صبحي فحماوي يزرع في 'حدائق شائكة' رؤى عميقة وجماليات باذخة
تأتي رواية "حدائق شائكة" في مرحلة متقدمة من إنتاج مؤلفها صبحي الفحماوي فهي الثانية عشرة في سلسلة أعماله الروائية التي وصلت حتى الآن خمس عشرة رواية، وجدير به وقد قطع هذا الشوط أن يتوقّف، ليتأمل بانوراما تجربته الخاصة في مجاله المهني وفي منجزه الإبداعي في هندسة الحدائق، وربما لا أتنكّب سبيل الصواب إذا ظننت أن هذه الرواية بمثابة استراحة المحارب، التي تتيح له أن يمعن النظر في مختلف أرجاء عالمه، والتحديق في آفاق المستقبل الذاتي والوطني والعالمي، وأن بفسح المجال لخياله كي يذهب بعيدا فيحلق في آفاق غرائبية وأسطورية وتاريخية وأن يعجم عيدان فكره، فيشكّل رؤيته للعالم، وينظم تفاصيل خبراته وممارساته، وتواصله مع الجنس الآخر، وقراءته لتجارب الآخرين، ليخرج بهذه الإلمامة الواسعة بشتات العالم من حوله.
وهذه الرواية ذات طابع خاص تعبّر عن رؤيا عميقة ضمن سلسلة الأعمال الروائية المُميّزة للكاتب الروائي النابه الذكر المتميّز بالتزامه الوطني الإنساني الذي حظي بحفاوة الأوساط الأدبية والعلمية في الوطن العربي، مغرباً ومشرقاً، وخصصت لأعماله الروائية مؤتمرات علمية خاصة ناقشت إنجازاته السردية، ورؤاها وجمالياتها .
ولعل العنوان الذي يتكوّن من مفردتين (صفة وموصوف) تتشكّل منهما المفارقة الكبرى التي تنتظم الرؤيا الكلية في الرواية (عالم الجمال الذي يلتبس بعالم القبح) والثراء المادي بالفقر القيمي والأخلاقي ؛ أما المقولات الثلاث التي صدّر الكاتب بها روايته فهي تسلط الضّوء على هذه المفارقة الوجودية : تدمير الطبيعة (تنتظم في إطارها كل تشوّهات الحضارة المادية المعاصرة التي انتزعت البراءة والفطرة ونقاء الكينونة) ثم الإبداع الإلهي (الذي يحاول البشر تقليده فيخفقون) ثم العمران البشري (الذي تتمخض عنه عملية التقليد فتتمخض عنه حضارة شائهة عقيم).
وفي فضاء هذه الرؤيا تتراءى العجائب والغرائب فيقف العالم على حافة الميتافيزيقا التي تتمرّد على التجريد والغموض، فتحلّق سافرةً نافرةً عبر "لأطباق الطائرة" التي ابتدع توظيفها الكاتب في هذه الرواية وما جاء بعدها، متجاوزاً المفاهيم التقليدية التي ارتبطت بها، ومُحلّقا في عوالم خيال يقف على تخوم التوثيق القرآني فيما يتعلق بإرم ذات العماد وإشاراته التي لا يأتيها الباطل وعوالمه الدلاليّة والأسطورية التي تتقاطع مع واقع مشهود ومتخيّل وآخر تاريخي حاضر في الوعي والذهن "طريق الحرير" افتراضي مُستشام ؛ إذ يلتبس الحيز المكاني بين هذه التعيُّنات الثلاثة التي تتوازى وتتقاطع مستحضراً في الأذهان ما ينبثق عنها من تصوّرات ورؤى .
