
ستارنونه يفكك في'أربطة' روابط الحب والخيانة
رواية "أربطة" للكاتب الروائي الإيطالي دومينيكو ستارنونه التي تنشر لأول مرة بالعربية رواية مفعمة بالحيوية والبراعة التقنية حيث تتغلغل في علاقة الزوجين فاندا وألدو، لتكشف التشققات التي أصابتها جراء الحب والهجر والخيانة، يتم سردها من منظور ثلاثي عبر رسائل كتبت على فترات مختلفة من تاريخ الزواج.
يمكن قراءة كل منظور ككل مستقل، كرواية، مع روابط معينة تربط الأجزاء، الأول يحمل رسائل الزوجة فاندا في القسم الافتتاحي، والثاني وجهة نظر الزوج المراوغ، والجزء الختامي ترويه الابنة البالغة المضطهدة.
هذا المنظور الثلاثي يكاد يكون عملًا لا تشوبه شائبة، تم تشكيله وصقله بدقة تدفع القارئ مباشرة إلى البؤرة الفوضوية للدراما المثيرة للعلاقات داخل الأسرة، حيث تتكشف تداعيات خيانة الزوج وتخليه عن أسرته ومرارة الزوجة والأطفال.
يتم سرد الجزء الأول من الرواية التي ترجمتها أماني فوزي حبشي وصدرت عن دار الكرمة للنشرمن وجهة نظر الزوجة فاندا في شكل رسائل إلى زوجها ألدو.
تمهد البداية المذهلة للرواية المشهد "إذا كنت قد نسيت، أيها السيد المحترم، فدعني أذكرك: أنا زوجتك". النغمة في هذا الجزء هي نبرة المرارة والخيانة.

يُظهر صورة زوجة مهجورة تتفكك ببطء وهي تكافح لتحمل أعباء أطفالها، وصيانة المنزل، والفواتير، والحياة بشكل عام. وعلى الرغم من ذلك، فإن الزوجة تظهر تصميما فولاذا، ولا يشعر القارئ بإدانتها لزوجها، مهما كانت مبررة.
وسرد الجزء الثاني من وجهة نظر الزوج ألدو. وهو الأطول من الأجزاء الثلاثة حيث يوضح الأحداث التي أدت إلى وما بعد التخلي عن أسرته وانفصاله عنها وارتباطه بـ "ليديا" الفتاة الصغيرة السن والجميلة، يبدأ بينما هو والزوجة على وشك الذهاب في إجازة وذلك قبل ثلاثة عقود، وعند عودتهم وجدوا أن منزلهم قد اقتحم ودمر.
وهذه الاستعارة للمنزل المحطم تكشف الانهيار الذي جرى للعلاقات الأسرية بين الزوجين وولديهما.
في الجزء الثالث نتتبع من وجهة نظر الأطفال ساندرو وآنا في علاقة أبويهما ألدو وفاندا وانعكاس ذلك عليهما، ساندرو وآنا اللذين كبرا ويعيشان الآن بعيدًا عن منزل طفولتهم. ربما يكون هذا هو الجزء الأكثر مأساوية على الإطلاق، والأكثر إثارة للصدمة من نواحٍ عديدة، حيث يروي تفكك جميع الروابط، وكسر جميع الروابط القائمة.
إنه يوضح لنا أن الآباء لديهم القدرة على إفساد أطفالهم حتى بأبسط الطرق، الكلمة هنا لـ "آنا" التي تروي طفولتها المعذبة وأخيها والصدمة التي سببها رحيل ألدو والصدمة الأكثر فظاعة لعودته بعد الانهيارات التي تسبب فيها لأفراد الأسرة.
إن أكثر ما يلفت الانتباه في الرواية هو أن الروابط تكشف أنه تحت أدوارنا المصطنعة كأزواج وزوجات وآباء وأمهات وأطفال، فإننا جميعًا بشر، معيبون بشدة وغالبًا ما تكون لدينا رغبات ودوافع لا يمكن كبتها.
