"رسالة قصيرة للوداع الطويل" حياةُ جاهزة للفيلم

الراوي في رواية بيتر هاندكه يشرعُ في المقاطع الإستهلالية بكشفُ الثيمة الأساسية التي تتوالى في مدارها وحدات الرواية.
ما يخدمُ فن الرواية ويضخُ فضاءه بالجديد والمُتنوع، هو مرونتهِ وإستيعابه لأشكال لامُتناهية من الكتابة والصياغات
الإشارة إلى فيينا تحيل المتلقي إلى جنسية الكاتب

ما يخدمُ فن الرواية ويضخُ فضاءه بالجديد والمُتنوع، هو مرونتهِ وإستيعابه لأشكال لامُتناهية من الكتابة والصياغات، فعلاً لا يوجدُ ما يسمي بأخلاقي أو غير أخلاقي في سياق النصوص السردية لذا يصحُ تطويع شتى الموضوعات في لحمة الأعمال الروائية، وهذا يعني أنَّ الإبداع يكمنُ في البناء الفني الذي يقنعُ المتلقي أو المرسل إليه بما يقدمهُ الباثُ، إذ قد يكونُ محتوى بعض النصوص الروائية امتداداً لجملة العنوان المرتسم على الغلاف وبذلك ليست مهمة القاريء إلا البحثَ عن ظلال الجملة الأولى في بنية الجُمَل والمفردات التي يتضمنها العملُ، الأمرُ الذي يَتَمثلُ فيما كتبهُ الروائي النمساوي بيتر هاندكه الموسومة بـ "رسالة قصيرة للوداع الطويل" (منشورات الجمل 2016). 
يشرعُ الراوي في المقاطع الإستهلالية بكشفُ الثيمة الأساسية التي تتوالى في مدارها وحدات الرواية، إذ يضعك في المكان الذي يتموقع فيه واصفاً جانباً من تصميم المباني إلى أنَّ يبلغك بالرسالة التي يأخذها من عامل الإستقبال في فندق وايلاند مانور، وما يحتوي المظروف غير جملة واحدة "أنا في نيويورك أرجوك لا تبحث عني لن يكون خيراً أن تجدني". 
ومن هنا تبدأُ رحلة البحث عن صاحبة الرسالة ويَعبرُ الراوي مدن وبلدات أميركية مع ما يتجاور ذلك من إستطرادات وإستدعاء لتفاصيل حياته وهوسه بالإنتقال من فندق إلى آخر وتضمين مقتبسات من الأغنيات والروايات في الخط السردي، ناهيك عن ميل الكاتب إلى قفز على المصفاة في استخدام اللغة العارية من الإستعارة، لاسيما في تلك الفقرات التي يتوقف عند نوازع غريزية، وفي ذلك ينحو منحى تشارلز بوكوفسكي ووليام س. بوروز صاحب "المدمن" هذا إضافة إلى توصيف أجواء البارات وصالات الموسيقى والسينما، ومُحادثة المهمشين.
المونولوج
يسترسلُ الراوي القادم من مدينة فيينا في سرد حكايته وتقصيه عن أخبار "يوديت" التي ما تركت له غير رسالة قصيرة، من الواضح أن الإشارة إلى فيينا تحيل المتلقي إلى جنسية الكاتب، ويفترضُ بأنَّ الراوي ليس سوى وجهه المموه، ما ينتقلُ بالعمل إلى تخوم السيرة الذاتية علماً بأنَّ ضمير المُتكلم يطغى على السرد في كل مفاصل الرواية، وتُمحى الأزمنة بين الأحداث مُعتمداً في ذلك على تقنية التداعي وتردُ في سياق السرد مشاهد كابوسية وسريالية من خلال الإضاءة لعناصر أحلامه المُتنافرة، وهذا ما تراه فيما يسرده عن متابعته لفيلم داخل دار سينما إليغين، إذ يكادُ يغيبُ الحديثُ عن موضوع الفيلم نتيجة الإستطراد، وذكر ما كان يعجبه في السابق ومن ثُمَّ لم يعدْ يروق له مثل أفلام الكوميكس الصامتة.
غير أنه يقرأُ جاتسيبي العظيم. وما يتمسك بقراءته باستمرار هو "هاينريش الأخضر" لجوتفريد كيللر بالإضافة إلى ما تقع بيده من الصحف ولائحة المأكولات، ويأتي ذلك بالتزامن مع إجراء اتصالاته مع الأماكن التي مرت بها، ويخبره موظف الإستقبال في أحد فنادق فيلاديفيا بأنَّ يوديت قد تركت الكاميرا ما يولد الرغبة لدى الراوي للوصول إلى هذا الأثر، وهنا تتخلل حكاية الجندي الذي يرافق الراوي في تضاعيف الرواية إذ يلتقط له صوراً ولا يكف الجندي بدوره عن الحديث حول تجاربه واهتماماته الموسيقية، ويشير إلى تقرير صحفي نُشِرَ عن عودة الجندي إلى ريد وينج في مينيوستا.  