لفتني ما جاء في رواية "حدائق شائكة" وما تجلّى فيها من عمق تتراءى عبره ملامح المصير الذي تَصوّره فيما يتعلّق بما آلت وستؤول إليه المصائر مرسومةً مقدّرةً في فلسطين التي كرّس الكثير من أعماله الروائية من أجلها، وهي رواية تتعالق فيها تقنيات عدة في بانوراما جماليّة تتداخل فيها الأنواع والأجناس : المذكرات والسيرة الذاتية والتاريخ والقصة القصيرة والخطاب الفكري والوصفي والتنبّؤي، والرواية الإطار التي تتناسل منها الحكايات بما تنطوي عليه من الإسقاط السياسي وأنماط السلوك البشري والنماذج التي تمثل شرائح وطبقات اجتماعية وطفيلية وألوان من الممارسات الانتهازيّة والعلاقات الجندريّة (المتعلقة بالعلاقة بين الرجل والمرأة في أوسط العمل والحياة والرغبات والشهوات والإغراءات) ثم الحقل التخصصي الذي عرف به المؤلف المتمثل بهندسة الحدائق وتنسيقها والعلاقة بين الفعل البشري والإبداع الإلهي في الطبيعة والكون وفلسفة السلوك، والتواصل وموقع المنظومة القيمية في هذا السياق وما يقتضيه ذلك من وسائل فنية وبنيات سرديّة وجماليات تتعلق باللغة وأساليب التصوير والحكي والتعليق والتحليل والتنبّؤ والتدبّر والتعقّل، وتداخل الفنون والأنواع والأساليب والأقنعة الرمزيّة والجامع بينها جميعا "السرد الروائي" والفاعل الرئيس شخصية البطل التي تتماهى مع المؤلف والرّواة المتعددين، وقد كانت العتبات الأولى ابتداءً من العنوان تنبيء عن بعد نظر والتزام واستشراف للماضي والحاضر، قراءةً وتوصيفاً وترميزاً وإسقاطاً ؛ ومنذ الصفحة الأولى التالية للعنوان التي تتضمن ثلات فقرات توميء إلى رؤية إنسانيّة طبيعيّة بكر في الأولى، والتساؤل في الثانية، ينبيء عن استقراء يقارن بين الفعل الإنساني والإبداع الرّباني، وفي الثالثة استكناه يستطلع مستقبل المنطقة كلّها - كما أشرت من قبل - من خلال تساؤله عن دور طريق الحرير الذي كان يمتد تاريخيّاً من مدينة تشان فان عاصمة الصين خلال عهد سلالتي "هان والتانغ" إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأستخدم إبتداءً من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر للتجارة ونقل البضائع الصينية ،والحرير أشهرها (ومن هنا أشتق أسمه) إلى باقي مناطق العالم القديم، وتنبأ بما سيكون عليه من قلب للموازين في المستقبل .
وقد عبّر في الاستهلال الروائي ،كما يصفه النّقاد، وهو الفصل الذي ينطوي على أهم العتبات النصّية التي توصف بأنها " وعاء معرفي وأيديولوجي يختزن رؤية المؤلف وموقعه من العالم ويتيح للكاتب العديد من إمكانات التعبير والتعليق والشرح " كما يقول عبد المالك أشهبون في كتابه "خطاب المقدمات في الرواية العربية"ويُعدّ مؤشراً على تماهي المؤلف مع شخصية الراوي العليم مع السارد (شخصية الراوي المشارك) فيما يتعلق بالتبئير، فالوقائع كلها تقدّم من منظوره، ومع هذا فقد حافظ الكاتب على تعدّد الأصوات (و إن قدّمها من زاويته الخاصة) وقد تنحّى السارد الرئيس الذي تتمثّل فيه شخصية المؤلف ليتولى البطل بنفسه سرد الأحداث، ولكن ذلك لم يضلّل القارئ فيما يتعلق بالبنية السرديّة التي تشير من خلال شواهد متعدّدة إلى أن الكاتب يمتح من تجاربه الخاصة فتبدو الوقائع وكأنها مذكّراته التي تقدم تجاربه الميدانية في حقل تخصصه، أعاد إنتاجها في شكل فنّيّ جديد بنى من خلاله نماذج بشريّة متنوّعة، تكاد تشكل ملامح قطاع عريض من الطبقة البرجوازيّة بخصائصها النفسيّة والسلوكيّة، وكذلك تصوّر أنماطاً من السلوك لدى طبقة من البيروقراطية الانتهازيّة الفاسدة، وتبدو القصة الإطار يقدّمها الرّاوي العليم كلّاً جامعاً لكل فصول الرواية (ثمانية عشر فصلاً) حيث تتناسل فيه القصص والمشاهد المتنوعة يجمعها خيط واحد زمانيّ ومكانيّ وذاتيّ وموضوعي في حبكة حرّة مرنة، وقد أعمل الكاتب مخياله انطلاقاً من تصوّره الجامع بين ما سلف من ماضيه وما تلاه من حاضر ومستقبل مُستشام في ضمير الغيب في عملية ازدواجيّة لافتة، من شأنها أن توهم القارئ أنها ليست تسجيلاً لمذكرات السارد (المؤلف) لما تحمله من اسقاطات رمزيّة تختزن طاقة تأويليّة بالغة الثراء، وتجعله محتشداً من أجل حلّ المعادلة الرمزيّة الواقعيّة المنسوجة على نول رؤيته السياسيّة للواقع في فلسطين والمنطقة العربية في نزعة انتقادية تستشرف عبر معطيات الحاضر آفاق المستقبل.
