شكرا كورونا

الفيروس الذي ولد في الصين لم ينتظر أن يحصل على تأشيرة دخول لينتقل الى ايطاليا واسبانيا ثم الى انكلترا وفرنسا والى مئة وثمانية وأربعين بلدا حتى اليوم.

قبل اجتياح تسونامي كورونا كنا نشاهد أفلام الخيال العلمي وهي تصور الكوارث التي يمكن أن تدمر العالم مثل سقوط كويكب على الأرض أو هجوم كائنات خرافية بأسلحة غير معروفة، أو حدوث زلازل رهيبة غير مسبوقة أو انتشار وباء فتاك، كنا نشاهد تلك الأفلام ونحن نجلس باسترخاء ونتناول الفستق، كان ذلك يبدو مجرد خيال جامح يصلح للاثارة والتشويق، لكن أقل من القليل منا كانوا يتحسبون بالفعل لمثل تلك الكوارث الخيالية.

كانت البشرية قد صدقت أنها امتلكت بالعلم والتقنية السلاح الذي أخضعت به الطبيعة وانتهى الأمر، فقط ما كان يقلقها هي تلك التوترات التي تظهر بين الدول والحكومات بين الحين والآخر والتي لم تبلغ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي أواخر التسعينات من القرن العشرين حد الحرب الباردة كما كان يطلق عليها ايام كيندي وخروتشوف أو أيام بريجنيف ونيكسون.

بل لقد ساد الاعتقاد مع مطلع القرن الحادي والعشرين أن عصر الحروب الكبرى قد انتهى، ولم يبق مما يقلق الانسانية سوى حروب محدودة في الزمن والمكان وتعميم الديمقراطية على العالم.

أما الأوبئة والأمراض الفتاكة فكان الاعتقاد أن بؤرتها قد انحصرت في المجتمعات المتخلفة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية في انتظار أن تتمكن تلك الدول من الصعود في سلم التقدم كما فعلت ماليزيا وسنغافورة والصين.

كان الناس في أوربة وأميركا يشعرون أنهم ما زالوا يعيشون في عالمين، عالم المتحضرين الأغنياء وعالم آخر لا يهمهم سوى كمصدر للمواد الخام وسوق لبضائعهم، وما يحدث في العالم الآخر لا شأن لهم فيه ولا يريدون سماعه أو مشاهدته باستثناء اولئك الذين يحترفون دراسة ما يحصل فيه لخدمة السياسة أو الاقتصاد.

فجأة اكتشف الجميع اليوم حقيقة كانت ظاهرة كالشمس سوى أن أحدا لم يرغب برؤيتها، لقد أصبحتا نعيش في عالم واحد.

فالفيروس الذي ولد في مدينة اوهان في الصين لم ينتظر أن يحصل على تأشيرة دخول لينتقل الى ايطاليا واسبانيا ثم الى انكلترا وفرنسا والى مئة وثمانية وأربعين بلدا حتى اليوم.

كيف ومتى أصبح العالم واحدا؟

لقد دق غزو اللاجئين لأوروبا جرس انذار لم يجد من يترجمه بأبعد من رد فعل عصبي أيقظ النزعات العنصرية التي دفنها التاريخ بدلا من ايقاظ وعي باتجاه الحقيقة المستجدة التي قررت أن العالم أصبح عالما واحدا لا يمكن فصل أجزاءه عن بعضها بالقلم أو بالجدران الاسمنتية.

لكن فيروس كورونا كان صوتا صارخا في البرية أن البشرية تركب سفينة واحدة وأن تلك السفينة ليست بمأمن من أن تغرق بكل من فيها وما فيها.

حتى لو تمكن العلماء اليوم من استخراج لقاح فعال للوباء فلن يمكن محاصرته قبل عدة شهور وفق أفضل التوقعات.

وأثناء ذلك ها هي الحياة تكاد أن تتوقف في مدن أوروبية وأميركية كانت تعتبر الى الأمس قلاعا للحضارة الحديثة.

الا يذكرنا منظر الشوارع الخالية في ميلانو بايطاليا والتي تسرح فيها الكلاب والقطط بمشاهد الأفلام الخيالية كما لو أن القيامة قد قامت.

يخرج الناس للرقص والغناء في شرفات المنازل لتعزية أنفسهم والتغلب على الخوف الذي يعصف بهم، لكن ذلك لا يفعل سوى كما يفعل شرب الخمر بالنسبة لرجل مفلس.

مع ذلك فسيختفي فيروس كورونا بالنهاية، بلقاح أو بدون لقاح، فكل الأوبئة المماثلة في التاريخ كانت تنتهي بعد اكتمال دورتها الجهنمية.

وربما لا يتمكن من حصد أرواح الملايين كما بشرنا بذلك رئيس وزراء بريطانيا، دعونا نأمل ذلك.

لكن الحقيقة التي سيتركها برسم من يستطيع استخراج الحكمة من المأساة هي أن حياة البشر على الأرض ومصيرهم مرتهن بتسليمهم أنهم يعيشون في عالم واحد.