"طوارف" مزمزة الوجع بالحكمة والتأمل

أحمد عباس لم يفارق نزعة التأمل والحكمة والميل إلى الاستبصار لكنه أضاف إلى تلك السمات مزيداً من الحزن والألم والقلق.
تنويعات مفعمة بالحساسية النفسية تجاه ما يعبر عنه الشاعر اليمني
التجديف في واقع بائس، وزمن غير موات إلا للأنذال والسفلة

في تناولة سابقة توقفت فيها سنة 2015 مع الشاعر أحمد عباس ومجموعته الشعرية الأولى "ضمدت جرحك" الصادرة سنة 2012، استوقفتني عند الشاعر ميوله للحكمة والتأمل ووفرة الاستبصارات الناشئة عن سبر الواقع في شعره يومها كتبت بالنص "ومثل هذه الاستبصارات والمواقف والرؤى سنجد كماً وافراً في عشرات النصوص التي كتبها الشاعر بعد (ضمّدت جرحك) ولا تزال تنتظر فرصتها للتبرج بين دفتي كتاب. وأنا أوثر أن أخصها بتناولة قادمة". 
وها أنذا بعد ثلاثة أعوام أقدم للنصوص المشار إليها وقد تنضدت في مجموعة شعرية تستعد لمصافحة أعين القراء، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الشاعر أحمد عباس الذي أراقب تجربته الشعرية عن قرب قد تقدم كثيراً خلال السنوات الماضية باتجاه تطوير تقنياته وتجاوز مستوى ما أبدعه في "ضمدت جرحك" رغم بؤس الفترة الزمنية التي زلزلت الحرب فيها نفس الشاعر وحطمت أحلامه حيث وجد نفسه مثل مئات المبدعين ومئات آلاف اليمنيين نازحاً مشرداً يكابد مع أسرته ضيق الأمل في المستقبل وانعدام الثقة في الحاضر، والخوف على النفس والأسرة والوطن كله، مع ما يفرضه كل ذلك من الشعور بالعدمية وفقد القدرة على التوازن في خضم التشنجات اليومية وصعوبة العيش ومكابدة المكائد والطعنات من القريب قبل البعيد.
لم يفارق أحمد عباس نزعة التأمل والحكمة والميل إلى الاستبصار لكنه أضاف إلى تلك السمات مزيداً من الحزن والألم والقلق. وفي المجموعة التي بين أيدينا ستة وخمسون نصاً يتبرج في معظمها هذا المنحى ويتعمق من خلال تنويعات مفعمة بالحساسية النفسية تجاه ما يعبر عنه، ففي قصيدة "مراجعة" مثلاً تعجب وأنت تقرأ كيف للبحر الشعري الراقص الفرح الذي انكتب من خلاله النص أن يحمل كل هذا الوجع والحزن، وأن يصبح موئلا للحكمة وتعبيراً عن الهشاشة من خلال أسئلة تعبر عن إشكاليات الحياة وحيرة الذات في مواجهتها: 
هل أصبح إمعةً دوماً 
وأشيّع أحلامي سحلا 
هل يمكنني فهم أمور 
أم أكتب دوما ما يُملى 
أو أمضي في بحر صعب 
وأجدف عرضاً أو طولا 
إن زرت الماضي أفزعه 
والحاضر أحسبه غولا 
نتعارك في زمن ميت 
الأرخص فيه هو الأغلى 
أحياناً أسمع أصداء
لكني لا أفقه قولا 
أتعفف في كل أموري 
لكن لا قوة لا حولا 
تتصارع في النفس أمور 
وأيادي الحب هي الطولى 
إن بحت بها حتى سراً 
واجهت القوة والجهلا 
إنه التجديف في بحر اللاشيء، التجديف في واقع بائس، وزمن غير موات إلا للأنذال والسفلة. 
