سلوك الانتزاع أمام قوة الإقناع


لم يكن مفاجئا للقراء المخلصين لصحفهم اليومية في بريطانيا أن يجدوا مفردات السكاكين والخناجر والمطارق في صدر عناوين الصحف إثر تقدم الشعبويين في انتخابات البرلمان الأوروبي.
هل صعود اليمين المتطرف لإدارة البرلمان الأوروبي يعني فشل صناعة الخطاب الإعلامي المؤثر أكثر من فشل الأحزاب السياسية المعتدلة

من كان يعلم أن نايجل فاراج الشعبوي الذي يعاني الازدراء في وسائل الإعلام بقدر أكبر مما يزدريه الشارع البريطاني يؤسس حزب بريكست قبل أسابيع من انتخابات البرلمان الأوروبي وينتهي به المطاف فائزا يعيش لحظته التاريخية ويوجه رسائل تحذير شديدة لحزب المحافظين والعمال ووسائل الإعلام من أن هذا الفوز سيتكرر في الانتخابات البرلمانية المقبلة.

بل إن ستيف بانون، المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والمحرّض على الأفكار لدى الحركات القومية الشعبوية عبّر عن سعادته بـ”وفاة” مشروع التكامل الأوروبي. في تأكيد لاعتقاده القائم بأن الفجوة الأخلاقية ليست جريمة في عالمه!

سعادة بانون تكتنفها رمزية كبيرة بتقدم اليمين المتطرف المناهض للوحدة الأوروبية برئاسة مارين لوبان على حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

لقد ظهرت الأحزاب “المعادية لأوروبا” بوصفها أكبر الأحزاب في أربع من دول الاتحاد الأوروبي فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وبولندا. فمن كان يتصور ذلك في صحف دفعت بكبار منظريها ومفكريها وكتابها، لتحذير الجمهور من ضرر الشعبويين على الأمة البريطانية والفرنسية، تنتهي إلى أن سمة من سمات غريزة الاختيار والتجريب تسود إلى درجة لم يعد فيها رأي الجمهور يتفاعل مع صناعة الرأي التي تحترفها وسائل الإعلام.

لذلك لم يكن مفاجئا للقراء المخلصين لصحفهم اليومية في بريطانيا مثلا أن يجدوا مفردات السكاكين والخناجر والمطارق في صدر عناوين الصحف إثر تقدم اليمين المتطرف هذا الأسبوع.

معركة مماثلة مستمرة في وسائل التواصل الاجتماعي يديرها الجمهور بعيدا عن كل تنظيرات المدارس الإعلامية، جعلت الناس تتسق معها وتمضي بقناعاتها المعلنة، في إهمال مخيف لكل ما يسطّر من مقالات في الصحف ولأسماء احترفت الكتابة والتنظير وصناعة الأفكار. ليس مهما ما يقوله سايمون جينكينز وسوزان مور في الغارديان ولا تحليل ماثيو باريس في التايمز، فهناك مجاميع على السوشيال ميديا تدعم باندفاع من يريد تحطيم فكرة الأمة الأوروبية بغرور قومي ضيق.

لقد نجح الجمهور الشعبوي في الانتصار عبر سلوك “الانتزاع” بدلا من “الإقناع” الذي فشلت فيه وسائل الإعلام بجدارة، إذ لم تعد قادرة على صناعة أفكار جديدة مقنعة للناس.

ولم يعد كلام أندرو كوبر، عضو مجلس اللوردات المنتمي إلى حزب المحافظين ومستشار الحكومة السابق لشؤون الانتخابات، عن بوريس جونسون المرشح لرئاسة الحكومة البريطانية يمتلك نفس القدر من التأثير اليوم بعد الانتخابات الأوروبية عندما وصف جونسون بـ”الخواء الأخلاقي والشعبوية”.

اليوم جونسون يكتب في صحيفة الدايلي تلغراف “نحن قادرون على تطبيق البريكست ولا بد من القيام بذلك”، ويتحدث بثقة في متن صحافة بريكست نفسها بقوله “لا يمكن لأي شخص عاقل أن يسعى فقط للخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، لكن لا بد لأي شخص عاقل أيضا أن يبقي هذا الاحتمال واردا”.

هل صعود اليمين المتطرف لإدارة البرلمان الأوروبي يعني فشل صناعة الخطاب الإعلامي المؤثر أكثر من فشل الأحزاب السياسية المعتدلة في الانتخابات الأوروبية؟

الحقيقة، تبدو الإجابة بنعم كبيرة، فواقع صناعة الخطاب بلغ حدا لا يمكن الاعتماد عليه والوثوق بأفكاره بوجود جيل يصنع قناعاته بنفسه على منصاته الشخصية ويستثمر في النتائج لصالحه ويمنح نفسه المكافأة التي يحددها! إذ لا تكفي التعزية الوحيدة التي أتت من هذه الانتخابات بالنسبة إلى البريطانيين المتمسكين بالبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، بحصول الحزب الليبرالي الديمقراطي على 16 مقعدا في البرلمان الأوروبي.

لقد منح اليمين الأوروبي علاوة سياسية وإعلامية لنفسه مأخوذة من حصص وسائل الإعلام التي فشلت في بث أفكار التأثير بطريقة مقنعة للجمهور، الأمر الذي يرجح أن يساعد هذا الوضع في تحول واضح بعيدا عن معايير الثقة والإقناع والعقلانية والمسار الصحيح التي تزعم وسائل الإعلام الأوروبية العمل من أجلها، ما سيؤدي إلى ازدواجية الجهود البحثية التي تضع مزيدا من الحواجز في أنحاء أوروبا لتمتد إلى العالم برمته. ويصبح الحديث أكثر عن أوروبا غير موحدة هو السائد، أما أطنان المقالات والتحليلات عن أوروبا الموحدة المتسامحة التي دبجتها الصحف عالية المسؤولية فستذروها الرياح وفق تعبير كافكا!

بموجب هذا السيناريو، سيتم تبرير إحجام أسواق صناعة الرأي عن نشاطها بعد فشلها في اختراق العقول، فالشعور بالقلق لا ينتاب المسؤولية الأخلاقية التي يرفعها عاليا الكتاب والمحللون في الصحافة عالية الحساسية وحدها، بل إن مستقبل الثقة مهدد بين أجيال تصنع رأيها بنفسها وبين ما كان يطلق عليه قديما مصدر المعلومة والمرشد لتوجه الناس في اتخاذ قراراتهم السياسية.

هذا يهدد أيضا علاقة الحكومات مع وسائل الإعلام، وقد تعود إلى تصنيف جديد لمفاهيم تأثير تحاربها اليوم على فيسبوك بوصفها تحريضا وتنمرا وأخبارا كاذبة.

الدروس التي تلقتها وسائل الإعلام من فشلها في التأثير على الناخب الأوروبي أكبر بكثير من دروس الخيبة التي منيت بها الأحزاب الخاسرة وفق تعبير تيريزا ماي.

بل إن دعوة الرئيس البولندي الأسبق ليخ فاونسا التي سبقت إدلاء الأوروبيين بأصواتهم إلى مكافحة الشعبويين والهمجيين بقوة، وألا نتركهم يخيفوننا لن تجد لها صدى بعد الانتخابات، لأن الصحافة بكل ما تمتلكه من قوة تأثير لم تستطع انتزاع هذا الخوف من قلوب الأوروبيين. وربما سيكون لكل بلد أوروبي “بريكسته” الخاص وعندها لا تجد وسائل الإعلام من التأثير غير القبول بالواقع الجديد.