بيتر هاندكه
سيناريو جاهز لفيلم

وتبدأُ عقب ذلك محطة جديدة في فونيكسفيل غربي فيلاديلفيا هناك يلتقي كلير ماديسون ويذكر طبيعة العلاقة القائمة بين الإثنين قبل ثلاثة أعوام وهذا ما يوضحُ أنَّ الراوي ليس حديث العهد بأميركا ولا بالثقافة الأميركية ويستعيدُ في إطار رحلته مع كلير نحو سانت ليويس مشاهدته لفيلم الحصان الحديد لجون فورد عن إنشاء السكك الحديدية العابرة عبر ولايتي ميسوري وكاليفورنيا، وهذا المشروع لم يكن إلا محاولة لتنفيذ مارآه صاحبه في الحلم، لكن الأب لا يهمله العمر لتحقيق حلمه إلى أن يكملَ ابنه المشروع متوجا بقصة بينه وبين ابنة مدير الشركة. وهذا التحاور مع معطيات أدبية وفنية يتكررُ بحيثُ يبدو سمة أساسية للعمل، زدْ على ذلك ما يبرزه الكاتبُ على لسان شخصية كلير من طبائع الشخصية الأميركية.
اللقاء 
بعد رحلات مُتلاحقة وسلسلة من الأحداث والوقائع المُتعاقبة ومعرفة شخصيات فنية وأدبية وتلقى رسالة وإشارات من "يوديت" بعضها يحملُ تهديداً بالقتل وزيارة معالم تاريخية ومشاركة في حفلات شعبية أميركية مثل أسبوع قبعات القش، يتواصلُ الراوي مع أُمه في فيينا يستفسرُ منها عن أخبار التنافس بين مرشحين رئاسيين في بلده، ومن ثم يلتقي أخاه الذي يعملُ نجارا في ولاية أوريغون، وما يراه في تصرفات وسلوكيات أخيه يكشفُ جانباً مما يسود في  المجتمع الأميركي خصوصا ظاهرة تشييءُ الإنسان وتحوله إلى آلة في سوق العمل، بينما يتجولُ الراوي داخل المدينة يتخيل إليه أن المرأة التي يصادفها في أحد صالونات التجيمل هي "يوديت"، وسبق له أن زعم بأن الحقيبة التي وجدها على سير الحقائب في مطار مدينة أميركية تعود ليوديت إذ همَّ بتفحصها وسأل أفراد الأمانة عن صاحبها.
أخيراً في منطقة توين روكس يلتقي الإثنان قبل أن يتوجها نحو كاليفورنيا هنا يبدأُ النقاش بين المخرج جون فورد والوافدين، والغرض من ذلك أيضاً هو إظهار وجه لأميركا وما يفرق الشخصية الأميركية عن نظيرتها الأوروبية على المستوى الإجتماعي والصيغ التعبيرية، هنا يتكفل المخرج بشرح هذه التفصيلات الدقيقة. بعدما يطرحُ رؤيته بهذا الشأن يطلبُ من ضيفيه سرد حكايتهما في أميركا حينذاك يلمح الراوي بأنَّ صديقته هي التي تسترجع وقائع الرحلة وملاحقة الإثنين لبعضهما البعض، وكيف نهبت أمواله أمام المخرج، وهنا يتم الإعتماد على تقنية التلخيص ما يعود بالمتلقي إلى بداية الرواية من جديد، وما كان من رد فعل فورد وهو في موقع المروي له إلا أنْ يبتسم متسائلاً هل هذا كله حقيقي؟! كأن بالمخرج وجد في القصة سيناريو جاهزا لفيلم.