يلتقط ستارنونه ويحلل مجموعة واسعة من التفاصيل الخاصة بزوجين في حجم صغير، على الرغم من امتدادها على مدار خمسة عقود، انطلاقا من انهيار الزواج من منظور الزوجة، يكتب بشكل منظم بدقة ومخطط بإحكام، ولكن في نفس الوقت مفتوح النهاية، دون إجابات أو حلول نهائية. بعبارة أخرى، تحزم الروابط الكثير من الأمتعة في حاوية صغيرة بينما تترك الحاوية مفتوحة، مثل صندوق باندورا.
يذكر دومينيكو ستارنونه كاتب وسيناريست وصحفي إيطالي من مواليد نابولي 1943، عمل في التعليم، ثم اتجه إلى الصحافة الثقافية والساخرة، وساهم بانتظام في أهم الصحف اليومية والأسبوعية الإيطالية، منها: "لونيتا"، و"لاريبوبليكا"، و"إيل كورييره ديلا سيرا". احترف أيضا، بدءا من 1993، الكتابة السينمائية والتلفزيونية.
أصدر أكثر من عشرين عملا أدبيا، ما بين الروايات والمجموعات القصصية، ومسرحية واحدة لاقت كلها نجاحا جماهيريا كلها ونقديا كبيرا.
تصدرت رواياته قوائم الكتب الأكثر مبيعا في إيطاليا والعالم، وحصد جوائز أدبية عديدة، منها: "جائزة نابولي"، و"جائزة كامبيللو"، و"جائزة ستريجا" المرموقة.
مقتطفات من الرواية
ـ الزوجة فاندا
إذا كنت قد نسيت، أيها السيد المحترم، فدعني، أذكرك: أنا زوجتك. أعلم أن هذا كان يعجبك في وقت ما ولكن الآن فجأة، أصبح يسبب لك الضيق. أعلم أنك تتظاهر بأنني غير موجودة، وبأنني لم أوجد قط، لأنك لا تريد أن تسيء إلى نفسك ظامام الشخصيات المثقفة جدا التي تتردد عليها. أعلم أن كون حياتك منظمة، وأن عليك أن تعود إلى المنزل في ساعة العشاء، وتنام معي وليس مع أي شخص يعجبك، شيء يشعرك بالغباء. أعلم أنه يخجلك أن تقول"أتعرفون؟ لقد تزوجت يوم الحادي عشر من أكتوبر عام 1972، وأنا في الثانية والعشرين من عمري. أتعرفون؟ قلت نعم أمام الكاهن، في كنيسة في حي ستيللا، وفعلت ذلك فقط بدافع الحب، ولم يكن عليّ إصلاح أي شيء. أتعرفون؟ لديّ بعض المسؤوليات، وإذا لم تتمكنوا من فهم معنى أن تكون لدى المرء مسؤوليات فأنتم أشخاص مساكين". أعلم، أعلم جيدا جدا. ولكن سواء أردت ذلك أم لا فالواقع هو التالي: أنا زوجتك وأنت زوجي، وقد تزوجنا منذ اثنى عشر عاما ـ سنكمل اثني عشر عاما في أكتوبر ـ ولدينا طفلان، "ساندرو" المولود عام 1965، و"آنا" المولودة عام 1969. هل يجب عليّ أن أطلعك على الوثائق الرسمية لتعود إلى صوابك؟
عندما أقرأ ما تكتبه، يبدو لي أنني الجلاد وأنت الضحية، وهذا ما لا أحتمله، فأنا أبذل أقصى ما لديَّ، وأفرض على نفسي ما لا يمكنك أن تتخيله من جهد، وفي النهاية أنت هو الضحية؟ لماذا؟ لأنني رفعت صوتي بعض الشيء، أو لأنني هشمت دورق المياه؟ لابد أن تعترف أنني كان لديَّ بعض الحق في هذا. لقد عدت بلا أي مقدمات، تقريبا بعد شهر من الغياب. كنت تبدو هادئا بل عطوفا. قلت في نفسي: لحسن الحظ عاد إلى صوابه. إلا أنك قلت لي، كأن شيئا لم يكن إن الإنسانة نفسها التي منذ أربعة أسابيع، لم تكن في نظرك مهمة ومن ذوقك قررت أيضا أن تمنحها اسما، وأطلقت عليها اسم "ليديا " ـ أصبحت الآن مهمة إلى حد أنك لن تستطيع العيش من دونها.
