ساعة الحائط.. بتوقيت كورونا

روزنامة من الملل الدوار، والحزن الغامض الذي يجوس في أوصالي، وأنا أحدق في عيون بناتي، وزوجتي وهن  يتابعن أعمالهن من البيت على الشبكة العنكبوتية.
المقايضة الآن هي أن تحافظ على رئتيك، بإنكسار قلبك، والتكور داخل نفسك قبل منزلك
تيقن أنك الآن في زمن كورونا، حيث الذي هو آت، لا يشبه الذي فات

في تلك اللحظة التي صب فيها صديقي الناقد الكبير مصطفى عبدالله بضع قطرات من الكحول على أزمتي النفسية، وأنا حبيس منزلي بضاحية ستاتن أيلاند في نيويورك مع زوجتي وبناتي؛ أضرم دون أن يدري خوفًا اختبرته من قبل منذ سبعة عشر عامًا حين شاء قدري أن أكون موجودًا في المكان، والظرف غير المناسبين، وللمفارقة في مدينة بكين عاصمة دولة الصين الشعبية في ذروة تفشي وباء سارس الكبير عام 2003.
 كانت قطرات الكحول المطهر التي تساقطت من حواري مع مصطفى عبدالله محاولة منه من وراء عُباب الأطلنطي لبعث طمانينة غائبة من صديق في نفسي الخائفة، المندهشة، الحائرة وهي تجتاز الوقت الثقيل لتكات ساعة الحائط، في الزمن الذي أصبح اليوم فيه يتجاوز الأربعة والعشرين ساعة بالمزيد من الساعات بتوقيت كورونا، بتقويم كورونا، بقانون كورونا في زمن كورونا.
روزنامة من الملل الدوار، والحزن الغامض الذي يجوس في أوصالي، وأنا أحدق في عيون بناتي، وزوجتي وهن  يتابعن أعمالهن من البيت على الشبكة العنكبوتية، فتواصل ابنتاي التوأم دراستهن للمالية، والإقتصاد بكلية واجنر نيويورك، وتواصل زوجتي أستاذ الرياضيات البحتة بجامعة سيتي كوليدج أوف نيويورك التواصل مع طلابها بنفس الطريقة من البيت من خلال تطبيق ويبيكس. 
كنت قد وصلت على آخر رحلة طيران إلى نيويورك قبل أيام لمشاركة أسرتي هذه اللحظات الصعبة، تاركًا خلفي كورونا القاهرة حائرة ما بين استخفاف بني وطني بها، وتطمينات الحكومة بأن كل شيء سيكون على ما يرام، لم أكن أعرف كيف ستفرض حكومتنا خططها الصارمة على شعب اعتاد الركون إلى الاستسهال، والاستخفاف بالمخاطر، وتديين، ودروشة كل شيء بالإحالة إلى الغيبيات، والميتافزيقا، بدا ذلك لي تحدٍّ آخر. وكان دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة، على الضفة الأخرى من الأطلنطي، هو الآخر قد استخف قبل أسابيع بالوباء الكبير، لكنني عندما وصلت في يوم 18 مارس/آذار وجدته وقد غاص حتى رابطة عنقه الحمراء في أوحال كورونا، بدا ذلك واضحًا، وأنا أمشي وحدي في مطار جون كينيدي الخاوي على أعمدته ينعي صخبًا أصبح من التاريخ.

إذا كان من المبكر الحديث عن فرصة مواتية لنكون على المريخ، فلا أقل من أن نحافظ أولًا على وجودنا على كوكب قد يلفظنا في زمن آخر قريب