اختار الفحماوي أن يضع عناوين مستقلة لفصول روايته ؛ ولذلك دلالة واضحة توميء إلى أمرين : الأول استقلالية كل فصل بسرديّته الخاصة وأبطاله الجدد، ما يشير إلى أنه أقرب القصص القصيرة المستوحاة من ذاكرته المهنيّة وخياله الإبداعي، والثاني تفرّدُه بنماذجٍ بشريٍّة أو أنماط عدّة لها سماتها الخاصة، مُركّزاً على الصفات الخارجيّة : الصفات الجسديّة والمظهريّة فيما يشبه (البورتريه) الذي يستقريء الملامح النفسية للشخصيّة من خلالها وإبرازاً لموقعها الاجتماعي ومنحاها السلوكي والأخلاقي، كما يراها السارد مع تكثيف الضوء وتسليطه على الشخصيّة النسائيّة في الدرجة الأولى، وإبراز سلطانها على الرجل، خصوصاً في الشرائح الاجتماعية المخمليّة في الشرائح العليا من البرجوازية ؛ فضلاً عمّا هو مشترك في طبائع الأنثى وعلاقتها بالذكر، بالإضافة إلى أنه أولى لحظات التوتّر والمآزق جلّ عنايته، وهو ما تمتاز به القصة القصيرة التي توصف بأنها "فن الأزمة".
ومن الملاحظ أن عناوين الفصول تقع في ثلاث دوائر دلالية، وتشترك في سمة مميّزة وهي أنها أسماء أعلام للأماكن : مدن أو بنوك أو فنادق أو حدائق ؛ في ستة فصول وأسماء أعلام وما يتعلق بها في ستة فصول أخرى .
ومنذ البداية يلحظ القارئ حضور البعد الفكري والسياسي الذاتي من خلال حرص الكاتب على الوقفات التحليليّة في تعليقه على الأحداث والشخصية، فكان مبدأ التوازن بين الخطاب والتاريخ وهما المصطلحان اللذان أطلقهما الشكلانيون الروس على النهج السردي، فتعاقب الأحداث يطلقون عليه مصطلح "التاريخ" أما أسلوب التعليق على الأحداث فهو "الخطاب".
والمكان يحتلّ البؤرة الرئيسة في البنية السرديّة وهي محور الإسقاط التاريخي في الرواية "طريق الحرير وإرم ذات العماد" ف("رم ذات العماد" المكان الرئيس فيها، وهي مدينة ورد ذكرها في القرآن الكريم بوصفها مسكن قوم عاد، وجاء في كتب التفسير أن الله قد خسفها فلم يعد لها وجود، وكان قومها من العماليق ضخام الأجسام ومبانيها من الذهب والفضة وأساطينها من الياقوت والزبرجد بناها شدّاد بن عاد، وقد أتاها أمر الله فاختفت عن الوجود، وقد اختارها الكاتب ليسقط عليها أحداثاً معاصرة تستشفّ منها دروس التاريخ فيما يتعلق بالمنطقة؛ ولعله استشام المستقبل فأوغل في التنبّؤ بما سينال القضية الفلسطينية في قادم الأيام من تطوّرات أعمل فيها خياله الواسع لينسج رؤيته المستقبلية لما سيأتي ؛ أما "طريق الحرير" فهو طريق تاريخي ممتد عبرآسيا مروراً بالشرق الأوسط، يتضمن مواقع عدة تشمل مدناً وقصوراً ومراكز تجارية وممرات جبلية وحصون وأضرحة ومباني دينية ويمثّل مجموعة من الطرق المترابطة، والكاتب يتمثَّلُها رمزاً معاصراً له دلالته الأيديولوجيّة والسياسيّة لما آل وسيؤول إليه الأمر من خلال إشارته إلى غزة وما تنطوي عليه من أحداث قادمة (الرواية صدرت عام 2021 بينما بدأت أحداث غزة في أكتوبر 1923 ) ومن دلالاته المعاصرة أنه موقع تم إغلاقه بتهمة بيع المخدرات والأعمال غير القانونية، وهو في الرواية يوحي بمعان كثيرة ذات صلة بهذه الدلالات التاريخية والمعاصرة .
