سفر آخر في عوالم 'بالكأس ما قبل الأخيرة' لمنصف الوهايبي

الديوان الأخير للشاعر التونسي يصوغ عوالم محكية بفتنة السرد والتخيّل ومعان منشودة ضمن لعبة التجديد الشعري بوعي باذخ.

تخير الشاعر المنصف الوهايبي لوحة "جورج سورا" (بعد ظهر يوم أحد في جزيرة لا غراند جات) المنجزة سنة 1886 من بين أعمال غيره من الانطباعيين مثل كلود مونييه وألفريد سيزليه وفانسون فان غوغ وايزيدرو نونال مونتيريول وستانيسلاس ليبين وألبير قليزس وهي أعمال لأواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لوحة فارقة لجورج سورا الفنان التشكيلي الأمهر الذي وُلد بباريس حيث نشأ رفقة والدته وأخيه ليكون أبرز مؤسسي الانطباعية الجديدة خلال نهايات القرن التاسع عشر وبرع  أسلوبه التنقيطي باللعب على الضوء وانعكاساته والتضاد اللوني في مساحات صغيرة  ما يدعو الى النظرة الكلية للعمل الفني لإدراك حاله ومشهدية ذلك البينة خصوصا في عمليه الفنيين"بعد ظهر يوم أحد في جزيرة لاغراند جات" و"حمام سباحة أسنيير"، وتوفي سنة 1891 وقد ترك عديد الأعمال بين الرسوم واللوحات.

الشاعر المنصف الوهايبي وفي إشارة لهذه اللوحة الشهيرة لجورج سورا أخذنا الى قصيدته "قيروان: لوحة الأحد الكبيرة" في سرد شعري وازن وماتع كثيرا ما ألفناه في شعره بين منحيين تخييلي وتوظيفي يذهبان بالمعنى الى ممكناته الأخرى لتحضر الرموز والأسماء وما يشبه الأسطرة في ضروب من التعاطي الشعري ينبش في الذات / المكان مبتكرا جماليته الوجدانية الشعرية مارا بشعراء وفنانين تلمسوا الحالة الشعرية لقيروانه منتهيا الى كونها قيروانه التي يراها مثلما بدا الأمر لجورج سورا في حالة جمالية تجاه جزيرة لا غراند جات حيث كل تفصيلة وتلوين ونور وهيئات شخوص تعبر عن النظرة الحاسمة جماليا ووجدانيا في انطباعية فائقة فكأني بالمنصف يبوح بما انحفر وانطبع في شواسعه وظاهره من القيروان هذه التي يعنيها ومارآه الآخرون تجاهها يظل محض نظر عابر هي قيروانه بالنهاية كما انطبعت عبر الزمان فيه وهنا لغة الشاعر على روح عالية من الرغبة والجرأة.. انها قيروانه بوجدانه وحساسيته العالية :

أشد على الهواء، بها ولا أذن.. لألعب لعبة الرسام

(كأن الرسم موسيقى)

ولا ساق.. لكي أقفو..

كأني كنت أجمع بين فان غوغ ورمبودون أن أدري ؟

(..........)

لي"لوحة الأحد الكبيرة".. ذات يوم مشمس..

في القيروان.. على ضفاف زرودها..

(........)

شعراء هذي القيروان، أحبهم..

أصواتهم سرب من الغزلان في صحرائها

كانت تنير لنا الطريق الزئبقي .. القادمون من الشمال القادمون

نت الجنوب..

بهم سذاجة نبتة، مثلي، اذن

لا قيروانك أنت راينر ماريا ريلكه..

(...........)

لا قيروانك أنت يا روزا أليس، البحر أمك..

(...........)

لا قيروانك أنت يا سعدي..يا ابن يوسف..

وردة الثلج التي أهديتها..

(............)

لا قيروان محمد بنيس..

ذي فاس لنا أخرى، تطل على منازلنا..

(...........)

لا قيروانك أنت بول كلي..

تقودك ريشة منها الينا، أواليها..

لي حليب حامض كالضوء، عند غروبها..

(..........)

هي قيروانك أنت اذ تمشي بها

يا ابن الوهيبي..

في ثنيات الثعابين، الحراشف..

