الزمكان ومراوغة السرد في رواية "الصريم"

رواية أحمد السماري أتت مراوغة تشي في سطورها بأنها رواية تجسد أدب الرحلات، وهي تنقل تفاصيل الرحلة البرية من مدينة الأحمدي بالكويت حتى الرياض.
اللغة في الرواية غلبت عليها الفصحى وإن تعمد الكاتب استخدام جمل وعبارات بدوية
الزمان في الرواية أتى مرناً بشكل كبير

يقول الناقد الأدبي د. يوسف نوفل: "أدب الرحلة حاليا ينتسب إلى عالم المبدعين الروائيين السرديين بينما قديما كان منتسبا للعلماء سواء الجغرافيين، أو المؤرخين، أو كذلك الجيولوجيين. ويمكننا القول بأن الرحلة قديما كانت ملكا للعلماء وأصبحت حاليا ملكا للفنانين والأدباء".
أتت رواية أحمد السماري الموسومة باسم الصريم الصادرة عن دار أثر للنشر والتوزيع في مايو/آيار 2021 في طبعة أنيقة مكونة من واحد وتسعين ومائة صفحة من الحجم المتوسط. 
رغم أن هذه هي الرواية الأولى للسماري فإنها أتت مراوغة تشي في سطورها بأنها رواية تجسد أدب الرحلات، وهي تنقل تفاصيل الرحلة البرية من مدينة الأحمدي بالكويت حتى الرياض مروراً بالهفوف وصحراء الربع الخالي بالمملكة العربية السعودية، وإن كانت الرواية فيما بين سطورها المتتالية قدمت رؤية دقيقة للبيئة المجتمعية في المملكة العربية السعودية في ذلك الزمان مستصحبة الأحلام والرؤى والخذلان والصمود والتغير المتتالي لذلك المجتمع مؤكداً الإلمام الجيد للكاتب بذلك التاريخ الذي ربما سبق مولده وباجتهاده في توفير المادة البحثية لتلك الفترة والتي تميز الموروث الشعبي فيها بالمحكي مع قلة التوثيق الورقي بعيدا عن التوثيق الرسمي. 

novel
الخذلان يجعلك تبحث في نفسك عما يُغنيك عن الناس

أتى المكان في الرواية مغطيا رقعة واسعة، فإن كانت الرواية قد ركزت على الكويت ثم المنطقة الشرقية انتهاء بالرياض ومروراً بصحراء الربع الخالي ولكن كانت هناك العديد من الإشارات للمنطقة الغربية ممثلة في جدة ومكة، وإشارات لدول ومناطق عربية مثل الشام ومصر وشمال إفريقيا، ولدول أوروبية مثل بريطانيا وألمانيا وهولندا، وهذه المساحة الشاسعة عكست تشابك العالم وارتباطه والتأثير المشترك والتعاطي بين الأمم والشعوب والمصالح المتداخلة فيما بينها، والتأثير المعاصر والتاريخي الذي يمتد لقرون ضاربة في التاريخ وحتى اليوم. 
أتى الزمان في الرواية مرناً بشكل كبير، فرغم أن الزمن الراهن في أحداث الرواية لا يتجاوز الثلاثة أشهر في نهاية العام ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد ولكن تقنية الاسترجاع قفزت بنا حتى بداية القرن العشرين، وربما أتى اسم الرواية من هذه الفترة بالذات وهي تحكي عن الكوارث التي حدثت خلال تلك الفترة والكم المهول من المآسي التي عاصرها إنسان نجد بشكل عام. 
"وإذا قارنا زماننا الحاضر بما مر علينا في نجد خلال السنين الفارطة، كانت الخمسون سنة الماضية أشبه بالقرون العجاف من ثقلها وكثرة الجوائح والكوارث والمجاعات, التي أصبح يؤرخ بها الزمان، فهناك سنة الرحمة حيث تفشى وباء حصد أرواح المئات بالقرية ومئات الآلاف على مستوى نجد والجزيرة، وتعود التسمية لكثرة الترحم على الموتى، حينئذ يُقال "كان حفار القبور ما يرفع ظهره" من كثرة الموتى، خلعت الأبواب الكبيرة لتحويلها إلى نعوش لنقل الجنائز بعد أن تحطمت النعوش المتوفرة. وهناك سنة الجوع، وسنة سأحوت (وهو اسم أحد الأمراض) وسنة الجرب، وسنة الجدري، وسنة الدبا (وهو الجراد) وغيرها."
وامتدت بالقفزات الزمنية حتى بداية القرن الواحد والعشرين كما ختم زيد حكايته بنهاية الرواية، وهذا جعل من الحدث يركض في تيار الزمن بشكل سريع يخطف الأنفاس في بعض الأوقات ومتمهلاً لدرجة التوقف في أوقات أخرى، كما أن تقنية السرد داخل السرد منحت الراوي مساحة للقفزات الزمنية التي ضربت عميقاً في التاريخ مروراً بالعصور الوسطى وانتهاء بعصر النبوة في إشارات سريعة استدعتها الضرورة السردية فأتت منسجمة وغير مخلة بالسياق السردي.
عكست الرواية الحراك الاجتماعي والاقتصادي لفترة الخمسينيات في المجتمع السعودي مستصحبة الصعوبات التي كان يواجهها الإنسان في تلك الرقعة الجغرافية ما قبل اكتشاف البترول، وقدم الكاتب رؤية مفصلة بكلمات موجزة ذات مضمون ثر وغني. 
"لقد أتيت من قرية نجدية محاصرة بأسوار الموت: الجوع، والمرض، والعزلة، والجهل، والجفاف. الفقر مستفحل في كل منحى من مناحي قريتي، نتعلم منذ الولادة التدبير والاقتصاد في كل شيء، كل ما يكلف مالًا حتى لو كان قليلًا فهو غالٍ، لا شيء رخيص غير آلام الناس."
وكان خيار الاغتراب والبعد عن الوطن بحثاً عن تحسين الوضع الاقتصادي خياراً عقلانياً في ذلك الوقت:
"شعرت أنّ خيار الرحيل أكثر أمانًا، وأنّي سأشعر بحال أفضل كغريبٍ في بلد أليف، سأكون أكثر ارتياحًا وسلامًا، ستصاحبني هذه الثنائية، حتى تأتي لحظة الانكسار، لن أفعلها سريعًا، سأظلّ أفكر فيها طويلًا، ستثبّطني الكثير من العلائق الاجتماعية، تلك التي لا تُرخي حبالها سريعًا، وإنما ترتخي بالرحيل حبلًا حبلًا، فاقدًا كل رغبة في العودة مرة أخرى للعيش في هذا المكان”.
أتت اللغة في الرواية سلسة وسهلة غلبت عليها الفصحى وإن تعمد الكاتب استخدام جمل وعبارات بدوية "اللحية الغانمة" ما أكسب الرواية نكهة خاصة تؤصل للنص وتجعل ارتباطه قوياً بالبلد والناس، كما استعان الكاتب بأبيات من الشعر النبطي وإن صعب فهمها لمن لا يتقن اللهجة السعودية، ولكنها بشكل عام لم تخل بالبناء السردي للرواية، وربما كانت أكثر استساغة لأهل البلد مع التأكيد على أن الرواية تحلق بعيداً فتطالعها مختلف الشعوب والثقافات في الرقعة الإقليمية التي تتحدث العربية بمختلف لهجاتها.