ولعل أول ما يلاحظ في هذه الرواية الحشد الهائل من الأسماء ذكوراً وإناثاً، والمحور الرئيس هو إنشاء الحدائق والفضاءات المكانية المغلقة : الفلل والبنوك والشركات والخلاصة السيرية لبطل الرواية (جبريل عرسال ) وما سبقها من تعريف بإرم ذات العماد وأهلها الذين لم يخلق مثلهم كبشر في الضخامة والقوة كما ورد في بعض التفاسير : ولم يبيّن أحد من المفسرين -على الرغم من وضوح المعنى أهي قبيلة أم قرية ؟ وهل هي عاد قوم هود الذين لم يستقم أمرهم فسلّط عليهم الله العذاب ؟ وقد استلهمها الكاتب ممّا وصفها به بعض المفسرين من أن ملكها شداد بن عاد بناها فجعل قصورها من ذهب وفضة وأساطينها من ياقوت وزبرجد، وسيّر فيها الأنهار وزرع الآشجار ثم داهمها العذاب، وقد ورد ذكرها في ألف ليلة وليلة، وشاعت في بعض النصوص الغربيّة، وفي أواخر القرن الماضي شاع أنه تم اكتشاف مدينة أسطوريّة عربيّة مفقودة، وهي التي تعرف ب(غبار) وتم اكتشافها بالمواصفات التي ذكرها القرآن الكريم، فهذه المدينة التي استهل الكاتب روايته بالحديث عنها مُسقطاً لها على المدينة الحديثة التي تصوّرها بطرقها وخطوط الأنابييب فيها وعلى ما آل وسيؤؤل إليه الأمر، وما ترتّب عليها من رؤى الكاتب للمنطقة ومستقبلها وشبكة العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والحضاريّة فيها كما تصوّرها متحدّثاً عن تجربته الشخصيّة التي توسّع في تخييل تفاصيلها وأعاد ترتيبها وفق رؤيته ومنظوره الفكري والسياسي والاجتماعي فيها، والتوقّف عند بعض الوقائع المعاصرة التي عاشها "جبريل عرسال" القناع الفني للكاتب فيما يبدو.
وفي إطلالة عابرة على قائمة المحتويات في الرواية يبدو أن ثمة تداول في عناوين فصولها بين أسماء الأماكن وشخوص الحكاية كما أسلفت ؛ فضلاً عن ظاهرة أخرى تتمثل في أنه في الفصول الأخيرة كانت أسماء الشخوص أغزر، مما يشير إلى غلبة الوقائع على فضاء الحكاية، ونماذج البشر على عوالم الأمكنة، ولهذا دلالته التي ربما كان من الممكن الوقوف عليها في هذه القراءة .