إذا استبعدنا اللحظة التي أشرت فيها إلى وجودها، أخذت تتحدث معي كأن الموضوع يتعلق بأمر تكليف في مهمة عمل لا يمكنني وفقا له سوى أن أوافق وأقول لك: لتذهب إذن مع "ليديا" هذه. أشكرك، سأبذل قصارى جهدي حتى لا أتسبب لك في إزعاج آخر.
وبمجرد أن حاولت أن أظهر رد فعلي، منعتني، وانتقلت إلى المواضيع العامة حول الأسرة: الأسرة في التاريخ والأسرة في العالم أسرتك الأصلية، نحن. هل كان لا بد أن ألتزم الصمت والأدب؟ هل هذا ما كنت تطلبه؟ يا لك من سخيف! بعض المرات، تعتقد أنه يكفي أن تقدم بعض الأحاديث العامة وبعض القصص الصغيرة لتضع الأمور في سياقها الصحيح. ولكنني تعبت من حيلك الصغيرة تلك. لقد قصصت عليَّ للمرة الألف، ولكن بنبرة مثيرة للشفقة لا تستعملها في العادة، كيف أن العلاقات السيئة جدا بين والديك قد دمرت طفولتك. واستخدمت الخيال والانفعال، وقلت إن أباك قد وضع الأسلاك الشائكة حول والدتك، وإنك في كل مرة كنت ترى عقدة من الحديد المسنن تدخل في جسدها كنت تتألم. ثم انتقلت إلينا. شرحت لي كيف أن أباك قد آذاكم جميعا، وأنت من ثم ـ نظرا إلى شبحه، كرجل تعيس قد حولكم إلى بائسين، ما زال يعذبك ـ تخشى أن تؤذي "ساندرو" و"آنا"، وتؤذيني أنا على وجه الخصوص. هل رأيت كيف أنني لم أنس ولا كلمة واحدة؟ لمدة طويلة أخذت تستفيض في الشرح، بهجوء العالم ببواطن الأمور، حول الأدوار التي سجنا داخلها بسبب زواجنا ـ أدوار الزوج، والزوجة، والأم، والأب، والابن، والابنة ـ ووصفتنا ـ أنا وأنت زطفلينا ـ بأننا تروس آلة ليس لديها أي عقل، مجبرة على تكرار حركات بليدة إلى الأبد.
ـ الزوج ألدو
" إذا كنت قد نسيت، أيها السيد المحترم، فدعني أذكرك: أنا زوجتك" كانت تلك أولى الكلمات التي وقعت تحت عينيّ، في تلك الليلة، وعلى الفور استدعت إلى ذهني الفترة التي رحلت فيها عن المنزل، لأنني كنت عاشقا لأخرى. في قمة الخطاب كان مكتوبا: 30 أبريل 1974. ماض، ماض بعيد جدا. في صباح أحد الأيام الفاترة، في نابولي، في منزل تلك الأعوام الفقير. عاشق. ربما كان الأفضل أن أقولها هكذا: "فاندا"، لقد عشقت". إلا أنني عبَّرت عن نفسي بطريقة أكثر وحشية، وأقل حسما عندما أفكر في الأمر الآن.
في الشقة لم تكن هناك ظلال الطفلين المقلقة، كان "ساندرو" في المدرسة، و"آنا" في الحضانة. قلت : "فاندا"، لا بد أن أعترف ِ لك بشيء: أنا على علاقة بأخرى.

حدقت فيّ، مندهشة، وأنا نفسي فزعت من تلك الكلمات همست: كان يمكنني أن أخفي ذلك ِ عنك، ولكنني فضلت أن أقول ِ لك الحقيقة.
وأضفت: يؤسفني، ولكن هذا ما حدث، ومن البؤس قمع الرغبة.
