صديق الحلو يعتق النص ويمزج مدارس الرواية في 'رسام الملكة'

الرواية تنتمي لمدرسة الرواية الجديدة، ولكن كاتبها السوداني تخلص من قيود تلك المدرسة والتقط من كل بستان زهرة، فأتت خليطا لعدد من المدارس رغم قصرها وصغرها النسبي.
الحرية الشخصية الحقيقية لا يمكن تحقيقها بدون وجود أمان اقتصادي واستقلال، فالجائعون والعاطلون هم المادة التي تصنع منها الديكتاتورية. - فرانكلين روزفلت.

أتت رواية "رسام الملكة" للروائي الاستاذ صديق الحلو في 89 صفحة من الحجم المتوسط ممثلة لمدرسة الرواية الجديدة في أفضل تجلياتها والتي أعتقد أن الأستاذ  الحسن بكري هو رائدها في السودان عن روايته أحوال المحارب القديم الحائزة على جائزة الطيب صالح للكتابة في نسختها الأولى
وخصائص تلك المدرسة هي الإغراق في شاعرية اللغة وتهويمات النفس والأزمنة الموازية والمونولوغ الداخلي والإسقاط الرمزي ما يجعل تلك المدرسة بكل ما تنتجه صفوية في اختيار قراءها واقتناص مراميها بإجبار القارئ على المشاركة في الكتابة، مما يؤدي لقلة قراءها بشكل عام.

أتت الرواية مبينة النسيج الاجتماعي لمجتمع اللقدين (السودان) مسقطا على زينب بلال وأولادها كل التهم التي أسقطت على  الإنسان النيلي والامتيازات التاريخية التي نالها في سودان ما بعد الاستقلال، وأشار الكاتب للترفع والاستعلاء العرقي بشكل واضح في طريقة زواج مسعود من بدرية، وربما كان لتحميل هذه المضامين إثقالا يرجى تخفيفه لا تأكيده، كما أنه وضح التقاطعات والتباينات بين زينب بلال التي تمثل طبقتها ذات الامتيازات التاريخية وبين السلطة الحاكمة مجسدة في عبدالباقي جبل الحديد (البشير)، وهي علاقة قائمة على المصلحة في المقام الأول فتعلو وتهبط  حسب مقتضى المصلحة لتمثل المعارضة حينا وتمثل الحليف في أحايين أخرى

"زينب بلال تعرف اللعبة وبنظرها الثاقب أمسكت كل الخيوط المهم أن نهدأ، نخفي الهزيمة ونرمم الأزقة المغبرة والمتعرجة حتى تزقزق عصافير الخريف وتطير الى أعشاشها بأمان. لا بد من إيقاف البذخ والتقشف. لا تصدقون ما يقول به العالم الغربي. هدفنا أن نوقف بشاعة التصرفات وأن نتمنطق بالحكم، الناس يحسون بالكابوس الجاثم عليهم. الآتي دائماً مفزع".

أتى المكان في الرواية مجسداً لحدود السودان الحالية وإن ركز على العاصمة بكل ما تجسده من صراع طبقي وسياسي أسقط بظلاله على جميع البلاد طوال فترة حكم عبد الباقي جبل الحديد،"الجماهير المحرومة من الماء النقي، العلاج والتعليم، العمارات الزجاجية تُشَيَّد في اللقدين، تمددت الشوارع والناس كالأشباح، تملق القلة، عبدالباقي جبل الحديد أصبحت حساسيته شديدة للنقد، الميزانيات كلها تذهب للدفاع ذلك ما يكفي الناس سنوات عديدة".

حملت الرواية تقاطعات زمنية تمتد لثلاثمائة عام حيث تجسد نهاية دولة الفونغ ومقارنتها بفترة حكم عبدالباقي جبل الحديد (البشير) لبنة أساسية من لبنات الرواية، "ثلاثة قرون والكتابات تؤرخ لما هو حاصل ومسعود الباهت فقد حيله وخوارقه وصار باندهاش يبحث عن الطمأنينة وبتلك اللغة المبهمة. استأنف أفاعيله في زرع الفتن كأمه تماماً ويتحدث مع أناس مجهولين متذكراً أصوله الوضيعة واستفساراته التي تضحك الأطفال".

ورغم أن صديق الحلو اكتفى بالإشارة فقط لتلك الفترة الموغلة في التاريخ  دون الحديث عنها، ولكنها كانت إشارة ذكية، تفتح باب النقاش للمقارنة بين الفترة الأخيرة للسلطنة الزرقاء وبين فترة الإنقاذ.

فمن المعلوم أن أول ما يطيح بالدكتاتورية هو تعدد أقطاب القوة الاقتصادية للتحالفات القائمة على المصلحة الآنية دون قيم أخلاقية أو مشروع سياسي واضح، وكذلك كان في نهاية السلطنة الزرقاء، بعد أن فقد السلطان سلطته الاقتصادية  المتجسدة في الذهب والرقيق، بعد دخول التجار الهنود والأوربيين وظهور العملات الأجنبية في التداول اليومي مثل الدولار الأسباني، كما أدى ظهور طبقة التجار الجديدة من المواطنين ذوي الأهداف المختلفة عن السلطة المركزية لفقدان قوة الحكم تدريجياً حتى أدى لظهور دويلات صغيرة مثل دولة المجاذيب في شمال السودان ذات السطوة الدينية والسياسية، ولك أن تسقط ما حدث في تلك الفترة على دولة الإنقاذ البائدة لتجدها تطابقها حذو الحافر بالحافر، وهي إشارة ساخرة لدورة الزمن التي تعيد ذات الأحداث دون الاستفادة منها وهذا ما قاد الكاتب لعنوان الرواية "رسام الملكة"  مجسدا دعوة الكاتب للاستفادة من التاريخ من  بغرض الاستفادة منه بدلا من الوقوع في براثن التكرار الذي يفضي لذات النتائج "أننا لا نواصل تراثنا بالدقة المطلوبة، وئدت تجارب مروي في صناعة الحديد والهندسة الزراعيةمن فائض القيمة أن يتحدث الناس في اللقدين عن حكمة ملكات السودان القديم، الكنداكات اللاتي حكمن الجزء الشمالي من البلاد".

إن استصحاب كل المتغيرات التي امتدت طوال فترة حكم الانقاذ ومطابقتها زمكانياً على الأحداث في اللقدين يرفع عنها صفة الرمزية ويلقي بها في أتون المباشرة ولكن ليس بالطريقة التقليدية، فقد تم ذلك بحرفية عالية مستخدمة تباين الأصوات ما بين صيغة المخاطب والراوي العليم، كما تلمس شذرات من ماكوندو ماركيز في عائلة زينب بلال بأجيالها الثلاثة، والواقعية السحرية التي تتدثر بثوب الواقعية وشذرات من بت مجذوب في موسم الهجرة إلى الشمال  متجسدة في شخصية زينب بلال بشهواتها السرية ورغباتها المعلنة وبناتها الست بجمالهن الأخاذ وجرأتهن الفاضحة، ورغم إشارتي في بداية المقال إلى أن الرواية تنتمي لمدرسة الرواية الجديدة، ولكن صديق الحلو تخلص من قيود تلك المدرسة والتقط من كل بستان زهرة، فأتت الرواية مزيجاً لعدد من المدارس رغم قصرها وصغرها النسبي.