رفعت الاقلام وسقطت بغداد من جديد

خضعت الحكومة العراقية لإرادة مليشيات كانت تدعي انها تأتمر بأوامر مؤسستها العسكرية.

عندما سقطت بغداد على يد اميركا عام 2003 لم تختبئ خلف غطاء تحرير الشعب العراقي من نظام صدام حسين، بل اعلنت نفسها قوة احتلال لها حق ادارة البلد حسب ما يوالم مصالحها والقوانين الدولية. حينها تصنع البعض مشاعر الصدمة والاحباط في رؤيتهم بغداد وهي تحتل، وكأنها المرة الاولى التي تحتل فيها هذه المدينة.

كان هؤلاء الحالمين المصدومين بحاجة حينها الى صفعة صادمة تفيقهم وتقول لهم ان هذه المدينة منذ تأسيسها والى يومنا هذا تنتقل من حضن احتلال الى اخر. فتأسيس بغداد كان على يد العباسيين (غير العراقيين)، ثم تعاقبت عليها الاحتلالات الى ان استقرت في حضن الاحتلال العثماني (الاجنبي)، ثم البريطاني (الاجنبي)، لتدخل بعد ذلك الى شكل اخر من الاحتلالات وهي احتلالات عسكرية (محلية) متعاقبة. واخيرا احتلتها اميركا بعد ان اسقطت "اخر المحتلين المحليين". وعندما قررت اميركا الخروج في 2011 تلقفتها اطراف اقليمية لتحتلها من خلال مليشيات مسلحة تأتمر بأوامرها في العراق.

تلك هي الحقيقة التي يجب ان يعيها الشارع العراقي ويفهمها جيدا... وهي ان العراق محتل من قبل مليشيات تسيطر على القرار السياسي فيه وتديره، وما تسمى بالحكومة العراقية ليست الا غطاء مدنيا لها، وظيفتها الوحيدة اعطاء الشرعية لتلك المليشيات لتنفذ اجنداتها من خلال مؤسسات تنفيذية وتشريعية تسمى جزافا بمؤسسات دولة.

من الجدير بالذكر هنا ان نسرد حادثة شهودها لا يزالوا احياء يرزقون. فاثناء المناوشات التي وقعت بين القوات العراقية بتشكيلاتها المختلفة وبين قوات البيشمركة في جنوب غرب الاقليم، عقب قرار الاستفتاء الكردستاني الخالد، حصلت مفاوضات بين ضباط الطرفين لوقف المعارك بينهما، وحسب مصادر تواجدت في تلك المفاوضات فان ضباط الجيش العراقي كانوا عاجرين عن اتخاذ اي قرار دون الرجوع الى قادة المليشيات لاخذ موافقتهم، وكانوا يقولون لضباط البيشمركة بان الحل والعقد بيد المليشيات وليس بايديهم.

ومثلما نجحت تلك المليشيات في اخضاع الجيش العراقي لارادتها، نجحت كذلك في تسخير البرلمان العراقي لاهدافها وشرعنت نفسها من خلال تمرير قانون الحشد الشعبي الذي اعتبرها تشكيلات رسمية تابعة للمؤسسة العسكرية العراقية، وسنح لها السيطرة على كافة المرافق الامنية المهمة في البلد.

كذلك نجحت في تجنيد الحكومة العراقية لاهدافها في الدفاع عن ممارسات هذه المليشيات والخروقات التي كانت تمارسها ضد المدنيين العزل اثناء قتالها مع داعش، فقد كانت الحكومة العراقية مجندة للتأكيد دائما على ان ما يحصل من جرائم هي حالات فردية تحصل في اية معركة وفي اي مكان في العالم، مع انها في الحقيقة كانت ممارسات جماعية تم تصوير الكثير منها ووجوه مرتكبيها مكشوفة ومعروفة، رغم ذلك لم يتم محاكمة اي منهم ولا معاقبة المليشيات التي ينتمون اليها.

