شكرا ترامب… الإعلام عدو الشعب!


أن يكون الصحافي معارضا مخلصا من أجل إشاعة الحقيقة ومنع الفساد، فهو لا يمكن أن يكون عدوّا للشعب، ذلك ما لا يريد أن يدركه ترامب وهو يعيش مرحلة مستمرة من اللعب السياسي المسكون بالشغف العبثي.
ترامب عدو الصحافة

ما يثبت أن الرئيس دونالد ترامب يعيش أجواء مشوشة وفق تعبير نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب الأميركي، أنه أعاد استخدام مصطلح ممهور باسمه عن “الإعلام عدو الشعب”، لأنه يتجاهل عن عمد الصورة المثالية التي افترضتها المقولة التاريخية للرجال الأقوياء الذين كتبوا الدستور الأميركي والتي فضلت دولة من دون حكومة على دولة بلا صحافة!

فترامب مثل بوريس جونسون وسيلفيو بيرلسكوني يفهمون السياسة بأنها التعريف الأمثل للإعلام، لأن فهمهم معا يعرّف السياسة هي الإعلام والرسالة هي الوسيط بينهما.

لذلك كتب مبتهجا في حسابه على موقع تويتر الذي يحظى بمتابعة مليونية “أصبحت وسائل الإعلام الرئيسية في مرمى النيران، وصارت محل احتقار في جميع أنحاء العالم باعتبارها فاسدة وزائفة” متهما الصحافة بأنها عدوّة الشعب والحزب المعارض الحقيقي.

إنه أمر يستحق الاهتمام في التركيز على فكرة “المعارض الحقيقي” التي ربطها ترامب بطريقة مشوشة كعادته بـ”عدوّ الشعب” في النظر إلى الإعلام.

أن يكون الصحافي معارضا مخلصا من أجل إشاعة الحقيقة ومنع الفساد، فهو لا يمكن أن يكون عدوّا للشعب، ذلك ما لا يريد أن يدركه ترامب وهو يعيش مرحلة مستمرة من اللعب السياسي المسكون بالشغف العبثي.

إن هذا النوع من المعارضة الصحية هو ما يُبقي الديمقراطية على قيد الحياة، ويشكل في فحواه واحدة من المسؤوليات الجوهرية للصحافة الحرة، وفق تعبير الكاتب الأميركي نوح فليدمان.

لقد كتبتُ ذات مرة عندما يكون الصحافيون “كائنات ضارة” للسياسي، فإنهم سيكونون كائنات نافعة بالنسبة للمجتمع. لذلك يجتهد أن يكون الصحافي المتسق مع ذاته “كائنا ضارا” بالنسبة لأي سياسي، بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة الأميركية، من أجل تفنيد الأكاذيب المتصاعدة والمستمرة وكشف الفساد ومنع السياسيين من الاكتفاء المجرد بدفع ضريبة الكلام وحدها.

لم يتمّ اختراع الحرية في الولايات المتحدة، بل هناك عدد قليل من الدول التي كانت فيها أهمية الصحافة المستقلة منسجمة بشكل وثيق مع تاريخها الطويل. هذا التقليد الأميركي العظيم من الاحترام المدني للحقيقة وقول الحقيقة هو الآن تحت التهديد. وهذا لا يعني أن الصحافة الأميركية ليست لديها الكثير من الأخطاء والانحياز والغرور وتلفيق القصص، بل إن بعض وسائل الإعلام هي منافذ حزبية تظهر استهتارا عارما بالحقيقة وانقيادا أعمى لخطط الإدارة الأميركية، “هل ننسى أكاذيب جورج بوش عن أسلحة الدمار الشامل لدى العراق والتبني الأعمى لها من قبل نيويورك تايمز مثلا؟”.

دونالد ترامب ليس أول رئيس أميركي يهاجم الصحافة أو يعاملها بشكل غير عادل، لكنه أول من يبدو أن لديه سياسة محسوبة ومتسقة تقوض الشرعية بل وتعرّض عمل الصحافة للخطر.