يتوسّع الراوي في الفصل الاستهلالي في وصف المدينة ومرافقها وتطوّرها ومحلّاتها مُسلّطاً عدسته على شخصياتها النسائية الفاعلة ودهائهن وإغراءاتهن وسلوكهن الشهواني الفاضح، وكذلك المنشآت الموازية التي تحتضنهن من عاملات ومهنيّات وسيّدات مجتمع، وجلّهن زوجات لرجال أعمال، وما عمد إليه من تصوير لعلاقاتهن برجالهن ووعلاقتهن به وسلوكهن معه بحكم ارتباط عمله بذوق ربّات البيوت، مًركّزاً على موضوع الحدائق وتنسيق الزهور الذي ينسجم مع الجمال ومقتضياته واهتمام النساء به، موغلاً في عمق العلاقات التي تسود هذا المجتمع الباذخ في هذه المدينة التي تجمع بين مُخرجات الحضارة وأساطير التاريخ ورمزيّة الدلالة وفجور السلوك الليبرالي المنفلت من قيود القِيَم والأعراف، وقد عمد إلى رسم معالمها التي تمثل تضاريس المرحلة التاريخية الراهنة في تعالقها مع الواقع الاقتصادي والسياسي ومستقبل القضيّة، وكما عرف عن المؤلف نفسه بطاقاته الحكائيّة والوصفيّة واللغويّة، فقد عمد في معالجته السرديّة الى الكثير من التفاصيل الدقيقة ذات الدلالة التي استبطن من خلالها أدق العلاقات المسكوت عنها والمتحفّظ عليها، فنحن أمام حشد من الشخصيات التي تنبني على التواصل ذي المغزى والمعنى بينها كاشفاً عن أخفى الأسرار التي تصوّر بنية مجتمعيّة لها قواعدها التي تتأسّس عللى المصالح ما خفي منها وما ظهر .
والفصل الاستهلالي المزدوج المسار الذي يتماهى فيه الراهن مع التاريخي وينطوي على كتلة بشرية متنوّعة معبّرة عن طبقات ذات بعد (ركيولوجي تراكمي وعضويّ متنام في الوقت ذاته، مُعبّرا عن إفرازات تتعالق فيها العناصر المتباينة والمتآلفة في آن، وقد كان بارعاً في اختيار أسماء أبطاله التي توحي بالمعاني التي يريد أن يوصلها لقارئه، فالبطل الرئيس جبريل عرسال يوميء إلى التأصيل التاريخي للشخصية الفلسطينية، فجبريل – فضلا عن إيحاءاته الروحية التي يرجعونها إلى الأصل العبري بمعنى "رجل الله" أو "عبد الله" تارة أخرى وعرسال كذلك تعني "عرش الله" وإلى الأصل الآرامي والكنعاني تارة أخرى ؛ ولعل الكاتب يرجّح الرأي الثاني ؛ فهو مهتمّ هذه المسألة التاريخية "لكنعانية التي تؤصّل الوجود العربي في فلسطين. .
في نهاية الفصل الاستهلالي يأتي بحديث يحمل خلاصة تجربة إنسانية اجتماعية تكشف عن وجه العلاقات التي تحكم الأواصر بين الرجال والنساء في ذلك المجتمع المترف والفراغ القيمي الذي يسوده، ف"رؤوف الحصري" الذي خلعته زوجته الشقراء الأربعينية "نائلة الحلبي" وهو رئيس مجلس الشيوخ في ولايته - وهو السبعيني المخضرم - ينطق بحكمةٍ مُستخلصةٍ عبر مسيرته الطويلة يرويها الكاتب على لسانه، وكأنها خلاصة تحربة ثريّة اختلّت فيها أواصرالحياة الزوجية لأنها بُنيت على أسس تكشف وَهَن هذه الطبقة الاجتماعية وما يسودها من تغليب المصالح الخاصة على غيرها، خلاصتها أن معركة الرجل مع المرأة خاسرة مشبّها الحياة بفيلم سينمائي لا يلبث أن ينتهي ثم تضاء الصالة وينتهي العرض.
الفضاء المكاني والمفارقات الصاخبة
في رواية "حدائق شائكة" لصبحي فحماوي.2
أ.د. محمد الشنطي.
من الواضح غلبة الفضاء المكاني في رواية "حدائق شائكة " لصبحي فحماوي، حيث يتسع ليحتل مساحة بحجم إرم ذات العماد، ويتمدد ليصبح على طول طريق الحرير ثم ينحسر في الفنادق والحدائق والصالونات والمحال التجارية .
