صحافة متأخرة تزداد تأخرا مع الوقت


لقد تحوّل علاج الصحافة العراقية على يد الذين بشروا بذلك مع القوات الأميركية المحتلة عام 2003، أو من سيطر على الصحافة لاحقا من الأحزاب الدينية، إلى أصعب من الداء الكامن فيها.
الصحافة في العراق تزداد تأخرا

هناك مرحلة متأخرة من الصحافة، لسوء الحظ تزداد تأخرا مع مرور الوقت، مع أنها موجودة في كل بلدان العالم بما فيها الغربية، لكن التي تزداد تأخرا أكثر هي الصحافة العربية، لا يمكن أن نصدق أن الصحافي يزداد غباء مع مرور الوقت، لكننا لا نمتلك غير بدائل من صحافة فيها من التكرار ما يزعج، وكدس كبير من المقالات التي لا تقول شيئا، وتعجز عن صناعة فكرة جديدة.

لديّ مثال من الصين يبعث على التفاؤل! وهو معادل صحافي مقابل لعشرات الأمثلة من العالم العربي تبعث على الخيبة… سأترك إيجادها لحدس القارئ.

فالصحافية البريطانية من أصول صينية في فايننشيال تايمز، يوان يانج، كانت مهاجرة في البلد الذي نشأت فيه. الآن هي مغتربة في البلد الذي ولدت فيه. بعد أن انتقلت من لندن إلى بكين، هكذا بدأت تفهم الفرق. وتحاول شرحه إلى زملائها الصحافيين الصينيين التواقين إلى مغادرة بلدهم من أجل الظفر بالقصة الصحافية التي تصنع مجدهم الشخصي. بينما يوان يانج عادت إلى الصين من أجل قراءة الواقع بعين صحافية لا تقع في فخ التكرار وتعيد استنساخ السائد.

تتحدث عن أصدقائها الصحافيين الصينيين الذين يتطلعون إلى الكتابة لكنهم يعانون من الرقابة الحكومية. تخبرهم أن ما يحدث في الصين أكثر بكثير مما يحدث في لندن. هذا التفسير دائما يرضي الجميع، لذلك هي هناك من جديد من أجل شغفها الصحافي.

ثمة خيبة مقابلة يمثلها الصحافيون العراقيون “على سبيل المثال” المعادلون ليوان يانج في العودة إلى بلادهم بعد عام 2003. فهم يدركون بلا أدنى شك أن ما يحدث في بغداد قصة صحافية مستمرة وحافلة، لكنهم ويا للخيبة ترددوا في كتابتها، ربما بسبب الحذر والمخاوف أو لسبب أناني مرتبط بالمصالح الشخصية!

ثمة هراء وتكرار في التحليل وانسياق للخطاب المحلي السائد بما يكتب في مقالات صحافية لأسماء معروفة مهرت الصحافة خارج العراق لسنوات طويلة، ولكنها لم تستفد من تلك السنوات وكأنها عادت إلى بغداد كي تكتب بمنطق صحف العراق تحت سطوة الرقيب الصارم والمصالح الحزبية والتملق الطائفي.

المثير في الأمر أن ما يكتبونه لم يعد حصرا على الصحف التي تصدر في العراق، هناك ما ينشر من هذا الكلام المترهل المليء بالقصص الواهنة في صحافة البلدان العربية وخارجها، وكأن ذلك الكلام المكرر ما ينتظره القارئ العربي لمعرفة حقيقة الوضع الرث والمرتبك في العراق.

ذلك ما يعني أن الصحافة في العراق مثلا تزداد تأخرا في عالم يكون فيه السباق على أشدّه في صناعة الأفكار والاستفادة من صناعة الأعمال لتقديم نماذج مختلفة.

لا أتحدّث عن بيئة مثالية في العمل الصحافي داخل العراق، ولا أطالب الصحافيين بالمغامرة والتفريط بسلامتهم الشخصية، وأدرك تماما الضغوط والتهديدات والترهيب المفروضة عليهم، لكن ذلك لا يحول دون أن يكون لدينا من يفكر بطريقة الصحافية البريطانية من أصول صينية، لقد أتقنت هذه المرأة ذكاء التقاط الزاوية الحساسة في الكتابة الصحافية بحكم تجربتها البريطانية، وهي تقوم اليوم بصناعة مادة متميزة من الصين، بلد لا تقل فيه الرقابة عما يوجد في عالمنا العربي.

لقد أخبرت يوان يانج أصدقاءها بأنها ستعود إلى لندن عندما تشعر أنها تركت بصمتها في بكين، أو إذا أثرت بكين فيها. وكما يبدو أن تأثير بكين هو الأرجح! فهل ما يكتبه الصحافيون العراقيون العائدون إلى بلادهم بعد الاحتلال معبّرا عن عراق كانوا يتوقون إليه، أم تمريرا لمصالح حزبية وشخصية ضيقة؟

لا أحد من الصحافيين العراقيين الذين عادوا إلى بغداد بعد عام 2003، ولا من غادرها منهم بعد أن اكتشف أن البلاد ماضية بقوة نحو الفشل والسقوط المريع، حقق شيئا مما حققته مراسلة فايننشيال تايمز، فمن بقي مازال ينظّر لسوق الغبار الطائفي بوصفه ماركة تجارية جديدة في عالم السياسة، ويعزو كل هذا الخراب بعد أكثر من عقد من احتلال العراق إلى دكتاتورية النظام السابق دون أن يقنع نفسه بذلك، وهو في ذلك يعجز عن تبديد الخيبة التي يسببها في مقالاته للقراء.

يكتب من العراق اليوم بعد أن قضى ربع قرن في لندن أو باريس أو ميشيغان أو برلين، وكأن كل تلك السنين لم تستطع إنقاذه من شارع منزلهم القديم الذي بقي راسخا في دماغه كشريط صحافي غير قابل للتغيير.

لا أودّ بث الخيبة أمام جيل صحافي عراقي تواق إلى التغيير وإنتاج صحافة مبتكرة تربط المجتمع بمجموعة من الأفكار الحرة وتقاوم التخلف والنكوص القائم والسطوة الدينية المتفشية بقوة الفساد، فهذا الجيل يعمل برغم كل المصدّات التي تحول دون تقدمه، سواء من قبل سطوة الميليشيات والأحزاب والنظام الديني المتخلف والفاسد، أو من المجتمع العراقي نفسه الذي غطت عليه طبائع النكوص والتخلف بمستويات مخيفة، تجهض أي محاولة لاستعادة الأمل في التحضر والحرية. هذا الجيل يمتلك الأمل لاستعادة ما يليق بالمجتمع العراقي، وليس ما يجعله خرقة مبللة بالخرافة التاريخية.

لقد تحوّل علاج الصحافة العراقية على يد الذين بشروا بذلك مع القوات الأميركية المحتلة عام 2003، أو من سيطر على الصحافة لاحقا من الأحزاب الدينية، إلى أصعب من الداء الكامن فيها.