شريف عبدالمجيد يرصد كوابيس الواقع في 'تاكسي أبيض'

القاص المصري المبدع يفتح الأبواب المغلقة متمردا على أشكال الكتابة السائدة ببنية سردية من الواقع تصور عوالم خاصة تحفل بالعجائبي موقعا المتلقي بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة وغير خاضع لأعراف العقل وقوانين الطبيعة.

يرى إرنست فيشر أن وظيفة الفن ليست أن يدخل عبر الأبواب المفتوحة، بل أن يفتح الأبواب المغلقة، وهذا ما يفعله القاص المبدع شريف عبدالمجيد، فهو يعمد إلى التمرد على أشكال الكتابة القصصية السائدة فانطلقت البنية السردية عنده من الواقع مصورة عوالم خاصة تحفل بالعجائبي خصوصا في القصص السبع التي يتكون منها القسم الأول من المجموعة، وبحسب  تودوروف العجائبي هو "التردد الذي يحس به كائن لا يعرف غير قوانين الطبيعة فيما يواجه حدثاً غير طبيعي حسب الظاهر"، هذه الحيرة هي التي توقع المتلقي بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة وغير خاضع لأعراف العقل وقوانين الطبيعة.

ويعرف روجيه كايوا العجائبي بأنه اختراق أو اقتحام الممنوع الذي لا يمكن أن يحدث، ولكنه رغم ذلك يحدث في نقطة وفي لحظة دقيقة، وفي قلب عالم متجدد بامتياز، حيث يعد  وليد استقرار فظ لما فوق الواقع في عالم عادى، ويوحى هذا التعريف بأن العجائبي يمثل صدعا في بنية الواقع، ببعثرة قوانينه الطبيعية، والسخرية منها، ربما لذلك يمتلك السرد العجائبي مرونة يفتقدها السرد التقليدي فيتمكن العجائبي من صهر الأسطوري والحكائي في بنية جديدة تعيد تقديم الواقع كما يراه الكاتب لا كما حدثت وقائعه.

هكذا يعيد العجائبي تصوير اللا مألوف في سياق المألوف والعادي، وتبدو تقنية التحول تعبيرا عن معان قاتمة مرتبطة بالخوف وانعدام الأمن فالعجائبية تكمن في انتفاء الألفة وتزداد حدتها حينما يمزج القاص بينها وبين الواقعي، مفترضا تعامل المتلقي لها باعتيادية  فالسرد العجائبي يكتسب طابعا إيهاميا فيبدو وكأنه أحداث تجري باعتيادية ولكنها عجيبة بطريقة فوق طبيعية.

وقد منحت العجائبية والغرائبية قصص المجموعة ودلالات قادرة على تصوير الواقع وإدانته في بنية جديدة تعرض الحقيقة وفقا لرؤية الكاتب وليس كما حدثت بالفعل. لذلك كان الكاتب موفقا في اعتماده شبه المطلق على ضمير المتكلم، إذ أتاح حضور الراوي في الحدث بأن يصعد من غرائبية أو عجائبية الحدث، كما أّنه يوهم المتلقّي بواقعية الأحداث.

تاكسي أبيض

أعتقد أن القاص شريف عبدالمجيد وهو يختار القصص التي شكلت مجموعته "تاكسي أبيض" كان يقصد بها أن يرسم بالقلم غرافيتي للشارع المصري خلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فالكاتب التقط موضوعات القصص من الشارع المصري ليعبر من خلالها على رؤيته الخاصة لذلك  الشارع الصاخب، ربما لذلك منح المجموعة عنوان "تاكسي أبيض" فمن خلال حركة التاكسي الدائبة في الشارع، وهي حركة غير مخطط لها، وغير محددة الاتجاه، وتكون بحسب اتجاهات الركاب المختلفة، وعبرها يمكن رصد كافة التفاصيل.

