شكيب أرسلان: اخترت بنفسي عنوان 'الشوقيات'

الشاعر والأديب الأمير اللبناني يكشف في كتابه 'شوقي صداقة أربعين سنة' تفاصيل اصدار الجزء الاول من ديوان قصائد أمير الشعراء.

كشف الشاعر والأديب الأمير شكيب أرسلان في كتابه "شوقي صداقة أربعين سنة" أنه هو الذي اختار عنوان "الشوقيات" لقصائد أمير الشعراء أحمد شوقي التي جمعها في ديوان صدر الجزء الأول منه عام 1898.

وقال شكيب أرسلان عن علاقته بشوقي:

أدركتُ (في وقت مبكر) أن شوقي سيكون الشاعر يَجري ولا يُجرى معه. وبقيت لا أعرفه معرفة شخصية إلى سنة 1892 إذ ذهبت إلى من الآستانة إلى فرنسا قاصدًا السياحة ومستشفيًا من مرض طرأ علي، وكان أحمد شوقي يدرس علم الحقوق في مونبلييه. وفي أثناء العطلة المدرسية جاء إلى باريس، ومعه رفيقٌ اسمه دلاور، فبينما نحن في الحي اللاتيني بحسب قولهم؛ إذ جمعتنا الأقدار، وما عدت أتذكر كيفية اجتماعنا وتعارُف بعضنا مع بعض، ولكن لم نجتمع حتى صرنا كأخوَيْن، وغدونا نجتمع كلَّ يوم مرة، بل مرتين، وأكثر تلاقينا كان في مقهًى يقال له مقهى داركور. ولاحظت أن شوقي كان يحمل معه ديوان المتنبي، وكان يحفظ منه.

وبعد ذلك أشرت على شوقي بأن يجمع قصائده ويجعل منها ديوانا يسير في الأقطار، فسألني: وأي اسم أعطيه؟ فقلت له: سمِّه بالشوقيات، فنسبة هذا الشعر إليك هي عندي كافية. ولما جمع ديوانه أطلق عليه اسم "الشوقيات" كما أشرت عليه، وقد ذكر هذه القصة في ديوانه، الطبعة الأولى سنة 1898.

وبعدها بستة وثلاثين عاما (عام 1926) التقيته في باريس مع الأستاذ محمد عبدالوهاب في المقهى نفسه.

أحببتُ شوقي لعذوبة أخلاقه وحسن معاشرته، وأُجلُّه لعلوِّ فكره، وبداعة شعره، وأجمع فيه بين الحبِّ والحُرمَة، وما أسعد الإنسان إذا كان يحب من يحترم، ويحترم من يحب.

كنتُ مفتخرًا به، فرحًا بنبوغه، سعيدًا بعبقريته، أجده من حسنات هذا الزمان الكبرى، ولا تتاح لي الفرصة للإتيان بذكره أو للاستشهاد بشعره إلا توردتها. وكان يُفضي بما يشعر به من افتتاني به إلى خليله وخليليَّ معًا شاعر القطرين، وثالث القمرين، خليل بك مطران، فكان الخليل يقول له: إن شكيب لا يحسدك، ولا يحسد أحدًا، ولذلك تراه دائما مُفتخرا بك.

شوقي كان كلُّه شعرًا. قد وقف نفسه على هذه الصنعة، لا يهمه أن يُتقن غيرها، وصارت له غراما. فهو آناء ليله يفكر في الشعر، وأطراف نهاره يستنبط المعاني الغريبة، وكلما عنَّ له معنى قيده، وكلما انفتق في ذهنه مرمًى أحرزه، وهيَّأ له قالبا رائعًا حتى إذا جاءت أول فرصة أودعه إيَّاها.

إنه لم يُرد أن يكون شيئًا غيرَ شاعرٍ كبير. وكما أن لقب شاعر الأمير، وأمير الشعراء، كان يزيده نفاذا في صنعته، وصقالا في لقريحته، كان يكسوه أيضا أمام الناس بهاءً يستمده من منصبه، ويلمع عليه بسبب حظوته عند الجناب العالي، فكان كلٌّ من لقبه وأدبه عونًا للآخر.

