'رعود هائمة في الفجاج' نصوص تجمع بين السيرة والشعر وأدب الرحلة
عمان - كتاب "رعود هائمة في الفجاج" للكاتب العماني سيف الرحبي بوح سردي يجمع بين الشعر والسرد وأدب الرحلة والكتابة السيرذاتية، معرِّجا على موضوعات شتى وسبل كتابة متفرقة.
ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن في 180 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، ويضم ثمانية محاور بعضها في نص وحيد، وبعضها الآخر يطوف من خلالها الكاتب بين شخصياتٍ التقاها وتأثَّر بها وتأثَّرت به.
ففي النص الأول الذي عنونه سيف الرحبي "في ضوء صباح غائم"، يفتتحه بوصف لمشهد رعدي، قائلاً "الرعد كان يبدأ من أعالي الوادي المسوَّر بالجبال، يُهمهمُ ويسري في عروق السماء والغيوم المنذرة بالمطر كما في عروق البشر وأوصالهم (الأطفال خاصةً)، الرعود الهائمة ببروقها التي تضيء الأزلَ كما تضيء القوافل العابرةَ في الوادي، والقطارات في محطات المدن البعيدة".
"رعود الآلهة والبشر" وهو نص قصير يحوي مقطعين فقط، يتابع في مقطعه الثاني، مختصراً حكمة الحياة، فيقول "وسط قيامةِ الموت والسلاح يزرع 'عزيز أبوشيخة' فسيلة زيتون أو كمثرى. بصمتٍ جنائزيٍّ يزرعها، لكن لسان حاله وحال الجموع المكلومة يُلجِم الفضاء بالصراخ والعويل في وجه العدوان والعالم: هذه هي حياتنا، صبرنا الذي سينمو ويزهر غدًا، وبعد غدٍ التاريخ المضرّج والمصير".
وفي نص بعنوان "إلى شاعر" يصور الكاتب تلك الحالة الأشبه بالوحي، وهي لحظة الإلهام التي تتمثَّل للمبدع وكأنها قوى جاذبية علوية تشدُّ الشاعر أو الكاتب بالكليَّة، متمخِّضةً عن نصٍّ يولد كجنين مكتمل لحظة البزوغ؛ يقول سيف الرحبي "في الأوقات المظلمة التي كان يرفس في أتونها هبط فجأة عليه الإلهام، ينبوع ماء في صحراء العطش والدم... ظل مستسلمًا لنهر الهذيان الجارف مغمَض العينين بالكاد يبصر الورقة البيضاء، يكتب بحنانٍ وعصبيةٍ كأنما يثأر بحَفْرِهِ في جسدِ عالمٍ كاد أن يطوّح به في مقبرة الجفاف والمَوات. ظل على هذا النحو من اندفاع المطر السديميّ حتى سقط على أرضية الغرفة المفعمة بالفوضى مترحّلًا في وديان النوم إلى حيواتٍ وأحلامٍ أخرى".
لم يترك الكاتب مفردة من مفردات حياته اليومية إلَّا وجعل لها نصيبًا ممَّا كتب، حتى تلك الموجة التي قرَّر أن يخلِّدها في كتابه، حين خاطبها قائلًا:
"مباركةٌ
أيتها الموجة القادمة من ضفاف البحر العماني
مباركٌ وصولُك بعد أن اجتزتِ الهوامّ والارتطامات إلى بحرِ العندمان الهائج هذا الصباح
حيث أجلس محدقًا في الزبد والأعالي
مباركةٌ أيتها الموجة العمانية في حِلِّك وترحالك
لأنك الوحيدة على هذا النقاء العادل المغامر
حين تحوّل البشر إلى جيفةٍ ومسوخ".
ويقتطف سيف الرحبي من كل بستان زهرة، ومن كل لقاء موقفًا، فقد تحدث عن عدد من الشخصيات التي التقاها في سفراته وصولاته وجولاته، حتى إنه لم يترك شاعرًا ولا أديبًا ولا فنانًا ممن التقاهم إلا وأفرد له عددًا من سطور هذا الكتاب، فها هو في تلك الصحبة من النصوص التي اختار لها عنوان "مقاطع باريس"، تارةً يتحدث عن شارع الشانزلزيه، بما له من أناقة ولمعان، وطابع مميز، والذي يشوِّه جماله ذلك الـ"كلوشار"؛ أو المشرَّد الأشبه بجثة محنَّطة على رصيف الشانزلزيه!