فالفصل الأول يغلب عليه الحيّز المكاني وتوابعه، وما انطوى عليه بحكم تشكّله وتطوّره وتماهيه مع المنظور المستقبلي للمنطقة كلّها . وقد غلب على ترتيب الفصول فيما بعد تداول الثنائي الرئيس، الفعل الذي تنهض به الشخصيات وميدانه؛ فعناوين الفصول تتراوح بين أسماء الشخصيات وأسماء الأماكن كما أشرت من قبل، حوادث ووقائع تتداعى على لسان الراوي، تفوح منها نكهة فلسطينية بلديّة شعبيّة عريقة تتقاطع فيها ملامح التراتب الطبيقي جامعاً بين مختلف المفارقات الصاخبة، مثال ذلك "من فقد عشرات الدولارات" وذلك الذي "فقد عشرات القروش" تفاوت طبقي يصوّر معاناة الطبقات الفقيرة وطرق معاشهم وتجمعاتهم، من هنا كان اهتمامه بتنوّع الرموز المكانيّة والبشريّة ما بين البنوك والفنادق والحدائق والبيوت ، وحديثه عن التكوينات الاجتماعية بذكر العشائر ومهنها وأصولها، وقد اختار اسم "رمزيّة العلي" للفصل الثاني مديرة القروض في البنك وحرصه على ملازمة الأشخاص للأماكن وتماهيمهم معها لبيان موقعهم الطبقي، وفي هذا الإطار يعمد الراوي إلى الاستطراد الذي يوّضح من خلاله زيف الوجود الصهيوني، وحينما حاولت أن أتبيّن العلاقة بين محتويات الفصل وعنوانه "رمزية العلي" كانت التأويلات التي تداعت إلى الذهن كثيرة، فأحار فيها لولا أنني أُسعفت بالخاتمة التي كانت استطراداًعلى الموضوع، وتبيّنت لي العلاقة في وضوح لا لبس فيه ؛ إذ عاد المؤلف ليعرّج على إرم ذات العماد وأُلهية التهجير والتوطين، فقد تاهت المعالم ولم يبق إلا الذكريات.
وتتوالى العناوين تتداولها الأسماء الفخمة للبنوك والفنادق والحدائق والمدن الصناعية العالمية الكبرى هونغ كونع والقديمة إرم ذات العماد الحديثة بحمولتها الرمزية، وهي – في غالبيتها - رموز رأسمالية واضحة الدلالة، وكذلك الشخصيات مرموقة المكانة ذكوريّة وأنثويّة، وهي تفصح من خلال أسمائها عن مكانتها وكونها نماذج اجتماعية ذات مدلولات طبقيّة (حلمي باشا الملاح وعبد الودود وفارس الغبيري والمهندس سليم عفانة وجريس زعرور ورجب الصافي ورئيس مجلس اللوردات ) من الرجال و( رمزية العلي وكريستين مارتن وتلك التي تحدث عنها في الفصل الأخير (اجتماع مع امرأتي)
في الفصل المعنون بـ"بنك الرخاء الكبير" اتسعت دائرة المكان الرئيس في الرواية الذي يؤطر فضاءاتها كلّها؛ فإذا بها لا تقتصر على اللاجئين الفلسطينيين بل تضم كل الذين رزؤوا بالظلم والعدوان في المنطقة كلّها :عراقيّين وسوريّين ومن عرفوا بـ"البدون" فهي الرمز الكبير الذي يحدد مصير هؤلاء المنكوبين حيث النفي المطلق وضياع الهوية وامّحاء الكينونة، والمفارقة التي تميّز الحبكة في الرواية تتمثل في الانتقالات والاستطرادات بين حالتين متناقضتين ؛ فهو على سبيل المثال ينتقل من حديث "جان روك" الذي يملك ستاً وعشرين شاحنة حاوية ضخمة مكيّفة تجوب أسواق أوروبا كلّها لتوصل النباتات والزهور إلى العملاء إلى حديث العم ياسين الذي كان يتمدد على جنبيّة مفرودة على حصيرة واسعة في فناء بيت أحد الأقارب في مخيم إرم ذات العماد الذي لا يعرف من الزهور إلا الحنّون البري الأحمر، وهنا يقذف الراوي بالفكرة الرئيسة مجرّدة فيقول على لسانه في تعليقه على حالتة مقارنة بـ"جاك روك":
"وهل أبقى رأس المال المتوحِّش قيمة للمعلم الذي كان كنزاً تحفظه القرية فأصبح ملطشة للذي لا يسوى ولا يسوى"
وهو يقدّم - في إطار هذا العنوان - رؤيته لما أفضت إليه تلك الطبقة في ذلك المجتمع الذي تتّسع فيه الفوارق بين الأغنياء والفقراء، وكيف تسنّمت فيه المرأة ذروة المكانة الاجتماعية الى الدّرجة التي يعرِّف فيها الوزير بنفسه لعامل البلاط بأنه "زوج السيدة" وعبارة " النساء قويات فلا تخف عليهن" وهذه العبارة في هذا السياق كان لها مغزاها .