وجاء عنوان القسم الأول "القبض على سمكة"، وهو عنوان عجائبي دال أيضا على حركة لكن عبثية إذ تتمثل في مطاردة السمكة والقبض عليها، أما عنوان القسم الثاني "غرافيتي" فهو يوحي بالثبات النسبي، فالغرافيتي بصفة عامة هو فن الرسم أو الكتابة على الجدران، لكنه ارتبط في الأذهان بثورة يناير، وفي قصة غرافيتي بالمجموعة يتنقل المصور بين القاهرة والسويس والمحلة ومدن أخرى لتوثيق جرافيتي الثورة، التي تمثل تحركا إراديا عاما في الاتجاه الصحيح. كذلك فالأبيض لون التاكسي يشير إلى أن قصص المجموعة تصور لنا واقعنا اليوم فالتاكسي الأبيض حديث نسبيا وحل محل التاكسي الأسود الذي ينتمي لعصر سابق.

وهذا القصد، أقصد أن تكون القصص رسما غرافيتيا بالقلم، ألهمه هذا التشكيل المحكم لمجموعته، ابتداء من عتبات النص ممثلة في عنوان المجموعة، وعنواني القسمين المكونين لها، وكذلك مفتحي القسمين، إذ استهل كل قسم من قسمي المجموعة بمقتبس يمثل مفتاحا لعوالم قصص هذا القسم.

القبض على سمكة

يستعير الكاتب مفتتحا لقصص هذا القسم من قصة "سور الصين العظيم" لفرانز كافكا تقول: "لا أحد يمكنه أن يقاتل ليشق لنفسه طريقا عبر هذا المكان، حتى لو كان مزودا برسالة لرجل ميت، لكن يمكنك أن تجلس على نافذتك، عند هبوط المساء، وتحلم بما في هذه الرسالة بنفسك". هذا المفتتح الكابوسي يشير إلى حالتي الاغتراب وافتقاد الشعور بالأمن المسيطرين على شخوص القصص، كما يدل على عبثية الواقع نفسه، كما في قصة الطرد، فالوزير حينما  يفتح باب شقته يجد طردا، يسيطر عليه الشعور بالخوف فيستدعى الأمن، ويتم اخلاء المكان، ويحضر خبير المفرقعات ليكتشف أن ما بالطرد جمجمة شاب في نحو الثلاثين من العمر،  بعدها يتوالى وصول الجماجم للبقال وللموظفين ويستمر وصولها حتى تصل إلى البرلمان ومبنى الرئاسة.

يثور السؤال عمن لديه كل تلك الكمية من الجماجم، فيتتبع رجال الأمن اللحادين، وعمال المشرحة وطلبة الطب، ويحاصرون سكان المقابر لكن استمرت طرود الجماجم، حتى بعدما قدمت الحكومة استقالتها وأُلغيت الانتخابات وتم تعديل الدستور لكن الطرود التي تحوي الجماجم كانت لاتزال تُرسل بالانتظام نفسه والطريقة نفسها.

تقدم القصة ثلاثة أصوات: رجل الدين ذو النزعة الغيبية يقول: هذا غضب من الله. ورجل الأمن يرى في الطرود تسيب ومؤامرة يحتاجان إلى الشدة، بينما يراها عالم الاجتماع ثورة الجياع، ولا أحد يسمع له فيخفت صوته، ويفرض رجل الأمن منطقه السلطوي الذي يفشل هنا في حل اللغز، ويتكرر فشله في قصص أخرى، فمثلا في قصة في "البحث عن سمكة" حاول أحد العلماء إخبار أجهزة الأمن أن السبب العلمي الوحيد لهجوم أسماك القرش هو الصيد الجائر لصغار الأسماك؛ وهو ما جعل أسماك القرش تشعر بالجوع وتهجم على الناس، لكن لم يستمع إليه أحد"، لذلك أصبح هجوم أسباب القرش قابلا للتكرار، تماما كما استمر وصول طرود الجماجم.

