طبقات الحياة في "أنين الصبار"

أسماء عبدالله لا تحدد موقع الواحة الجغرافي في روايتها بدقة، ويبدو عدم التحديد هذا متعمدا، لتصبح الواحة هي أول أرض يسكنها البشر.
لكل شخصية في الواحة حكاية
امرأة تعشق غير زوجها لكنها تحب نشر فضائح عن النساء الأخريات البريئات

 في الفقرة الأولى من روايتها "أنين الصبار"، تضع الكاتبة أسماء عبدالله متولى (من كاتبات الوادى الجديد) بين يدي القارئ، أهم مفاتيح هذه الرواية، الأشباح التى تتراقص مع الهواء، الإنسان؛ ربيع ابن الشيخ حسان شيخ الواحة، والواحة نفسها مسرح الأحداث، الواحة الغارقة في "هوة عميقة من الذكريات الغموض والسحر".
لا تحدد الكاتبة موقع الواحة الجغرافي بدقة، ويبدو عدم التحديد هذا متعمدا، لتصبح الواحة هي أول أرض يسكنها البشر، يبنون فيها حياتهم بأفراحها القليلة، وأحزانها الكثيرة جدا، والرحيل الدائم للأحبة، ولا تحدد الكاتبة الزمان أيضا، لكن يبدو أنه في عصر المماليك أو العثمانيين، حيث هرب التركي بأسرته وأمواله من الوالي الذي ذبح ولديه.
الواحة هي البطل المطلق للرواية، الواحة المكان، والواحة الحياة الإنسانية ذات الأبعاد المتعددة، حياة البشر الذين يتعاملون مع بعضهم البعض بمحبة وكراهية وسماحة وعدوانية وطمع وندم إلخ، والحياة الجوانية لهؤلاء البشر الذين تسيطر على معظمهم النفس اللوامة التي تسوطهم بسياط من نار الذكريات لما اقترفته أنفسهم الأمارة بالسوء، وحياة الذين فضلوا البقاء على هامش الحياة، فوق الجبل مثل قارئة الكهف وثريا، أو في المقابر مثل مهدي ومهاود، وحياة الأشباح الذين رحلوا عن الدنيا لكنهم ظلوا في الواحة يراهم من يخافونهم، لأنهم أذنبوا في حقهم، أو يراهم من يحبونهم لأنهم يشتاقون إليهم.
لكل شخصية في الواحة حكاية، والحكايات تتشابك، المرأة التي تعشق غير زوجها (فتحية)، لكنها تحب نشر فضائح عن النساء الأخريات البريئات، الأخ الذي يحب أخاه ويكرهه في الوقت ذاته، لأن أباه كان يفضله عليه، فلا يحاول إنقاذه من الرمال المتحركة التي تبتلعه، المرأة التي تجعل ابنها يقتل أخاه الصغير غير الشقيق ليحتفظ وحده بالميراث، الحب الذي يتخطى عقبات الطبقات الاجتماعية فيتزوج ربيع ابن الشيخ حسان من سحر ابنة حابكة الليف، لكنه يكون سببا في موتها عندما يتزوج عليها طلبا للولد. 
تهتم الكاتبة بنسج تفاصيل الحكايات، وأحداثها الخارجية، وتأثيرات هذه الأحداث على الشخصيات ذات الصلة، وتحرص على ترابط الحكايات مع بعضها البعض، لتؤكد أنها تحكي حكاية الواحة، وما حكايات أهلها إلا التفاصيل التي تتكون منها الحكاية الكبيرة لواحتهم، نزوح التركي إليهم، نفورهم منه، ثم تقبلهم له، شرائه لأراضي بعض الفقراء منهم، جلده لبعض من سرقوه، ثم ندمه وإعادته الأرض لأصحابها، جفاف الآبار، الخروج من الواحة إلى المدينة المهجورة ذات المياه الكثيرة، الشعور الشديد بالغربة الذي يجعلهم يعودون للواحة التي عادت إليها المياه بعد أن ردموا بعض الآبار فتدفت المياه في البئر الرئيس. 

نار الذكريات
كاتبة من الوادي الجديد

هجوم قطاع الطرق الملثمين على الواحة، وعلى القافلة التي غادرت إلى المدينة المهجورة، وثبات أهل الواحة في مواجهتهم، ونبل البدو في مساندة أهل الواحة ضد قطاع الطرق.. ترسم الكاتبة من خلال كل ذلك صورة شديدة الرهافة والخشونة لحياة من يسكنون في بقعة خضراء صغيرة وسط صحراء مترامية الأطراف، يتهددهم الجوع والعطش والغرباء والحيوانات المفترسة، لكن ما يتهددهم أكثر هو أنفسهم، أطماعهم، خياناتهم لبعضهم البعض، وأكلهم لحم بعضهم البعض.
ولا تغفل الكاتبة ذكر الدير الذين يسكنه بعض الرهبان قريبا من الواحة على مسيرة أيام قليلة، ذلك المكان الآمن الهادئ الذي يحب التركي والشيخ حسان زيارته وزيارة أهله والحديث إلى رئيسه القسيس مرقص.
كما لا تغفل الحديث عن بعض عادات أهل الواحة والبدو في الزواج والعلاج واستقبال الضيف، وإن كنت أرى أنها كانت مقترة في هذه الجزئية التي كان يمكن أن تزيد بتفاصيلها من رسم روح المكان والناس.
تروي الكاتبة روايتها بضمير الغائب، الراوي العليم يحكي كل شيء، لكنه يكشف لنا ما يعرفه بالتدريج، فتحافظ على روح التشويق التي أمسكت بها منذ بداية الرواية حتى نهايتها، وقد استخدمت أجواء الواحة وسحر غموضها وبالذات في الليل معينا للسارد، فأصبح القمر في الكثير من أجزاء الرواية هو الخيط الذي يربط به السارد بين المشاهد والشخصيات والأفكار والمشاعر، فيطل القمر على مكان بشخوصه، وفي الوقت نفسه على مكان آخر بشخوص آخرين، فكأن القمر يقوم بدور المونتاج المتوازى، ليقدم السارد من خلاله أحداثا متزامنة في وقت قصير في عدد من الأماكن المختلفة.
قرأت الرواية بصيغة رقمية (بي دى أف) لذلك لا أعرف حال النسخة المطبوعة منها، لكن النسخة التي قرأتها تحتاج إلى مراجعة لغوية لكثرة ما بها من أخطاء إملائية ونحوية، وبعض العبارات التي تحتاج إلى إعادة صياغة، لكن هذه الرواية تشير وبقوة إلى كاتبة تمتلك عالما يخصها وقدرة سردية على تقديم هذا العالم بما فيه من حيوات متجاورة بما يمنح القارئ معرفة ومتعة معا.