شعرية انفتاح الخمليشي والنَّصْنَصة

حورية الخمليشي ترى في كتابها أن جوهر الشعر المعاصر يكمن في الإيقاع والانفتاح على الفنون المجاورة، معتبرة أن الشعرية الحديثة تتجلى في التفاعل مع الموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما، مما يمنح النص عمقًا وجدةً تتجاوز الوزن والقافية.

ترى الأكاديمية المغربية حورية الخمليشي أن قضية الشعر في عصرنا الراهن هي الإيقاع، أي علاقة الذائقة العربية بمسألة الإيقاع، لأن الشعر حينما يخلو من الموسيقى والتي يُحدثها الإيقاع يفقد صفة الشعرية، فالشعر يستمد سلطته وفنيته من موسيقى لغته التي تُشعرك بعمق رؤاه وقدرته العجيبة على التأثير في المتلقي. فالإيقاع إذن مسألة أساسية في التفريق بين ما هو شعري وما هو غير شعري.

وهي في كتابها الجديد "شعرية الانفتاح ولا نهائية التأويل في الشعر العربي الحديث" تؤكد أن وعي الشاعر الفني والجمالي المنفتح على الفنون التشكيلية والمسرحية والسينمائية والموسيقية إثراء للنص الشعري. وتتناول في الكتاب بنية اللغة عند محمود درويش، والتعالق النصي وخروق الحدود الإجناسية عند أدونيس، وفنية البناء النصي عند محمد بنيس.

إن موضوع تحولات البنية في الخطاب الشعري المعاصر نحو شعرية مفتوحة هو ما يشغل بال الخمليشي، وترى أن البنية السردية ملمح من ملامح بنية الخطاب الشعري المعاصر لدورها في فتح آفاق جديدة للسياق الحكائي في النص الشعري، كما أن شعرية الانفتاح على الفنون المجاورة منحت النص الشعري نفسًا جديدًا، ذلك أن العلاقة بين الصورة الشعرية والصورة البصرية علاقة توافقية تجاورية بالرغم من اختلاف الوسائط بين المنطوق والمنظور. وبذلك تخطَّى الشعر المعاصر حدود القصيدة الشعرية الغنائية إلى رحاب الخطاب الشعري المنفتح على عوالم رحبة داخل بنيته الشعرية.

وإذا أردنا أن نضع معيارًا لبنية الخطاب الشعري المعاصر، فإن هذا المعيار يكمن في الإبداع والجدة والخلق والابتكار والتجاوز والانفتاح على المسقبل الشعري، وأن معيار القصيدة يتمثل في قيمتها الإنسانية، ومدى انفتاحها على التجارب الإنسانية الكونية.

وعلى ذلك تتحدث الخمليشي في فصلها الأول - من الكتاب الصادر عن "خطوط وظلال للنشر والتوزيع بالأردن 2024 - عن الشعر المعاصر وإعادة بناء المسكن الشعري، مؤكدة أن الوزن وحده على أساس التفعيلة لا يأتي بشعر جديد، وأن تصور الحداثة عند العرب يختلف عن تصور الحداثة في الغرب، مشيرة إلى أن الحداثة حركة إبداعية مواكبة للحياة في تطورها، ولا تقتصر على زمن محدد دون آخر. مرددة رأي أدونيس أن "ليست كل حداثة إبداعًا، أما الإبداع فهو أبديًّا، حديث".

أما عن الفرق بين الخطاب والنص، فالنص حسب جوليا كريستيفا جهاز عبر – لساني يعيد توزيع نظام اللسان بواسطة الربط بين كلام تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وبين أنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه أو المتزامنة معه، فالنص إذن إنتاجية، أما الخطاب – حسب هاريس - فهو ملفوظ طويل، أو متتالية من الجمل تكوّن جملة منغلقة، يمكن من خلالها معاينة سلسلة من العناصر بواسطة المنهجية التوزيعية وبشكل يجعلنا نظل في مجال لساني محض.