وفي أغلب قصص القسم الأول ينطلق الكاتب من حدث واقعى ثم يخرج به يخرج به عن مساره الواقعي إلى مسار آخر تخييلي، يمنح النص مساحات واسعة من الفنتازيا، تجعل النص قابلا لتأويلات متعددة، فحادثة هجوم سمكة قرش على السائحين حدثت بالفعل، وتابعتها الصحف والقنوات الفضائية، وكذلك في "اعترافات سارق الونش" التي تنطلق من واقعة سرقة الونش من معدات مترو الأنفاق في القاهرة في نهاية الثمانينات، وهي واقعة عبثية غير معقولة، تستعيدها القصة من خلال واقعة أشد غرابة عبثية وهي في سرقة الهرم الأكبر.

نقرأ في ص 48 "وصل مجموعة من السائحين إلى منطقة الأهرامات وأبي الهول، وبينما كانوا يحاولون التقاط صور لهم في منطقة أهرامات الجيزة، صرخ أحدهم: أين الهرم الأكبر؟، وعلى الفور، انتقلت قوات الأمن والقوات الخاصة ورجال إحدى الجهات السيادية وعربات الإسعاف والقنوات الفضائية؛ لبحث هذا الأمر الغريب".

المفارقة أن السائح الأجنبي هو من اكتشف اختفاء الهرم، فلم ينتبه أحدنا لاختفائه وكأن واقعنا الكابوسي أفقدنا القدرة على إدراك ما قد يحل بنا.

غرافيتي

يضم القسم الثاني "غرافيتي" سبع قصص أيضا، تتضامن مع قصص القسم الأول في التعبير عن رؤية الكاتب لواقعه، لكن تختلف عنها في ضيق مساحة العجائبي حتى كاد أن يتلاشى، فإذا كانت عجائبية قصص القسم الأول أداة لرسم الواقع القاسي الذي يشكك الإنسان في جدوى وجوده وحقيقته، ويفك العرى بينه وبين رغبته في الحياة، فإن قصص القسم الثاني ترثي لأولئك المطحونين والمهمشين. وتصور ما فعله بهم واقعهم الكابوسي شديد الوطأة.

فترصد قصة "تاكسي أبيض" مدى تفشي الخوف في نفوس البشر، لدرجة جعلت كل منهم يتوجس من الآخر ويتوقع منه شرا، ويحتاط ليدرأ عن نفسه هذا الشر المحتمل، فسائق تاكسي والرجل والمرأة المنتقبة كل منهم يتوجس من الآخرين ويحتاط لحماية نفسه، لكن ذلك لا يوقف حركة التاكسي / الحياة، "التاكسي يتحرك بسرعة كبيرة على الطريق الدائري وسط أعمدة النور المُطفَأة وصوت العربات الموازية للسيارة الممتزج مع صوت الموسيقى الناعمة الهادئ الصادر من تسجيل التاكسي، وسط ترقب الثلاثة لأفعال كل منهم وتحفزه لما قد يفعله أي منهم تجاه الآخر".

ولنتأمل هنا دلالات تعبيرات مثل دائرية الطريق وسرعة التاكسي وانطفاء أعمدة النور.

ورغم كابوسية هذا الواقع إلا أن القصة تضمر أملا ما، فالتاكسي لا يتوقف وثمة موسيقى ناعمة هادئة تنبعث من الكاسيت، رغم تربص كل من الثلاثة بالآخر. وهو الأمل الذي تتمسك به قصة "غرافيتي" فالمصور نجح في العثور على اللوحة الضائعة وعاد بها سيرا من شبرا إلى الهرم. ربما في إشارة إلى استمرارية الثورة، وتنتهي المجموعة بصيحة تحذير  تطلقها قصة "ستوديو طولون" التي ترصد تداعيات العولمة وآثارها السلبية من خلال استعراض الراوي لتاريخ عشقه للتصوير منذ الطفولة وارتباطه العاطفي بشركة "كودك" وبنوعية الكاميرات التي كانت تنتجها وكأن هذه الشركة لم تصدم أمام طوفان العولمة وأشهرت إفلاسها.

وأخيرا فالقصص بشقيها العجائبي والواقعي يغلب على شخصياتها:

الشعور بالحصار وبالخوف كما ترصد القصص عجز الحكومة عن حل الأزمات تحقيق الأمن وتبعية الأعلام وعدم تعبيره لا عن الحقيقة ولا عن الناس.