هناك نقطة جديرة بالذكر في موضوع قانون الحشد الشعبي اشرنا اليها في مناسبات عديدة، وهي ان ذلك القانون قد اغفل (متعمدا) عن ذكر اسماء المليشيات التي ينطبق عليها هذا القانون، وكذلك اعداد منتسبي تلك المليشيات التي ينطبق عليهم هذا القانون، وبذلك يكون القانون قد اعطى المجال لتلك المليشيات لممارسة مبدأ توزيع الادوار فيما بينها، فتوجهت قسم من تلك المليشيات للقتال خارج العراق في اي مكان تقتضيه مصلحة الدولة الاقليمية الداعمة لها، واتخذت مواقف وتصريحات تتقاطع مع المواقف الرسمية للحكومة العراقية. في الوقت نفسه ساعد هذا الاغفال المتعمد الحكومة العراقية في التهرب من مسؤوليتها القانونية ازاء تصرفات ومواقف هذه المليشيات بادعائها عدم شمولها بقانون الحشد، دون ان تتخذ اجراءات رادعة ضدها حتى وان لم تكن مشمولة بالقانون حسب زعمها. اما من ناحية مزايا قانون الحشد الشعبي فقد كانت جميع المليشيات دون استثناء تتمتع بها سواء تلك الموجودة في العراق او خارجه.

على القارئ ان يعيد الى ذاكرته جرائم القتل المنظم والنهب التي وقعت في بغداد والمدن العراقية الاخرى عقب هزيمة داعش، والتي كانت اصابع الاتهام فيها تشير الى عناصر مسلحة منظمة، هل سمع احد عن نتائج التحقيق في اية واحدة منها؟ وهل تم معاقبة او حتى محاكمة اي من المتورطين فيها؟

بعد تطورات ملف الازمة الاميركية الايرانية، عانت الحكومة العراقية الجديدة من ارتباك واضح في مواقفها ازاء هذه المليشيات، فبعد مرور ما يقارب الثلاث سنوات على قانون الحشد الشعبي اصدر عادل عبدالمهدي قرارا جديدا ينص على هيكلة مليشيات الحشد ضمن المؤسسة العسكرية. اصدار هذا القانون بحد ذاته هو اعتراف صريح بان هذه المليشيات لم تكن لغاية اليوم ضمن المؤسسة العسكرية العراقية كما كانت تدعي حكومة بغداد السابقة. وزاد من ارتباكها ما حصل في سهل نينوى والاوامر التي اصدرها القائد العام للقوات المسلحة والذي امر بموجبها لواء في فصيل مليشاوي مسلح بالانسحاب من مناطق يسيطر عليها، وتسليم مهام حمايتها الى الجيش العراقي. في المؤسسات العسكرية المحترمة فان هكذا اوامر تنفذ بمجرد صدورها دون اي اعتراض، لكن ما حصل ان افراد اللواء هذا رفضوا تنفيذ القرار، وخرجوا في مظاهرات واعتصامات قاطعين طرق رئيسة في منافذ مدينة الموصل، ومصرين على البقاء في مواقعهم. وبدلا من ان يتهم اللواء هذا بالتمرد وعصيان الاوامر ويتم احالتهم الى محاكم عسكرية بغية محاكمتهم (وهذا هو المتعارف في كل الدول المحترمة )، الا ان ما حصل هو ان الحكومة العراقية تفاوضت مع المعتصمين، وانتهت بالخضوع لارادة تلك المليشيا وسحب قرار القائد العام للقوات المسلحة ليبقى ذلك اللواء في مواقعه. هذه البادرة النادرة الحدوث تظهر مدى انفلات هذه المليشيات وعدم

وهنا نريد ان نتساءل: ان كان رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة قد فشل في فرض قراراته على لواء في مليشيا صغيرة متهم زعيمها بقضايا فساد مالي وجرائم حرب من قبل قوى دولية، فكيف سيستطيع مستقبلا من فرض قراراته على مليشيا اكبر واقوى؟ وهل بعد هذا الخضوع لارادة مليشيات منفلتة يمكن لعادل عبدالمهدي او اي سياسي عراقي القول بان هذه المليشيات خاضعة للمؤسسة العسكرية العراقية.

هكذا يا سادة يتبين لنا يوما بعد يوم ان الدولة العراقية محتلة ومختطفة من قبل فصائل مسلحة تسرح وتمرح كما يحلو لها دون ان تستطيع اي جهة حكومية من لجمها او اخضاعها، فلا يشترط ان يكون الاحتلال اجنبيا كي يسمى احتلالا، يكفي ان تكون الارادة مسلوبة والفوضى عامة والحريات معدومة، والمصير مرتبط بمصير دولة جارة، ان رضت كان بها وان لم ترض فالويل ثم الويل لمن لا ترضى عنه.