وعودة إلى الوزن والإيقاع، حيث لاحظت الخمليشي خلطًا بين الإيقاع والوزن، لذا تعرّف الوزن بأنه ظاهرة صوتية تنشأ من تساوي أجزاء البيت الشعري، بينما الإيقاع يشمل النسق الصوتي الذي لا يمكن اختزاله في الوزن. وتستشهد بمقولة د. شكري عياد بأن "الوزن الشعري أخصّ من الإيقاع الشعري"، ناهيك عن أن الشعرية لا تتحقق من خلال الوزن والقافية. غير أن الشاعر الخلاق – عند أدونيس – يمكن أن يبدع من داخل الوزن والقافية كما نجد عند أبي نواس وأبي تمام في علاقتهما بالشعر الجاهلي.

وفي حديثها عن الخطاب الشعري المعاصر تؤكد الخمليشي أن هذا الخطاب يمتاز ببناء لغوي سردي وفني في تقاطعه مع الفنون البصرية. وتشير إلى أن فيلسوف الفن الإلماني جوتهولد ليسينج أول من أثار الانتباه للعلاقة بين الفن التشكيلي وفن الشعر في كتابه الذائع الصيت "لاؤوكون" (1766) والذي ترجمته فوزية حسن إلى العربية بإشراف جابر عصفور. وفي هذا الكتاب تجسيد لكيفية انتقال الفكرة من الرسم إلى الفن الشعري أو العكس.

أما أول كتاب يهتم بالتواشج بين الشعر والفن فهو كتاب إيف بيري الموسوم بعنوان "الرسم والشعر"الصادر عن دار النشر غاليمار عام 2001.

وتشير الخمليشي إلى أن لوحة "الغراب" تعد أول عمل يجمع بين الشاعرين إدغار ألان بو واستيفان مالاميه والرسام إدوارد مانيه.

وفي الشعر العربي نجد قصيدة "غرناطة" لنزار قباني التي تتميز بالعديد من الصور السمعية البصرية التي تلتقطها عدسة الكاميرا بأشكال مختلفة لحالة شعرية درامية، فما يجمع بين لغة الشعر ولغة السينما هو بلاغة الشعر، فالقصيدة تتشكل من كل عناصر السينما من شخوص وزمان ومكان وحوار. كما يمكن أيضا مسرحة القصيدة على خشبة المسرح لما تمتاز به من بنية درامية مختلفة.

كما أن هناك قصيدة لصلاح عبدالصبور في ديوانه "الناس في بلادي" وظَّف فيها لغة اليوم بطريقة سردية خلاقة في تصوير ووصف الطقوس الجنائزية لموت أبيه للتعبير عن حجم المأساة والمعاناة التي تعاني منها ذات الشاعر، ما جعل لغة اليوم ترقى إلى مصاف الشعرية المنفتحة على تعدد التأويلات.

وهناك قصيدة أحمد عبدالمعطي حجازي "قصة الأميرة والفتي الذي يكلم المساء" في مجموعته الشعرية "مدينة بلا قلب".

وهناك تجارب أخرى عند أحمد زكي أبوشادي وبلند الحيدري وسعدي يوسف والبياتي وغيرهم. وهكذا نجد أن هناك من الشعراء مَن استوحى قصيدته من لوحة تشكيلية أو فيلم سينمائي أو عمل مسرحي وغيرها، في علاقة قائمة على التواشج والتجاور لتجارب شعرية مشدودة إلى الجمالي في نصوصهم الشعرية وتحمل رؤيا مغايرة للبنية الموسيقية في القصيدة.

وتتوقف الخمليشي عند بنية اللغة عند محمود درويش وخاصة في قصيدته "أثر الفراشة"، وعند التعالق النصي وخرق الحدود الأجناسية عند أدونيس، وفنية البناء النصي عند محمد بنيس خاصة في "كتاب الحب" الذي يطرح إشكالية التجنيس، ويمتاز بنوع من شعرية النثر بأسلوب فلسفي يعتمد فيه بالاستشهاد بنصوص من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، مشيرة إلى أن "كتاب الحب" نصنصةٌ، أي جماع نصوص رسمية وشعرية، وما هو شعري يحتوي على نصوص متعددة، وهو ينتمي إلى تقاليد تأليفية قديمة وحديثة ومعاصرة. وأجمل ما فيه هو التواشج بين بنية الخطاب الشعري وبين نسيج الخطاب البصري بمشاركة الفنان ضياء العزاوي.