صدمة إسطنبول


أردوغان يعود مجددا إلى الفكرة التاريخية نفسها عن بناء الدولة بالدين باعتبارها الحل الأمثل في الزمن الديني الخطأ.
اسطنبول متحف معماري وليس مجرد مسجد

لأن تركيا بلد عظيم فلا يمكن تحويله إلى مسجد، المساجد جزء من طبيعة البلدان، لكنها لا يمكن أن تختصر البلدان.

من يتأمل كلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل يومين من صدمة الانتخابات البلدية يكتشف أن الرجل يفكر بطريقة “الإسلام هو الحل” في بلد بنى عظمته التاريخية والمدنية على التخلص من الإرث الديني عندما كان طريقا لبناء الدولة، نجحت تركيا المعاصرة في ما فشل غيرها من الدول الإسلامية لأنها تخلصت من فكرة بناء الدولة وفق الدين! لكن فلسفة أردوغان تعود مجددا إلى الفكرة التاريخية نفسها باعتبارها الحل الأمثل في الزمن الديني الخطأ.

كان أردوغان يتحدث عن متحف آيا صوفيا باعتباره مسجدا، في لعب حساس على معلم تاريخي. وقال “بعد الانتخابات، سنغير اسم آيا صوفيا من متحف إلى مسجد… لدينا بعض الخطط وسننفذها”.

المبنى المدجج بالفخامة لآيا صوفيا، مدرج على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، لأنه كان كاتدرائية لمدة 900 عام قبل أن تتحول إلى أحد أكبر المساجد لمدة 500 عام حتى عام 1935 عندما جرى تحويل الموقع إلى متحف.

فكرة تحويل وظيفة المدن، من مكان رؤوم يمنحنا حرية الحركة والاطمئنان إلى أغلال مصفدة ومقدسة، اختطاف لوظيفة المدينة وقتل لروحها. وهذا يفسر لنا الابتهاج الذي عم الأحياء الليبرالية في إسطنبول صباح الاثنين بعد ليلة متوترة انتهت بهزيمة مرشح حزب العدالة والتنمية الإسلامي.

اختار أردوغان ليلة الهزيمة أن يظهر بمفرده خلال خطاب الشرفة الذي ألقاه أمام حشد من أنصاره في المقر الرئيس لحزب العدالة والتنمية بأنقرة، لكنه أيضا كان معبرا عن عزلته الشخصية

ولأن إسطنبول متحف كبير يمكن معادلته بالمدن العظمى مثل لندن ونيويورك وروما، لا يمكن أن تقبل أجندة أردوغان الإسلامية الضيقة بتحويلها إلى مسجد كبير، بينما يبقى إرث المدينة المتسامح المتحرر من أغلال الخرافة التاريخية مرحبا بأماكن العبادة الدينية، فالمدن لا تتخلى عن اطمئنانها الديني.

اسطنبول وفية لعلمانيتها
اسطنبول وفية لعلمانيتها

إسطنبول ليست مدينة مسورة بطوق إسلامي كما يطمح أردوغان إلى ذلك، لقد فعل قبل متحف آيا صوفيا، بأن طالب بتغيير مزاج الأتراك معتبرا أن لبن العيران شراب الشعب الوطني وليس عرق الراكي الكحولي، وقبل سنوات وقفت جمعية المهندسين المعماريين التركية ضد فكرته لبناء مسجد عملاق، عبر رفع دعوة قضائية في المحاكم تتهم التصميم بالتأثير على الجسم المعماري لإسطنبول ولخليج البسفور. لأن بناء مسجد عملاق لا يمثل التقوى بقدر ما يشير إلى ممارسة سياسية عبر استجداء المشاعر الدينية.

وكان تصريح أوجوز أوزتوزجو رئيس جمعية المعماريين المستقلين في إسطنبول آنذاك بمثابة الرفض المعبر عن روح إسطنبول الذي تجسد اليوم برفض حزب أردوغان، بقوله “الأتراك عندهم مثل يقول لا تكتشف أميركا مرة أخرى… ولا تحاول أن تبني دار أوبرا سيدني مرة أخرى”.

لقد اختار أردوغان ليلة الهزيمة أن يظهر بمفرده خلال خطاب الشرفة الذي ألقاه أمام حشد من أنصاره في المقر الرئيس لحزب العدالة والتنمية بأنقرة، لكنه أيضا كان معبرا عن عزلته الشخصية، لأن الدين لم ينجح على مر التاريخ في بناء الدول، وهاهو حزب العدالة والتنمية الإسلامي في طريق الفشل من جديد.