وعندما نشر شوقي الجزء الأول من ديوانه "الشوقيات"، وكان ذلك عام 1900، بعث إليَّ بعددٍ لا أتذكر مقداره من النسخ، فنشرتها في بيروت ولبنان وسوريا، وأعلنت عن ذلك في الجرائد السورية. وكان شوقي قد اشتهر، وسار شعره في برِّ الشام، ولكن هذا الديوان زاد في لمعانه، وجمعتُ أثمان النسخ وبعثتُ بها إلى شوقي، ولما كان الكثيرون لم يدفعوا أثمان النسخ التي خَصَصْناهم بها، كما هي عادة الشرقيين في استهداء المطبوعات مجانًا، فقد أرسلت من جيبي بثمن ما لم أقبض بدَله إلى شوقي، ولم أخبره بذلك بأن ذلك هو مني؛ لئلا يرده إليّ.

وأتذكر أن إبراهيم بك المويلحي تعرَّض للديوان، ونشر مقالة في "المؤيد" يهزأ فيها بشوقي فيما ذكره عن ارتجاج عينيه، وفي قول الشيخ علي الليثي له: "محاجر مسك رُكِّبت فوق زئبق", وخطَّأه في ترجمته لنفسه، زاعمًا أن هذا غير مألوف عند المؤلفين، وأنه لم يعهد أن مؤلفًا ترجم نفسه في مقدمة كتابه، وغير ذلك من المزاعم المستغرَب صدورها من أديب كبير مثله. فلم أستطع على ذلك صبرا ورددتُ عليه بمقالة في جريدة "المؤيد" أيضا، متعجبًا من مكابرته فيما هو محسوس لا خلاف فيه، فإن كثيرًا من فحول المؤلفين ترجموا أنفسهم في كتبهم. ولسان الدين الخطيب – أعظم كتَّاب الأندلس، ومِن أعظم كتَّاب العرب – قد ترجم نفسه في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وكذلك الإمام السيوطي شيخ المؤلفين لا في ا لعرب وحدهم، بل في العالم كله، وهو الذي صنّف أربعمائة وستين كتابا، قد ترجم نفسه أيضا في "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة". وعدَّدتُ علماء آخرين ترجموا أنفسهم، فلم يجاوب المويلحي على ردِّي، وقطع عن الكلام لعدم اتساع المجال للمُماحكة.

فكتب شوقي إليَّ على أثر هذه المناقشة كتابًا يقول فيه: "دفعتَ اليازجي عني بيدٍ هدمتْ كيانه، وألغتْ بيانه. وتحامل عليّ المويلحي، فرددتَ عنِّي الردَّ الذي قطع حجته، فبعد أن كانوا يرمونه بالحسد والتحامل جعلوا يرمونه بالجهل والتطاول، فسبحان من جعلك جلَّادًا لأعدائي وروبرتسًا لحُسَّادي".

(ويريد بروبرتس القائد الإنكليزي الذي دوَّخ الترانسفال، وكان العهد بحرب الترنسفال قريبا).

وشكيب أرسلان (25 ديسمبر/كانون الاول 1869 - 9 ديسمبر/كانون الاول 1946)، كاتب وأديب ومفكر عربي لبناني تتفق المصادر على حصوله على الجنسية الحجازية / السعودية. اشتهر بلقب أمير البيان بسبب كونه أديباً وشاعراً بالإضافة إلى كونه سياسياً. كان يجيد اللغة العربية والتركية والفرنسية والألمانية. التقى العديد من المفكرين والأدباء خلال سفراته العديدة مثل جمال الدين الأفغاني وأحمد شوقي. بعد عودته إلى لبنان، قام برحلاته المشهورة من لوزان بسويسرا، إلى نابولي في إيطاليا، إلى بور سعيد في مصر، واجتاز قناة السويس والبحر الأحمر إلى جدة ثم مكة وسجل في هذه الرحلة كل ما رآه وقابله.

من أشهر كتبه الحلل السندسية، "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، و"الارتسامات اللطاف"، و"تاريخ غزوات العرب"، و"عروة الاتحاد"، و"حاضر العالم الإسلامي" وغيرها. ولقد لقب بأمير البيان لغزارة كتاباته، ويعتبر واحداً من كبار المفكرين ودعاة الوحدة الإسلامية والوحدة والثقافة.