قل اذن :

هل حان وقت رحيلها.. أم فات ؟

أم هل حان وقت رحيلنا ؟

المنصف الوهايبي في هذا النص الشعري يستنهض الذاكرة والوجدان والحواس ليمنحنا حالة ثقافية حضارية ونعني القيروان مستلهما فكرة التجوال الجمالي في شواسع من تاريخها بين الحسرة والانتشاء والبهاء والتمثل الآخر للمكان وفق حنين لوني في مشهدية تنقيطية عارمة بعنوان "بعد ظهر يوم أحد في جزيرة لا غراند جات".

قصيدة بدأنا معها وبها هذا الدخول الى ديوان الشاعر الأخير الصادر عن دار مسكيلياني للنشر سنة  2019 والذي نجد ضمنه حوالي ستين قصيدة متعددة الاهتمامات الشعرية في أسلوب اعتاده قراء الشاعر لتحضر التواريخ والفنون والتفاصيل وفق نهج جمالي يعلي من شؤون القصائد التي يميزها حضور سردي في غير ملل وتكلف بل ان القصائد تسرد أحوالها في شعرية باذخة.

عبارة عنوان المجموعة "بالكأس ما قبل الأخيرة" استمدها من حوار مع جيل دولوز واستعملها في قصيدة خص بها الشاعر محمود درويش (محمود درويش/ يتم قصيدته بالكأس ما قبل الأخيرة / اليه ذكرى ضريحه – رام الله 2013) وهي ضمن جدلية التمام والنقصان وضرورة الغير تام كي تكون الحياة ومنها الكتابة وهي فكرة تعني الشعر كثيرا والابداع على نحوأعم ومنها بالخصوص:

"والآن أذكر أنني قد مت، لم أتمم قصيدتي الأخيرة، والتمام النقص، لكن في بدايتها"معدلة" على نغم لكم "متدارك" يجري بأصواتي على سمت الحياة، وفي نهايتها متى أتممتها  حجر يتيم بانتظارك أنت

(............)

وكل ما في الأمر أني

حامل الكشاف حيث النور صوت خامد في المسرح الخاوي،

ولست بدحية الكلبي في هيئات جبرائيل، أواسفنديار، ولست

رستم كي أقص عليكم القصص الفلسطيني أحسنه وأحزنه

ولا ذكرى ملوك الفرس،  لي شغلي

أساطيري لها أرواح قطتنا: عروج الناصري

وأمه حبلت به في طبلة من أذنها اليسرى أواليمنى

براق محمد، كيروب موسى صاعدين ونازلين، وصاعدين

ونازلين

أبوهما الثور المجنح في سماء الرافدين

ولي أنا جني وحيي،   لي انا

حورية وقفت على حجر اليتيم :"أنا وهبتك خاتمي"ومضت،

ولي شغلي،  ولي أم البدايات".

"بالكأس ما قبل الأخيرة" تجربة بينة فيها يغلب احتفاء الشاعر المنصف بالشعر حتى خلنا أن القصائد ترقص في كل الجهات التي يهطل فيها الشعر شرقا وغربا،  فبين الإهداء والاستذكار والتماهي وما أهدي اليه (نص عبد العزيز المقالح) يحيلنا الشعر في هذا العمل إلى جانب مهم لدى الوهايبي وهوحميمية الشعر الباذخة التي تبرز بعد مثل تجربته هذه نظرة مكتظة بالحلم والمحبة والحنين تجاه تفاصيل عاشها في حله وترحاله بين لبنان واسبانيا والبرتغال والعراق وغيرها.. واليمن التي شكلت لتجربته وفكرته الشعرية هذا البورتريه بقلم شاعرها وناقدها عبد العزيز المقالح وهو يمسح جانبا مهما من الحالة الوهايبية شعرا وحياة ولعله الأمر الذي جعل الشاعر يتخيره فاتحة للقصائد في هذه المجموعة وعلى الغلاف الخلفي:

"يداه الى الغيم مبسوطتان

وعيناه للبرق

هذا الفتى التونسي

الذي تورق العربية بين يديه،

وتخضل بالضوء

تهمي على جسد الكلمات

حدائق،

تضحك

تبكي

تغني،

وتنشر ألواحها

وأساطير أسلافها

صاحبي أنت وحدك

من فض سر القصيدة

من أطلق البرق في الكلمات

وفي سوسنات الحجارة".

