طلال الغوار يحتفي بصباحات شاغرة

أمر الحصول على نصوص شعرية تمتلك الجودة العالية أصبح يحتاج إلى فحص وتمحيص وتدقيق.
إنثيالات شعرية متدفقة لا يمكن أن تصل إلا بقصيدة عمودية موزونة
انطلاقات حسية شعرية لا يمكن لها إلا أن تكون قصيدة نثر

بقلم:  يوسف عبود جويعد

وسط موجة الكتابات الشعرية، المتفاوتة في جودتها وبنيتها النصية، ومفردات الشعرية الحسية، وانزياحاتها، وأوزانها وقوافيها، وصورها، ورؤاها، وثيماتها، ووحدة موضوعاتها، حتى صار أمر الحصول على نصوص شعرية تمتلك الجودة العالية يحتاج إلى فحص وتمحيص وتدقيق، ورغم وجود نخبة طيبة من الشعراء امتلكوا ناصية التكوين الشعري وتشكيله وفق سياقه الفني الصحيح، وعبر مساره الصحيح النابع من وعي وخبرة ودراية الشاعر بأدوات بناء القصيدة، سواء كانت تلك القصيدة عمودية أو تفعيلة أو نثرية، ولكل نمط من هذه الأنماط أدواته الأساسية التي تشكل بناء النص.
ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، فلا يعني إجادة بناء القصيدة الأمر الضروري الذي يتطلب من الشاعر إتقانه، وإنما الأهم من ذلك هو ملاحقة موجة التطور الحاصل في تلك الأنماط الشعرية، واللحاق  بها والسير معها، وفي المجموعة الشعرية  "احتفاء بصباحات شاغرة" للشاعر طلال الغوّار، نحصل على هذا النموذج الذي ينتمي الى تلك النخبة التي خبرت فن صناعة القصيدة بكل أنماطها، فهو يقدم لنا القصيدة العمودية، وقصيدة النثر، بشكلها وتكوينها وبنائها الذي يمنحها بكل جدارة روح الشعر وعالمه وكل ما يتعلق بتدوين القصيدة.
ويذكر أن من يمر على صياغة القصيدة العمودية التي تعتمد على الوزن والقافية والبحور والإيقاع والموسيقى، وكذلك من يمر على قصيدة التفعيلة، سيكون موفقاً تماماً في امتلاك مقومات صناعة قصيدة النثر بشعريتها وإحساسها وإيقاعها وموسيقاها، لأنه قد نمّى الذائقة الشعرية داخله وصارت المفردة أينما وجدت وأينما كتبت تمتلك هذا الحس الشعري العميق المتأصل والناتج عن تلك التجربة، وهكذا فإننا نجد في هذه النصوص هذه السمات التي منحتها صفة القصيدة الشعرية، كون الشاعر طلال الغوّار لم ينحرف من كونه شاعرا لكل أنماط الشعر، وأنه يستطيع تدوين أي نص شعري وفق متطلبات بنائه، حيثما اقتضت الضرورة ذلك. 

رحلة شعرية حافلة بالعطاء الشعري الأصيل، حيث نجد فيها ما يروي ظمأنا من رحيق هذا العالم الرحب

هذه الثيمة، وهذا الموضوع، وتلك الإنثيالات الشعرية المتدفقة لا يمكن أن تصل إلا بقصيدة عمودية موزونة، وتلك الفكرية وتلك الانطلاقات الحسية الشعرية لا يمكن لها إلا أن تكون قصيدة نثر، وهكذا هو الشاعر يتحكم بأدواته التي تشكل بناء النص وفق ما يجده ضمن السياق الفني الصحيح، فتوافدت إلى هذه النصوص الثيمات، والتدفقات الشعرية والهواجس الحسية الشفافة، لتتشكل وتتنوع وكأنها باقة ورد تحمل جميع الألوان وتعبق بكل العطور، حيث نجد طوافا واسعا وكبيرا لكل نواحي الحياة، وتداعيات كبيرة وكثيرة تتعلق بالحب، والشوق، والهيام، والوله، وكذلك نجد تداعيات الذات المنكسرة التي تتأسى على ما حل بنظام الحياة القويم، وفي البلد، وفي بغداد، وحتى في العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة، ويمر على الفساد والخراب، ويدعو إلى صباحات مشرقة ويتوق للوصول إليها. 
وهكذا، فإننا سوف نشهد طوافا متسعا يحمل تنوعا كبيرا، ولكنه لا يخرج عن واحة الشعر الأصيل الذي يناسبه بإيقاعه وموسيقاه وهو يخرج من الوجدان ليدخل الوجدان، وها نحن نشاركه هذا الطواف، حيث نقف مع قصيدة "بغداد" التي حملت شحنة من الأسى والألم لما وصلت إليه:
أما آن لي 
أن أكسر عروة مساءاتكِ 
فأرى دجلةَ 
تفتحُ أحلامها 
في كتاب الضفاف 
أما آن لي 
أن أرى 
جسرك الممتدُ من قلبي 
إلى رصافة أحلامكِ
يستعيد عشاقه 
وفي القصيدة الشعرية القصيرة "شوق" نجده أيضاً يناجي قريته بعد عودة من غياب طويل: 
كلما جئت قريتي 
اقتادتني خطايَ 
إلى طفل ما زال ينتظرني 
خلف شجرة 
منذ خمسين عاما
لكني لا أراه 
كما أود أن أشير هنا إلى أن خير من ينسج قصائد الغزل، والحب، والشوق، والانثيالات الوجدانية التي تتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة، هو الشاعر طلال الغوّار، كوننا نحسها انطلاقة حسية عاطفية مفعمة بالأحاسيس الجياشة التي تتصل بهذا الجانب المهم، وهذا ما نجده في مطولته المرقمة "تشرقين في قصائدي" إذ نجدها إشراقة موفقة:
1
كلمّا 
تهجّيتُ حبكِ 
زهرة
زهرة
وقلتُ إنِّي وصلتُ ايكِ 
اتّسعت أمامي 
حقول المعاني 
وغاب الطريق
16 –
لأنِّي أحبّكِ 
كل صباح 
أنحرُ بين يديك 
قصائدي 
20 –
أفتح أزرار بهائك 
وفي لغة الأصابع 
أكتبكِ 
قصيدة عارية 
أما قصيدة "بلادي" فأنها تأخذنا بحس مفعم بالوطنية، ومملوء بالأسى في رحلة مع ما آلت اليه الحوادث في البلاد: 
بلادي 
شاحبةٌ وحزينةٌ 
ليس سوى الخرابُ 
يمشي في طرقاتها 
وتنشر في مراياها الشروخُ 
لم نعد نراها 
كما هي في أعماقنا 
لقد فخخوا فيها الصباحات ِ 
وعن الربيع المزعوم نكون مع القصيدة الشعرية "ربيع مدمى" الذي يضع فيه أمامنا هذا الربيع المزيف: 
نبكي نجوماً كثيرةٌ 
وملامحنا هاربة 
كلماتنا لا يخرج منها غير الدخان 
فتخط أوجاعنا 
على صباحات مقطعة
ونعيش مع الليل والشاعر والقصيدة، في النص الشعري "قصيدة":  