والنزعة الانتقادية واضحة تماماً من أول الرواية إلى آخرها؛ بل هي تضجُّ بالسخريَة أحيانا : " المخزي أن الحفريات في بلاد العرب لا يقوم بها سوى علماء الآثار الغربيين، ذلك لأن علماءنا يفترض أنهم مخصيّون وغير قادرين على إخصاب تاريخنا الذي كان عظيماً"
ومن الملاحظ أن لكلّ فصلٍ استقلاله النسبي الذي ينفرد بأحداثه ويقدم مشاهد مستقلّة تنطوي على ذات الرؤية الكاشفة بل الفاضحة أحياناً، وتبدو كما لو كانت خلاصة بحث مستقل أو لحظة تنوير تفضي إليها أحداث الفصل فيما يشبه تلك التي تنتهي بها القصة القصيرة حيث تضيء النهاية المغزى وتنكشف الأزمة؛ ففي الفصل الأول مثلاً انتهى الفصل برحيل رؤوف المصري مهزوماً أمام زوجته نائلة الحلبي، وفي الفصل الثاني يقول الراوي " وهنا فهمت أن القوي هو الذي يخطط التاريخ كما يشاء " وهكذا توالت تدفقات المحتلين الصهاينة على بلادنا، وهكذا في مختلف الفصول ؛ ففي الفصل المعنون بـ"حلمي باشا الملاح" ينتهي إلى القول" لا شك أن العالم يتغيّر واو المهندس سليم عفانة وجريس زعرور، ابن الخطيئة، والكرة الأرضية تدور. وفي الفصل "هونغ كونغ" تكتظ التعليقات بمقولات طويلة لأنبياء وأعلام كبار كقول (يسوع المسيح) "إن الإنسان بن الخطيئة ولأخناتون وغاندي ونيفرتيتي والضابط الفرنسي "جيور جيس" والشاعر بوشكين وبلزاك وأنهاها كالمعتاد بنهاية مأساوية تضيء رؤيته التي يريد أن يقدمها من خلال هذا الفصل، وهكذا
يغلب في بعض الفصول الخطاب السياسي استنتاجا وتعليقاً وبوحاً بالمعلومات والأسرار كقوله في الفصل الوحيد المعنون بغير االأسماء الأعلام "لعنة الكلب" في حديثه عن الشخصية المحورية في هذا الفصل "كريستين مارتن" التي وصفها بأنها تقوم بنشاطات تجسُّسيّة (وهي من الدبلوماسيات المعتبرات) كما يصفها بأنها تنخر الجسد العربي شبراً شبراً – على حد تعبيره – واللافت أن الكاتب في استطراداته العفويّة التي لم يكن يخطط لها - كما سمعت منه في وصفه لكتاباته الروائية - يستحضر التاريخ العربي في لحظات التأزّم والسقوط الي تستدعيه أو يقتضيه السياق ؛ فالمرأة الصبية "إيزابيلا" قنصل العلاقات العامة في السفارة الإسبانية متعصبة – كما يبدو من اسمها- لإيزابيلا ملكة القشتاليين الذين طحنوا آخر معاقل العرب في الأندلس، وإن الاسم إيزابيل (وهذه مفارقة تاريخية) يستثمرها الكاتب ليؤكد على الانتماء الوطني فيذكر أنه اسم أميرة الكنعانيين العرب ابنة الكنعاني "إيتو بعل" ملك صور.