والقارئ لهذه المجموعة يلمس دون عناء خطا ملحميا طي القصائد أضفى عليها بحرفية المنصف الوهايبي شعرية فائقة جعلت من الأمكنة كائنات تكشف وتحجب تأتي وتنأى ولها حواسها الأمر الذي يجعلها مفعمة بجدلية رائقة بين ألوانها القديمة الجديدة والماضية الحاضرة فلا مجال اذن لغير أن تعيش أزمنتها ترشح بها ترمم ما تداعى منها وتبرز جواهر الأسلاف الجدد والقدامى حيث الشاعر يرى الأحداث والتواريخ والعناصر والتفاصيل بعين القلب لا بعين الوجه نحتا للقيمة وقولا بالتمام في النقصان القديم والحديث فالمدن التي مر بها والشعراء والأحوال انما هي عناصر نظر متجدد واعلاء واغناء للشعرية... الشعرية الباحثة في غير تكلف والتي تحفر للكشف والاكتشاف.. هي شعرية الحيرة وما الشعر دون سؤال وقلق واعادة تقليب وبحث، هكذا هي قصيدة المنصف هنا وفي دواوينه السابقة كذلك ونقرأ في قصيدة"معلقة تقريظ المكان  :

"حيث المكان جزيرة العرب القدامى

والزمان هنا زمان لولبي،

نحن عودنا أصابعنا على أن تخرق البلور في الصحراء

وتوقع الأحجار والأشجار،

علمنا الأصابع أن تشيم البرق في نجد.. وتمسك ضوءه المبلول،

علمنا الأصابع أن تكون الماء

             ***

لكأننا أسلافنا اذ نلتقي أسلافنا،

وكأن همو جاؤوا الينا من وراء البحر،

أو خرجوا الينا من وراء الأرض،

حيث الضوء أزمنة بها مجدولة

(...............)

أقدامنا في الأرض تخبط... والقصيدة تحجب الشعر القصيدة  

تحجب الكلمات،

والصحراء عالمنا الذي يحوي القبائل والشعوب،

(...............)

ماذا اذن سنقول للكلمات اذ نمشي بها..الكلمات اذ تمشي بنا

مشي السحابة وهي تسأل عن صغير بذورها ؟

لغة تسيل على هوانا أم هواها...هذه الفصحى الحجر ؟

(...............)

لكأننا أسلافنا الآتون

نولد في زمان لولبي..هكذا حكماء مكتهلين..في الستين

في اشعارهم نمشي

ونصغر..ثم نصغر كل يوم..أيها الأبناء

(..............)

سيبقى بعض عطر من شميم عرار نجد

شاردا، بعد العشبة، في مضاربكم

ورائحة تحلق فوقكم، بيضاء.".

عوالم محكية بفتنة السرد ومعان منشودة ضمن لعبة التجديد الشعري بوعي فاتن يذهب خلاله وبه المنصف الوهايبي الى فهم متقدم للشعر في  كونه كف عن أن يكون تلك التوظيفات المألوفة للمتون السردية والحكائية والتاريخية فهو ينشئ في نصه وظائف أخرى متغيرة ومتجددة في نظرتها الشعرية..المجموعة وكما أسلفنا القول، قصائد بمثابة الملاحم والشاعر في تعاطيه مع الزمان والمكان والتواريخ، هو السفر الشعري والترحال ومحصلاته حيث اليومي والآني والقديم والمتخيل و.. و.... هي لعبة الشاعر الباذخة ومنذ دواوينه السابقة حيث الشعر هذا الوجدان المسائل القلق للعناصر والتفاصيل والأشياء في هيئاتها الحضارية والثقافية في ايقاع مخصوص نراه في أغلب قصائد المجموعة وفي كل ذلك يتقصد المعنى عودة الشاعر الى ذاته للانطلاق منها وصولا اليها وهكذا... الذات الشاعرة.. الكينونة في تجلياته في الزمان والمكان والأحوال:

"هل نحن أصداف المحار ! ؟

ونحن كالأسماك ننسى !