على الشاعر إذن أن يتحول إلى كلام معجون بوجع المعاناة وعذابات الوجود المتعثر، لكن ما يميز أحمد عباس أكثر في هذا المجال أنه يكتب دون تكلف ودون قصدية مفهومية، وسبب ذلك بلا شك اشتغاله في منطقة تخصه وحده، وهي لا تخصه وحده بوصفها آلية اختارها، بل بوصفها حالة اختارته، وعليه فإني حين أقول تخصه وحده أطلق هذا الحكم مستنداً إلى عشرات النصوص التي يعيد بها صياغة عالمه ويرتب توازناته الصعبة، على سبيل المثال نجده في نفثة تحمل اسم "مسيح" يتواجد ويدور حول السؤال كمجذوب ينشد الخلاص:
أرى دم هابيل كأني سفكته 
وأحسب أني مثل من ظلموني 
أنا أمنيات العيد في قلب زهرة 
أنا ألف نابليون فاجتنبوني 
وما عدت محتاجاً لخل يلومني 
وأصبح يوم النحس يوم سكوني 
أعذب نفسي لا أكف للحظة 
وأبدي أمام الشامتين فنوني 
كأني أنا المسؤول عن قبح أمة 
وهذي الرزايا الماثلات قروني
لا تنبع الحكمة هنا إلا من وجع السؤال، والسؤال لفظ مقدر لكن معناه يضج ويهتاج في النص الذي اكتفيت بإيراد بعضه، وينبع الشعر من إخفاق الحكمة في تخليق الضوء وكسر أنساق الوجود المظلمة، إنه نص بديع رغم فقر مشهده البديعي وخلوه من ترف الصورة ومبهجاتها. وهنا سنجد نصوصاً أخرى تتقافز أمام أعيننا عارية من البهارج عري المهاتما غاندي من الدنيا فيما هو يرجها ويزلزلها، وليس بالوسع الاستشهاد بالنصوص كلها إذ لا بد من ترك القارىء يستكشف ويكوّن انطباعاته بنفسه.
من جهة أخرى سيقابلنا في المجموعة عدد من النصوص تمثل حالة من التجلي الاستبصاري الذي تتراكم فيه موحيات ومرجعيات قديمة دون أن تغيب عنها استعدادت الشاعر الفطرية لاجتراح هذا النوع من التعبير، وهي خاصية تلفت النظر ويصعب في وقفة كهذه وضعها بشكل أوسع تحت الضوء، وإذن فلا بد من وقفات تستغني بالتشذير والإشارة عن الاطناب والاسترسال، نص "مدار ومدى" مثلاً هو نص يكتنز حنيناً جارفاً لمسمى مموه يجعله مفتوحاً على تأويلات كثيرة، فهو الحبيبة وهو الدنيا وهو الحقيقة الغائبة عن أبصارنا وبصائرنا، وتأملات الشاعر بمقدار ما تتموضع الكليات الكبرى فإنها تتوقف أيضا عند شرائح اجتماعية بعينها، كذلك عند النماذج الفردية لترسم لها صوراً كاريكاتورية بالغة الجدية، وهو يحاول بها إدانة هذا العالم القاسي عالم السخفاء والمتملقين والأفاقين، غير بعيد عن فهم الشعر بوصفه أداة تطهير يغسل قلبه المكلوم، ويتحول إلى حائط وشجرة ومؤنس في هذه الوحشة المفزعة، بل وإرث يفي بالحاجة في هذا الجدب المقيت الذي لم يبق فيه للفضلاء مكان.
من اللاوعي تَستجدي الحُطاما 
وتختصرُ المسافةَ والكلاما 
كأنكَ صِرتَ من سيزيف مسخاً 
ومن نيرونَ تغترفُ الضِراما
وتصنعُ مسرحاً من غيرِ نصٍ 
وتبتذلُ الصحافةَ والدراما 
وجدتُك في العصورِ بكل شكلٍ 
وتمتشق الجهالة َوالحُساما 
ولكنّي وإن غَفلت عُيوني 
سأخسرُ ساعةً وأفوزُ عاما 

Poetry
شعور كل يتيم صار في جسدي 

يمكن من زاوية بعيدة فهم اشتغالات أحمد عباس بوصفها تقصّد واع لتوثيق متاعبنا، وهو يفعل ذلك بالتقطير وبالاقتصاد في الألفاظ قدر الامكان، شيء يشبه اليوميات الراصدة لتقلبات حياة الشاعر سوى أنها تختص باستغوار مشاعر القلق والأسى تجاه انكسارت الذات وعذاباتها رغم ما يبديه من إصرار على الإمساك بطرف خيط من أمل، هناك نص بديع عنوانه "الأمل المكبوت" يعبر عما أقصده هنا من حيث التوثيق ومن حيث التقطير المقتصد ومن خيط الأمل المنبثق من أسدال الظلام  يقول النص:
أتحتسيني مرارات الجهالات 
أم أنها تفسد الأجواء للآتي
يا حقبة الجدب هل لا زلت مقبلة 
لأحتمي منك حتى بالنبوءات
أيكتوي اليأس من صبري ومن جلدي
وتطفئ اللهب المصفر مأساتي
خلف المخاوف أخفي كل أمنية
أقلها أن لي سحري وآياتي
سينبت الأمل المكبوت في جسدي 
ويرتوي الحلم من ألحان آهاتي
نص كثيف وهشّ في آن، إنه شهادة على الحال، فهو تجسيد لمعاناة جيل كامل يضيع في زحمة الأحداث التي تمزق الوطن، والشجن الذي يذوّبه في هذه النفثة يحتلنا جميعاً لا فرق فيه بين واحد وآخر.