سبَّتني "فاندا" وبكت، ضربتني على صدري بقبضتيها المضمومتين ثم اعتذرت، ثم عادت لتغضب. بطبيعة الحال كنت متأكدا من أنها لن تتعامل مع الأمر ببساطة، ولكن أدهشني رد الفعل العنيف لهذه الدرجة. كانت امرأة دمثة الطبع، عاقلة، من ثم صعُب عليَّ أن أدرك أنها لن تهدأ بسهولة. لم يهمها كثيرا أن مؤسسة الزواج تمر بأزمة، وأن العائلة تحتضر، وأن الإخلاص ليس سوى قيمة تتمسك بها البرجوازية الصغيرة. أرادت أن يكون زواجنا هو الاستثناء المعجزي. أرادت أن تتمتع عائلتنا بصحة جيدة. أرادت أن نظل مخلصين دائما أحدنا للآخر.
ونتيجة ذلك شعرت باليأس، وطالبت على الفور بأن أصرح لها من تلك المرأة التي خنتها معها. خنتها، أجل، صرخت في وجهي في لحظة ما وهي تبكي، وأهنتها.
في المساء، وأنا أختار كلماتي بعناية، حاولت أن أشرح لها أن الأمر لا يتعلق بالخيانة، وأنني أشعر نحوها باحترام كبير، وأن الخيانة الحقيقية هي عندما يخون المرء غريزته واحتياجاته، جسده ونفسه. صرخت :هراء!
ثم على الفور تماسكت لكي لا توقظ الطفلين. تشاجرنا الليل كله بصوت منخفض، وكان ألمها بلا صراخ، ألما يضخم من عينيها ويشوه ملامحها، وشعرت بالرعب منه أكثر من الألم الصارخ. ارتعبت ولكنني لم أتورط، لم يدخل ألمها قط في صدري كأنه ألمي. كنت في حالة نشوة تحيط بي كأنها سترة مضادة للحريق. تراجعت، وأخذت وقتي، وقلت إنه من المهم أن تفهم، وقلت إن علينا نحن الاثنين أن نفكر. قلت إنني مرتبك وإن عليها مساعدتي. ثم تسللت وخرجت ولم أعد إلى المنزل لبضعة أيام.
ـ الابنة آنا
"ليديا" يبدو لي الاسم حتى الآن كعقرة حيوان. عندما تنطقه ماما، يصبح احتقارها احتقارنا، ونشعر بأننا ثلاثة بداخل جسد واحد. ولكن في تلك المناسبة نظرت إلى تلك الفتاة باهتمام، وتكسر ذلك البناء العضوي الذي كنت جزءا منه، فكرت: كم هي جميلة، يملأها التفاؤل، عندما أكبر أريد أن أصبح مثلها تماما. وعلى الفور شعرت بالذنب من هذه الفكرة، وما زلت أشعر به، أشعر به منذ زمن طويل. أدركت عندئذ أنني لم أعد أريد أن أشبه أمي، وأنني بذلك أخونها. لو كانت لديَّ الشجاعة لصرخت بكل سرور: " بابا"، "ليديا"، أريد أن آتي لأتنزه معكما، لا أريد أن أمكث مع ماما، فهي تخيفني". إلا إنني الآن، في هذه اللحظة بالتحديد، أتألم بشدة لأمي ولنفسي أيضا. فـ "ليديا" عارية، وبارعة الجمال، ونحن الاثنتان لسنا كذلك، ولم نكن كذلك قط، ووجود تلك الصور السري يثبت ذلك. أبي لم ينفصل قط عن "ليديا"، أما نحن، وإن كان قد عاد، فلقد تركنا. والآن وأنا أكبر من "ليديا" كثيرا عندما كانت في تلك الصور، وأيضا وأنا أكبر كثيرا من أمي في تلك الفترة من الألم القاسي، أشعر عند رؤيتها بالإهانة أكثر.
أسأل أخي الذي نزل من فوق السلم :
ـ منذ متى وأنت تعرف عن هذه الصور؟
ـ من نحو ثلاثين عاما
ـ ولماذا لم تطلع أمنا عليها؟
ـ لا أعرف
ـ وأنا؟
ـ يهز كتفيه بما معناه أنه لا يريد أن يحاول إقناعي مرة أخرى بمشاعره الطيبة نحوي. أتأفف :
ـ كم أنت طيب. كم أنتم جميعا طيبون مع النساء. لديكم ثلاثة أهداف عظيمة في الحياة: نكاحنا، حمايتنا، وإيذاؤنا.