من ديوان الشعر العراقي
روح الشعر وعالمه 

آخرُ الليلِ 
وحدها القصيدةُ 
تصغي إلى نزيفِ الكلمات 
وتقلبني 
حرفاً 
حرفاً 
كما لو أنها 
تقلب تاريخاً طويلاً
من الجراح 
بعدها نكون مع قصيدة "عناد" التي تستعرض أمامنا عناد الحبيب لحبيبته بلغة مفعمة بالاصرار: 
سأظل ألوحُ لكِ 
يا حبيبتي 
با الصباحات العنيدةِ
ألوّحُ لكِ 
بالقصائد الجميلةِ 
حتى تستيقظ 
الأنهار 
والجزرُ 
النائمةُ تحت وسادتك 
وفي قصيدة "إحتفاء بصباح شاغر" نكون مع إشراقة من صباحات الشاعر وهو يخاطب محبوبته: 
في مرايا صباحاتك 
أجدني وحيداً 
وأنا أبدأ خطواتي 
في طرق لا أعرفها 
هل كنتُ أكتشف وجهي 
كلمّا أوغلُ فيك بعيداً 
كان للشجر نوافذ 
تفتح أوراقي للغيبِ 
وللأقاصي إيماءة 
وهي تلحن أحزاني 
وفي قصيدة "وحشة" نعيش الوحشة لفراق الحبيبة بنسق شعري متناسق وقصير:
أمس
رأيتُ الحديقةَ
تجهش بالغربةِ 
في شجرة بلا ظل 
كخطواتي 
- كم كان غيابكِ قاسياً 
يا حبيبتي 
يبدو أن حالة الانكسار النفسي الكبير الذي ألمّ بالشاعر عندما عاد إلى قريته بعد غياب خمسين عاماً، فلم يجدها كما تركها، ولم يجد حلم الطفولة فيها، ولم يجد أشياءه التي تركها، كل شيء تغير وصار لا يشبهه، وهذا الحس الهادئ المؤثر كانت له مسحة محببة على النصوص الشعرية، حيث نجد حالة الاستغراب قد غلفت الصور الشعرية بدلالاتها المعبرة، وهذا ما يتضح لنا ونحن نعيش خيبته في قصيدة "خيبة":
حينما زرت قريتي 
التي لم أراها 
منذ خمسين عاماً 
رأيتني 
أهزُّ بجذعِ الذكرى
فتساقط طفولتي 
حلماً
حلماً 
وأنا أقرأ 
في حفيف الشجر 
أحزان الريح 
وفي قصيدة "شارع المتنبي" يضعنا الشاعر أمام حقيقة أن ليس كل ما يكتب شعر، بل أحياناً أنها محاولات شعرية فاشلة، وكأنه يخاطب هؤلاء الشعراء أين الشعر، ويشعر بالزهو كونه يجد أن قصائده وحدها تسير الى جانبه: 
في شارع المتنبي 
رأيت دخان الشعر 
يتصاعدُ كثيفاً 
لكن 
أين النار 
.....
في شارع المتنبي 
لم أرَ 
غير قصائدي 
وحدها هي التي 
تسير إلى جانبي 
ضمن هذه المجموعة الشعرية العديد من النصوص الشعرية التي تطرح عبر بنيتها النصية ثيمات كثيرة. 
المجموعة الشعرية "احتفاء بصباحات شاغرة" للشاعر طلال الغوّار، رحلة شعرية حافلة بالعطاء الشعري الأصيل، حيث نجد فيها ما يروي ظمأنا من رحيق هذا العالم الرحب، وقدم القصيدة النثرية شكلها الذي ينسجم وسياقها الفني الاصيل، مضيفاً إليها الحسية الشعرية الأصيلة، التي تنطلق من واحة الشعر لتستقر في ثنايا النص، وكان ذك شأن الأنماط الأخرى من الشعر التي ضمتها المجموعة. 
صدرت المجموعة الشعرية عن "أمل الجديدة طباعة – نشر – توزيع – سوريا – دمشق عام 2017.