تأتي بعض مقارباته السياسية في صور فنية وملامح أسطورية استطرادا في آخر الفصل، كما هي الحال في الفصل المعنون بـ"هونغ كونغ" فبعد أن ينتهي إلى ذكر وفاة الحاج رائف الخوري أحد زبائنه الذي قام بإنشاء حديقة منزله مبيّنا مدى إعجابه بهذه الحديقة وكشف عن طبيعته ونزوعه إلى استراق المتعة وفلسفته في الحياة، نجده يتحدث عن الأطباق الطائرة وانشغال مواقع التواصل الاجتماعي بها معرّجا على علاقة هذه الأطباق بالتاريخ، مستطرداً إلى الاستشهاد بالآية القرآنية الكريمة " اهبطوا بعضكم لبعض عدو" ثم ينتقل إلى ما أفضى به المحللون السياسيون " ربما كان مصدر هذه الأطباق الغريبة هو إيران، وهي تقترب من المكان استعدادا للانقضاض منها على العدو الصهيوني الذي يتوسّع بقتل الآخر وممارسة التدمير والتهديم يوميا كتفشي السرطان في الجسم العربي، ليس هذا فحسب ؛ بل ذهب إلى رأي آخرين يعضدون وجهة النظر هذه، حيث زعموا أن القوم ظنوا أن هؤلاء الإيرانيين سيقومون بسبي الجواسيس على نحو ما فعل نبوخذ نصر في العملاء الكنعانيين الذين اقترفوا آثام التجسس على المقاومين كما فعل يهوذا الإسخريوطي الذي سلم السيد المسيح .
كانت مجمل أحداث الفصل المهمة تدور حول الرحلة إلى هونغ كونغ، حيث اهتم السارد بعلاقة الصين باليابان حيث تعاظمت النزعة الاستعمارية اليابانية وانشغال القائد الصيني "تشان كاي شيك بمحاربة الشيوعيين متجاهلاً وجود الاستعمار الياباني في بلده، وكيف انتهت الحرب بين الصينين الذين انتصروا (في نهاية المطاف عام 1945) متسائلا عن عدم اقتداء الفلسطينيين بذلك وتحقيق وحدتهم الوطنية كما فعل الصينيون، وهذه الإشارة ضمن مؤشرات أخرى متعددة تقارن الوضع الفلسطيني بغيره، وقد انتهت إلى تلك الخاتمة التي أماطت اللثام عن وجهة نظر سياسية، ومن الواضح أن الكاتب حشد كمّاً معرفيّاً كبيراً من الناحية التاريخية والحضارية والأثرية في هذه الرواية حيث أتاحت له طبيعة الحبكة المرنة التي اختارها ذلك ليرسّخ رؤيته السياسية استنادا إلى القاعدة التي تقول "إن التراكم الكمي يفضي إلى تحوّل كيفي "
ومثل هذه الرواية تستلزم دراسة معمّقة لغناها بالرؤى والأفكار التي تنبع من جمالياتها وبرنامجها السردي ولغتها وإبحاره في لُجّة بشرية تبلورت حول أبعاد الرؤية أو المنظور الروائي في عمقه وخصوبته وملامسته لنبض المرحلة وغوصه في عمق الواقع واستقرائها الممتد في عمق الحاضر واستشرافه لبروق المستقبل .
ولعله من الضرورة بمكان أن أشير إلى قابلية الرواية لآن تتحوّل إلى فيلم سينمائي يجمع بين التوثيق والتحليق، فالفصول يمكن أن تتحول إلى سلسلة من السيناريوهات بشيء من المعالجة الفنية التي تستثمر إمكانات المونتاج السينمائي لثرائها بالشخصيات وبنيتها الحَلقيّة وتنوّع الأنماط والنماذج البشرية ورصدها المرهف لثقافة المجتمع في طبقاته الصاعدة، وخيالها الخصب الذي استثمر التاريخ والأسطورة والسيرة والوصف المستقصي واللماح، والحراك الخارجي والداخلي وتنوّع البيئات والأمكنة والتمركز في بؤرة زمنية وتعدّد الأصوات والجمع بين التراكم الكمي والنمو العضوي .
إننا أمام عمل روائي متميّز يستحق الوقوف عنده مليا في دراسة أعمق وأبعد مدى.