ويعرِّج الرحبي على عدد من شخصيات الأدباء الفرنسيين البارزين في تلك المقاطع الأدبية السردية، والتي تحمل بين حروفها روح الشعر، سواءً حين تحدث عن بودلير أو باسكال، ثم يستطرد واصفًا أجواء رحلته الباريسية: "أقيم بهذه الرحلة الباريسية وسط المناطق المأهولة بالمؤسسات الأكاديمية الأكثر عراقةً في التاريخ الحديث ولا أكاد أرى أي مظهر لاحتجاج ضد الإبادة أو تعاطف رمزي كالكوفية الفلسطينية مع الضحايا، فالقمع عبر التهمة الجاهزة ضد السامية حاضر حضورًا قويًّا والضحايا هم أصل السامية وفصلها؛ إنها فعلًا بقرةُ وعيهِم المقدسة إذا استعرنا رمزية قداسة البقرة من الهندوس، بل إن الأوروبيين ومن في فلكهم الكثر يرفعون قداسة إسرائيل والصهيونية إلى مستويات أرفع وأكثر تعاليًا على قِيم الأرض البشرية والسماء، وحدث إلغاء فلسطين عن كونها ضيف شرف للعام القادم على سوق الشعر الشهير في فرنسا الذي يقام في ساحة "سان سولبيس".
وأما ذلك الجزء الذي اختار الرحبي أن يعنونه "وجوه ومشاهد وتغريدات، فإن سيف الرحبي يتحدث فيه عن عدد من الشعراء والمبدعين من ربوع الوطن العربي، ومنهم: الشاعر والروائي الإماراتي ثاني السويدي، والشيخ العارف بالله حمود الصوافي، والشيخ أحمد بن سعود السيابي، والنسّاخ والراوية محمد بن حسن الرمضاني، والشاعر فتحي عبدالله، والشاعر مبارك العامري، والشاعر حسان عزت، والفنانة فاطمة لوتاه، والشاعر عقل العويط، وغيرهم.
يختار الرحبي أجزاء من نصوص لهؤلاء، أو مواقف جمعته بهم في رحلته يحكي عنها كعلامات فارقة على طريقه وبين أسفاره.
وفي ذلك النص الذي اختار له عنوان "سيوران في الزمن العربي الراهن"، ويتحدث فيه عن كتاب إيميل سيوران "غسق الأفكار"، ويختتم الرحبي ذلك النص ساخرًا فيقول: "هل أسألك عن الطقس في باريس؟ أعتقد أن موجات البرد القارس انخفضت باتجاه طقس معتدل حتى يصل إلى ربيع يختال مورقًا ضاحكًا حيث أحلم بالقدوم وتصفية الحساب مع الحر والجفاف بعيدًا أيضًا عن الصقيع".
ويختتم سيف الرحبي كتابه بنص شعري عنونه "بيروت"، ربما يمزج فيه الحنين بالوجع بالحب بالبكاء، وربما يبحث عن ذاته التي يفتقدها؛ يبحث عنها هناك على شاطئ بيروت، فهلَّا يجدها!
"أمام بحركِ يا بيروت
إزاءَ أُفق المتوسِّط
والجبال المحيطة ترسل غيومَها وأشجارَها
هدايا لعيد ميلادٍ قادم.
ثمة امرأة جميلة تتنزّه بحزن على الشاطئ
صيّاد يصلّي
أمام بحرك يا بيروت
الذي اكتنز القرونَ؛ الحروبَ والحضارات
بكيتُ
أنا الذي لم تحفرْ خدّي دمعةٌ
شريدة منذ سنين
لكني بكيتُ اللحظةَ
ولمستُ الموجَ المالح ينساب
على الرصيف...".