المقايضة إذن الآن هي أن تحافظ على رئتيك، بإنكسار قلبك، والتكور داخل نفسك قبل منزلك، فالبديل الوحيد هو أن تخسر كليهما رئتيك، وقلبك. كنت قد منيت نفسي في الطائرة بأنني قد أستطيع خلال عزلتي في بيتي بنيويورك، الإنتهاء من الفصل الأخير من روايتي لدفعها للناشر، وأن يستيقظ المبدع بداخلي على انكسار الإنسان، ورب الأسرة، لكن الدهشة، والخوف عقدا قريحتي، وألجما جناني، فاستسلمت لشريط الأخبار على قناة فوكس أتابع سباق الموت في إيطاليا، وأسبانيا، وأميركا، ومصر، وبقاع أخرى من كوكبنا، بقاع دخلت رغمًا عنها في الزمن الكوروني. 
بدا لي السباق في حقيقة الأمر بين من يحاولون إنتاج المزيد من الكمامات كحافظات للوجه، ومن ينتجون حافظات الجثث التي أصبحت جزءًا من شريط الأخبار، وإحصائيات الديسك المركزي للغرف التلفزيونية. 
تعلمت من تجربتي أثناء تفشي وباء سارس في الصين عام 2003؛ أن أحافظ على قدر من التماسك كإنسان، وأب، خاصة أن تجربتي بالصين استمرت لخمس سنوات بعد سارس، كنت خلالها قادرًا على استيعاب دروس أن تكون بين النار، وبين النار. في ذلك الوقت كان وباء سارس يضرب الصين وبخاصة إقليم جواندونج بعنف، لكن اليقين بأن فورانه سيخفت لم يفارقني. يبدو الأمر الآن مختلفًا على نحو درامي، وعبثي مع كورونا، الذي تسيد، وتمدد لتطال أذرعه جغرافية الكوكب، فتوقف دولاب تصارعه، ويتمكن الخوف من مطاراته، ومصانعه، وبورصاته، وحقول نفطه، وحاملات طائراته النووية، وجامعاته، ومدنه. الكوكب إذن عار امام هذا الجسيم البروتيني الذي احتل أكسجيننا، وترددات مجالنا، وفرجات شرفاتنا، وتمكن من كوكبنا ليؤسس لزمنه، ودولته، ويطيح بكل قواعد السباق توطئة لسن قواعد جديدة، تقوم على رماد ما تبقى من عصر ما قبل كورونا.
كما نقول في أدبيات التوثيق التاريخي؛ قبل الميلاد، وبعده، قبل الحرب العالمية الأولى، والثانية، وبعدهما، وأنت تقرأ هذه الكلمات، أفق، وتيقن أنك الآن في زمن كورونا، حيث الذي هو آت، لا يشبه الذي فات، وستكون أدبيات التوثيق، والتحقق من الآن وصاعدًا؛ قبل زمن كورونا، وبعده. السلوك البشري سيتغير بالكلية، بمحركات جديدة، بدافعية جديدة، بيقين أكثر أننا لم نعد نملك محيطنا، وحيزنا من بيئة، وجغرافيا، وفضاء، بل على العكس ربما زاد اليقين بأننا بدرجة ما رهينة هذا الحيز، الذي أمعنا في تخريبه، ومحاربته بشتى الأسلحة باستعلاء، ووهم بالسيادة، فإذا به يكشر عن أنيابه بيولوجيا فيعطل قدرتنا على فهمه، ويربك حساباتنا الساذجة. 
سيجنح السلوك البشري إلى نهج تصالحي مع محيطه البيئي، ستتكشف الحقائق الكبرى بأن سباق التسلح بين الدول يتجاهل عدوًا لا تطاله حاملات الطائرات النووية بل يطالها هو ومن أقصر الطرق. سيجلس الساسة على موائدهم المستديرة بتواضع أكبر، بتوحد أكبر في الهم، سيدركون مـتأخرًا أن ترسانات أسلحتهم، وإنفاقهم الترليوني كان في سبائك الحديد الخردة، وترددات الرادار التي لا تكشف الفيروسات، ولا تقتلها. سيدرك الساسة أنهم في زمن كورونا، وأنهم يجتمعون بتوقيت كورونا، وأن كورونا معهم على نفس المائدة.

ربما لن يتغير ميزان القوى العالمي كثيرًا، فأوراق اللعب ستبقى على نفس الطاولة تتداولها نفس الأيدي، ولكن بقواعد جديدة. تداعت الدول تفكر بصوت أعلى، أو للدقة تصرخ بصوت أعلى. تجاوزت أميركا اتهامها للصين أمام المقتلة التى تزيد بمتوالية عددية، وأرسلت روسيا المساعدات للذين فرضوا العقوبات عليها، وكفرت إيطاليا بالاتحاد الأوروبي، بل واتهمته بالخيانة في وقت محنتها. مع وصول طائرة المساعدات الروسية إلى أميركا، يُكتب أول سطر في نظام عالمي جديد أفرزه الخوف، والمعادلة الصفرية إما وجود أو غياب.
هذه التريليونات التي تذهب لتطوير قاذفات تقتل أكثر، ربما نعي أنها قد تخفف إحترارًا لكوكبنا. هذه الترليونات قد تسهم في إصلاح رئات عدة لكوكبنا في الأمازون، وإفريقيا لأن البديل هو أن تتلف مليارات من الرئات البشرية. القواعد غير العادلة في التنمية، والرخاء، تترك في حقيقة الأمر مجتمعات تئن من المرض، والجهل، والجوع وبالتأكيد ستطال أمراضها الغني المتخم بالثروات.
أثبت زمن كورونا هشاشة، وتداعي النظام الرأسمالي بطبعته الحالية، وطرحت اسئلة حول الديمقراطية التي لا تستجيب للإنسان في نكباته، وتقف عاجزة عن علاجه، وتوفير سرير في مستشفى له. على الجانب الآخر أثبتت أن عدم الشفافية، وإخفاء الحقائق في الأنظمة الشمولية قد يقود البشرية إلى كارثة محققة، وهذا هو أحد أهم الدروس التي يتعين استيعابها من الوباء الشامل، لا أخفي الآن شماتتي الشخصية في تخريجات فوكوياما التي قهرها كورونا من حيث لا نحتسب. أثبت زمن كورونا أن كلنا في الخوف بشر، وأن ثمة مشتركات وجودية بيننا ينبغي أن توحدنا، إن لم يكن في الرفاة، والعصرنة، فعلى الأقل في الخوف الواحد. أثبت زمن كورونا أن الأمن ليس رهينة بحاملات الطائرات، والقاذفات الإستراتيجية، ومنصات الإطلاق القارية، العابرة للمحيطات، الأمن في كفالة أمن الجميع بالعلم، والعمل المشترك لإنقاذ كوكبنا بجليده، وأنهاره، وغاباته، ومجاله البيئي.
إذا كان من المبكر الحديث عن فرصة مواتية لنكون على المريخ، فلا أقل من أن نحافظ أولًا على وجودنا على كوكب قد يلفظنا في زمن آخر قريب يتجاوز زمن كورونا، وحينها لن يمنحنا وقتًا مستقطعًا لاستيعاب دروس جديدة، ولن تكون لدينا رفاهية تدبر أمرنا.