لكن ليس من مهمة الصحافة إنقاذ الولايات المتحدة من ترامب، إن مهمة الصحافة هي أن تقوم بالإبلاغ والتعمق والتحليل والتدقيق بأفضل ما تستطيع ودون خوف وفق تعبير صحيفة الغارديان البريطانية.

سبق وأن طالب كارل بيرنستاين الصحافي والكاتب الأميركي الذي ساهم في كشف تداعيات فضيحة “ووترغيت”، بضرورة مقاومة خطر وقوع الديمقراطية فريسة للاستبداد والديماغوجية وحتى الإجرام من قبل القادة المنتخبين والمسؤولين الحكوميين. لأنه حتى الديمقراطيات الكبرى ليست حارسا أمينا للحقيقة التي ينشدها الناس. وهو نفس السبب الذي دفع الكاتبة البريطانية سوزان مور إلى مواجهة “كيس الأكاذيب” السياسي، بتخلي الصحافيين عن “فكرة التردد” فالعالم يخوض حربا ذاتية بشأن المعلومات، والصحافيون ليسوا خارج هذه الحرب لأن الحقائق موجودة وفي الوقت نفسه يسقط الناس في الأكاذيب.

وهذا يعني أننا كصحافيين علينا ألّا نعزل أنفسنا في فقاعات أيديولوجية، وفق تعبير الكاتب تيم هارفورد “ونتعرض فقط لآراء الذين لديهم طريقة تفكيرنا نفسها” كي ننتصر على الرقيب الكامن في داخلنا قبل ترامب الذي يحاصرنا بهيئة شرطي.

تواجه الصحافة اليوم تهديدا اقتصاديا وجوديا في إعادة ضبط مكانتها في العالم. بينما يتصاعد الجدل المتشائم بشأن الإعلام والسياسة والديمقراطية، هناك تردد أكثر من أيّ وقت مضى بشأن تعريف الصحافة، ولماذا هي مهمة.

يقول ألان روسبريدجر رئيس تحرير صحيفة الغارديان البريطانية السابق “إذا كان الصحافيون لا يستطيعون الاتفاق على فكرة عامة عن طبيعة المصلحة العامة والخدمة التي يطالبون الحكومات بتوفيرها للناس، فإن ذلك يعقد الدفاع عما نقوم به في عصر الإعلام الحر الأفقي، من المهم بالنسبة لنا كصحافيين أن نكون قادرين على تحديد وإعلان قيمنا وأهدافنا واستقلالنا”.

من المفيد هنا، إعادة التذكير بكلام لرئيس حزب العمال البريطاني السابق إد ميليباند، عندما كان سياسيا في مواجهة الصحافة (ميليباند اليوم صحافي يقدم برنامجا حواريا إذاعيا من هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”)، كان يرى أنه ليس بمقدور أحد إحداث أي تغيير إذا كانت فكرة مثل إن كل السياسيين مرتشـون وغير شرفاء، سائدة فـي كل ما تكتبه الصحف.

يصعب على ميليباند السياسي بالأمس والإذاعي اليوم، الاستمرار في الدفاع عن فكرته تلك، لأن الصحافة حسب آلن روسبريدجر لا تتسول أخبار التجسس كما يعتقد بعض السياسيين أو غيرهم.

الصحافة الحرة يجب عليها أن تفعل ما في وسعها للحفاظ على احترام الحقائق والأحكام المتوازنة.

الصحافة يجب أن تقوم بعملها دون خوف أو تهديد أو ترهيب، مثل هذا الكلام نادت به صحيفة الغارديان البريطانية في دعم الصحف الأميركية في مساعيها للحفاظ على الموضوعية والحدود الأخلاقية، إزاء ما يمارسه الرئيس ترامب -مثل كثيرين آخرين في أجزاء من العالم أكثر خطورة- لتدمير الصحافة.