لم تعلمنا الطبيعة اذ تكررنا أنوثتها !

ولم نحمل من الصحراء الغير ضراوة العليق !

غير العوسج البري !

نحن نقول أشياء لنا، وحينا لا نقول..

ونحن نضحك..

نحن نخفي نفسنا عن نفسنا !

ونسير فينا، نلتقي أبدا بأشباح لنا..

وتقودنا خطواتنا أبدا الينا !

(...........)

- هل نتعشى معا؟

عند خاتمة الأوبرا، سوف يدخل موتزارت تمثاله الجص، ثم

يغني بعينين رامشتين لنا !".

هواجس شعرية من قصيدة الى أخرى ورموز وأمكنة ومدن وأسماء.. وشعراء  في تنوع تجاربهم ولغاتهم وثقافاتهم ومنهم امرؤ القيس وطرفة والشنفرى وعنترة وعمرو بن كلثوم والمعري والسياب ومحمود درويش وأدونيس وسركون بولص وبول فاليري وروزا أليس برانكو والمنصف غشام ونزيه أبوعفش والماغوط وممدوح عدوان وعبد القادر الحصني وبول فاليري والشاعر وعبد الوهاب الملوح وعمار منصور.. كون مفتوح على الأسماء والمعالم والذكرى  لنقرأ من قصيدة الوهايبي الى شاعر كبير رحل هوسركون بولص جانبا من وشائج الذاكرة تجاه بغداد التي حضنت الشاعر وحضنها في خضرتها وفي السواد، تحت مظلة سركون بولص :

"هذا الصباح نهضت،

كان التم يزدرد الضباب على الفرات

وضفدع يخضر فوق حجاره

وكأن شيئا لم يقع

لا جثة تطفوولا سفن تجيئ

        ***

كان العراقيون من منفى الى منفى

وفي كل المحطات التي يتوقفون بها

نرى رجلا

وحيدا

شاخصا تحت المطر

(..............)

الأرض ؟

لولا الجرح،  هل كانت لتنبت كل هذا الزهر؟

(...............)

شكرا لهذا الضوء

يمرق سهمه

في الطمي أبعد ثم أبعد

في الفرات أكون حيا ساكنا

عند احتضاري

كالنخيل ،  وأنتحي في الموت،  كالأسماك

هادئ مائه،

وأسر للأموات:    يا ماشين فوق الأرض

ناموا جيدا كي تحلموا...".

        

قصائد الشغف بالحكاية في ألقها التجريدي الموجع حيث لا وظيفة للسرد غير الدواخل تجرح الكلام، تجترح صورا جديدة في صور حالات قديمة جديدة،  شعر تامل ووجيعة في بذخ بهجة العبارة والكلمات..فتنة الذهاب عميقا في أرض الشعر بالطول والعرض حيث لا خوف ولا تردد..فقط أهبة الشعر واللغة في ذاكرة من الناس والأشياء..ومن التاس الشعراء وهم يقاسمون الشاعر الوهايبي توهجه هذا وانتشائه بالمحصلة في حالاتها الشتى وعلى قول عبد العزيز المقالح  ثانية:

"... تهمي على جسد الكلمات

حدائق،

تضحك

تبكي

تغني،

وتنشر ألواحها

وأساطير أسلافها...".

عمل شعري باذخ في بذخ الشعر والكتابة يذهب للأشياء بعيدها وقريبها قديمها وجديدها في شجون السؤال وبهجة الأحوال وتلوينات الدواخل وشواسعها، كتابة وفية للحظاتها وسرديات أزمنتها تنهل من طرفي طفولة شاعر.. بداياته والآن وهنا وما بين الوقتين من حكايات مبللة بالنشيد الخافت..والبهجة العارمة تجاه قراءة ما بدا وما يمكن أن يبدو..هي شعرية الحواس في أعالي الجبل لرؤية كل شيء أو لقول بعض من كل شيء... هي قصائد الشغف بالحكاية في ألقها التجريدي الموجع حيث لا وظيفة للسرد غير الدواخل تجرح الكلام، تجترح صورا جديدة.