بطبيعة الحال يتعانق متجه الشاعر مع مضامين قصائده الوطنية التي تتناثر في ثنايا المجموعة باكية على حال الوطن، لكنها تجرح لحظته بالأسئلة، وتحاول فهمها عبر الحكمة التي لا تنجح أبدا لأنها تتكشف خالية من الأمل وإن ادعته كثيراً. فقد سقط الوطن ضحية صراعات همجية أكبر كثيراً من أن تداوى بالشعر، مع ذلك فالشاعر لا يملك لوطنه غير الشعر، هو صوت اعتراضه على ما يحدث، وهو سلاحه في وجه المدافع والرشاشات والطائرات والصواريخ، كلمة الحق التي يقولها في وجوه الطغاه، وهو أيضاً أنين قلبه المجروح، والطيوف الباقية من آماله المجهضة. يقول في نص قصير بعنوان "جوقة اليوم":
رشي على سفح  صمتي نار أغنية 
واستنطقي دمع قلبي واعرفي السببا 
فهذه الألسن العمياء في وطني
بنت من القبح مجداً فاستوى لهبا 
استبدلوا صوت أيوبٍ  بجوقتهم 
 فأجهش المهيد المغدور وانتحبا
إن غياب صوت أيوب أشهر الأصوات التي قدمت الأناشيد الوطنية في تاريخ اليمن منذ ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 لصالح حضور الزوامل الحربية التي يتسابق المتحاربون لإنتاجها منذ عام 2011 لهو دليل قوي على متغير بنيوي في الثقافة اليمنية بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والعسكرية التي طالما كان الأدب والابداعات الفنية المرآة العاكسة لمختلف تجلياتها، وقد نجح النص في كشف هذا العوار الذي أصاب حياتنا بوصفه واحداً من أعراض الحرب الخبيثة. إنه نص قصير لكن إيماضه القوي أوصلنا إلى الغرض منه تماماً.
ولعل من أكثر الأدلة على تماهي الوطن وما يحدث له بذات الشاعر، وما تكابده من حضور الاثنين في واحدة من أكثر أزمات الشاعر التي استقطر تجربتها في هذه المجموعة حين كان يقف في مفترق وجودي مؤلم تمثّل بموت أبيه منتصف عام 2017، دون أن يستطيع مرافقته في مرضه، أو حضور لحظة رحيله بسبب كونه غير قادر على العودة للوطن، لقد عبر عن ذلك ببكائية طويلة تخلت عنه فيها الحكمة والتأملات لصالح العاطفة الجياشة والدمع المنهمر، إنه مقام الوجع والألم والصدق، مقام الفقد والشجن والفجيعة، مقام الحزن العظيم لكنه مقام الوطن أيضاً:
لم تحتمل أن ترى صنعاء مثقلة 
أو أن ترى شعرها الوردي يُنتحل 
ماذا أقول وأهل الكهف قد وثبوا 
أسمالهم في عيون الناس تشتعل 
يمارسون غوايات قد إندثرت 
ويبعثون طقوساً سنها زحل 
لم أستطع أن أكون اليوم مشتركاً 
في موكب حفّه الأملاك والعمل 
أخبرتني قبل عام أنها سَنَة 
يكون فيها الرحيل الحر والأجل 
الآن خِفْتُ لأني صرت منكشفاً 
وكنتَ والله خلفي ذلك الجبل 
شعور كل يتيم صار في جسدي 
وفقد كل أب في الناس أحتمل
ليست تلك كل هموم المجموعة، فثمة جوانب أخرى من تجربة الشاعر هنا تبتعد عن الحكمة والتأمل والاستبصار لصالح مجموعة من الاهتمات أولها التوثيق لتجارب غائرة في القدم وهي تسفر عن نفسها عبر نصين أحدهما نثري والآخر تفعيلي، النص الأول، يحتفي بحكاية من حكايات الطفولة، يستحضر الجد الراوي وينتصر لمفردات الشجاعة والوفاء والتفاني دون مباهاة كما يمثلها "الكلب سريع"، على حساب مفردات الجبن والنذالة والادعاء التي يمثلها صاحب الكلب سريع، والنص على بساطته وسهولته قوي الدلالة يمس القلب مباشرة:
هو رجل من قريتنا 
هكذا حكى لي جدي
كان يمشي 
ويمشي برفقة كلبه سريع  
منذ سماه سريعاً 
وهم يسخرون منه  
وكان لديه جنبية ثمينة أيضاً
ذات ليلة كان عائداً 
من عرس بعيد 
