970؟ الم يكن تحقق حلم الوطن البديل الذي نادى به اليمين الإسرائيلي منذ زمن طويل والذي استطاع الحسين وعبدالله الثاني ازالته من القاموس السياسي للمنطقة نهائيا؟