الرواية السعودية
أحمد السماري

قامت الرواية على بناء يعتمد على تقنية الحكاية "السالفة" داخل الحكاية، وربما كان هذا أيضاً بحثاً عن التأصيل، ففي الزمن المختار لفضاء الرواية كان للسوالف والحكايات مكانة كبيرة في الأدب الشعبي مصحوبة بالشعر النبطي والعادات والتقاليد العربية الضاربة في عمق الثقافة والفلوكلور الشعبي لمنطقة نجد وشبه الجزيرة العربية، وإن لم تكن الاستعانة بالحكاية هنا عشوائية حسبما أظن، فقد وظف الكاتب الحكاية ليبث العديد من الإشارات الفلسفية ذات الدلالات العميقة عبر الحوارات العديدة التي تعتمد على الحكاية في الأساس بين زيد ووليم الرحالة والمستشرق البريطاني الذي يبحث عن ذاته بين رمال الصحراء.
"قبل خمسمائة عام كان هناك عالم عربي عاش في مصر وهو أحد تلاميذ العالم ابن خلدون، اسمه تقي الدين المقريزي، له كتاب عنوانه "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، وهو يحلل يشكل علمي دقيق تلك الأسباب للكوارث والنكبات، فوضعها في أربعة أسباب رئيسة سأذكرها بتصرف، أولًا: انعدام التخطيط للمستقبل أو ضعفه، مع سوء اختيار المناصب من الوزراء وأمراء الأقاليم ومن في حكمهم. ثانيًا: غلاء الأطيان، نتيجة التملك العشوائي، والإقطاع لمن لا يستحق، ويرى أن تكون الأطيان بالكراء, شرط الاستغلال الفعلي لها، بدلًا من التملك، لأن في غلائها تضعف الجدوى فيهجر الناس الزراعة لعدم جدواها، فتقل المحاصيل في الأسواق فترتفع أسعارها، وربما تفقد. ثالثًا: رواج العملات ويسمى ذلك في علم الاقتصاد الحديث "التضخم" بسبب عدم إسناد النقود على ما يتوفر من الذهب والفضة، فيكون ورقًا بلا قيمة، ويجب أن يتم السيطرة على سيولة النقود بما يتوفر من إنتاج الزراعة والصناعة. رابعًا: الغش في السلع يولد فساد التجارة بسبب فقدان الثقة بين المشترين والباعة، فتتعطل سلاسل الإمداد للسلع من المزارع إلى المشتري، فلذلك يطلب تفعيل عمل أهل الحسبة في مراقبة الكيل والجودة، وما يسمى حديثًا "مراقبة الأسواق"، وضبط الموصفات والمقاييس وسلامة المحاصيل".
الرواية في عمومها أتت محتشدة باللغة الشاعرية الجميلة والتشبيهات المدهشة ما يضعها في مصاف الأعمال المكتوبة بإتقان ودراية مدللة على إتقان الكاتب واطلاعه الواسع.
"إن الغربة يا أمي ليست إرادة وإنَّمـا إجبار، فلا أحد يحب العزلة أو يستأنس بالوحشة، ولكنه الخذلان يجعلك تبحث في نفسك عما يُغنيك عن الناس، لأن في وجودهم عدمًا، وفي غيابك عنهم احتمالية للوجود".
"مدّوا فرشهم وتوسد كلٌّ همهُ وأحلامه، شخصوا بعيونهم نحو النجوم، وناموا وأصوات تحتحة السيل في وادي قريته العطشى في نجد تداعب خيالاته، وهسهسته وهو ينساب في سواقي مزرعته بصفاء وخفاء، يسمعها زيد في منامه، وهو يمشي تحت فيء أشجار نخيلها وأطراف سعفها يحتك بعضها ببعض بلطف مع نسيم رقيق لا يُشعر به، ومن تحت السعف تصدر صريرًا يحدث صوتًا خفيفًا كما لو أن النخيل يخبر بعضُه بعضًا باستبشار عودة صاحب الجنة إليها بعد غياب."
كاتب وروائي سوداني
[email protected]