باغته  اللصوص 
كانوا أشداء ومدربين جيداً على الغدر
بادره زعيمهم بضربة 
تلقاها سريع 
الرجل أطلق ساقيه للريح 
غلب كل العثرات التي ألقاها الظلام في طريقه 
وظل سريع كالأسد الهصور يغالب الاعداء ويتلقى الطعنات
في الصباح 
جمع الرجل أهل القرية 
ليطلعهم على الأمر الخطير 
قال لهم إن لصوصاً هاجموه
وأنه أثخن فيهم  
وباستعراض بطولي سار أمامهم ليريهم  
مكان الواقعة 
هناك أصابهم الذهول
كان سريع قد مات
وكان جسمه مليئاً بالطعنات
كانت آثار معركته مع اللصوص تبعث على التقدير  
فيما كان حذاءا الرجل المتباعدين 
يكذّبان كل ما ادّعاه  
من يومها صار الرجل سخرية 
وأصبح سريع حكاية فخر على كل لسان
أما النص الثاني فعنوانه "حب مختنق" وهو توثيق ذاتي لتجربة خاصة اختنقت في الواقع وظل الشاعر يختنق بذاكرتها عشر سنوات كاملة:
 كنت أسترق السمع 
أحفر ظلي فوق الجدار 
أصبح خيط ظلام عليه
قلبي الفائر ينشج  
الخطى المذنبات  
تلاحقني 
وأنا خفقة تقسم الليل نصفين
من شرفات شقتها 
يندلق الضوء 
تعدو جياد دمي
وتفيض الرغائب
شهر وشهران  
كنت أشتم رائحة ابتسامتها 
أتحسس ما بين طياتها 
خائفاً
مثقلاً بالسذاجة والوقت 
والعيون التي تلمع في العتمات
تكافح كابوسها الخاص 
مثلي ترتاب 
كانت مكبلة 
بالمخاوف  
ثم زوج لم تكن معه 
سوى امرأة يراقب أناتها وهي تحلم بي 
 وهي تبدي مفاتنها 
تغمغم يكفيك 
قد أخبرني الشعر عنكْ 
لأي مدى 
 كانت امرأةً لغرارة قلبي
كانت أمرأةً للهوى والغرام الذي لم أذقه
بكتْ وهي تتوسل هجري لها
بكت وهي تنأى كعصفورة عابرة
بكت حين كانت تحاكمني غمغمات مقطبة 
ستفضح أهلك يا ابن ستين .....
عضت على وترها أمّي الحادبة
وقالت ترجّل هنا يا صغيري 
ولا تركب الريح 
من يومها وأنا في رياح الأسى 
لم أعد
أيضاً في المجموعة نصوص أخرى تحتفل بالحياة والجمال، بما هو أنثى وبما هو رغائب يخلقها الاقتراب من الأنثى خاصة حين يكون الاقتراب في منطقة عالية من الانسجام والتوافق النفسي والروحي وهو منحى لم يمض عليه الكثير والقصائد المنتجة في سياق هذا التحول الأخير تتخلص الى حد كبير من ظروف القول تحت وطأة الألم والشعور بالعجز وقوة الظرف المتحكم في الذات، ثمة فرح بالحياة وانطلاق فيها وإليها: 

Poetry
وفرة الاستبصارات 

وردتي نجلاء كيف الحال ياست الورود 
وردتي نجلاء هل تدرين ما  .. 
تفعله الأشواق بالصبّ العميد 
مذ رقصنا في رشيدٍ ظل قلبي في رشيد
وفي هذا المنعطف تخلقت مجموعة من النصوص "مص"، "نجلاء"، "رشيد الحب"، نجلاء مرة أخرى" ، "راقصة الباص"، "بونبوناية".
أخيراً لا بد أن أعبر عن إعجابي باختيار الشاعر لعنوان مجموعته "طوارف" والطوارف هي الأطراف من كل شيء، وقد تعني الأقرب منالاً كما تعني الأبعد منالاً. كما أن الطوارف جمع طريفة وأصلها ما يستطرف ويستعذب، ولا أريد أن أثقل هذه المقدمة بإيغال معجمي ليس هذا موضعه، لكن كل تلك المعاني تصدق على تجربة أحمد عباس في هذه المجموعة، فطريقة اشتغاله طريفة من حيث منحاها وهي قريبة المنال لبساطتها وتجردها من الغلو في التأتي للشعر والاشتغال على الصورة، وهي من حيث معانيها وموضوعاتها وقيمها وأسئلتها وامتلائها بالحكمة والتأملات بعيدة المنال، فهي السهل الممتنع بامتياز ولعل طريقة تلقي الجمهور العربي لبعض هذه القصائد في أمسيات المهرجان الثامن للشعر العربي الذي استضافته مصر نهاية العام الماضي خير دليل على تفرده بطريقته وأسلوبه.