'طيور سمائية - وسط صحبة سيئة' تكشف ملامح الأدب الروسي بين 1881 و1917

قصة فلاديمير كورولينكو الاولى تتناول ذكريات طفولته ورصدًا أمينًا لحياة الفقراء والمتسولين فيما ترصد الثانية ظاهرة الحُجَّاج والجوَّالين الروس.

كان الكاتب الروسي فلاديمير كورولينكو يؤمن أن الأدب يجب أن ينقل الحقيقة إلى الناس. وشكلت قضايا الجوع والقمع والعدالة المواضيع الرئيسية لكتاباته. نشر أفضل أعماله في 1886-1887 التي من بينها "وسط صحبة سيئة"، و"الموسيقي الأعمى"، و"في عام جائع"..

وفي مقدمته لترجمة قصتي كورولينكو "طيور سمائية - وسط صحبة سيئة" الصادرة عن دار آفاق يضيء المترجم يوسف نبيل تجليات المرحلة الأدبية الممتدة من 1881 وحتى 1917، لكي يوضح جانبا من ملامح تجربة كورولينكو ورؤياه وأفكاره انطلاقا من التعريف بملامح الفترة التي ظهر فيها، يقول "جرى في الثمانينيات تحوُّل حاد في الأدب الروسي دفع الباحثين إلى التحدث عن بداية حقبة جديدة. تتمثل أول ملامح هذا التحول في مغادرة الأسماء الروائية الكبيرة الساحة، بعد أن هيمنت عليها طوال عقود، علاوة على إفساح الرواية المجال للنوفيلا والقصص القصيرة مؤقتًا، ففي هذه الفترة لمعت أسماء جديدة، مثل تشيخوف وجارشن وكورولينكو، والجيل اللاحق وعلى رأسه جوركي وبونين".

ويضيف نبيل أن الفترة الممتدة بين 1880 و1895 تبدو مرحلة انتقالية للأدب الروسي تتضمن خواتيم حاسمة وبدايات تجريبية. بعد عام 1880 غيَّب الموت كثيرين من مؤسسي واقعية القرن التاسع عشر العظام، أمثال دوستويفسكي وتورجينيف وشيدرين، وخضعت شخصية أدبية بارزة: ليف تولستوي، لأزمة فكرية وروحية عميقة أفضت به إلى الانسحاب مؤقتًا من ميدان الأدب، وعندما عاد إلى الكتابة مجددًا بدا عمله مختلفًا بشكل ملحوظ عن فنه القصصي والروائي المعهود. في المجال الاجتماعي والسياسي أيضًا نلاحظ تغيرات بارزة، حيث اغتيل القيصر ألكسندر الثاني في عام 1881، وبدأ خلفه ألكسندر الثالث عهدًا من القمع. أدى هذا القمع، المقترن بفشل بعض الحركات الاجتماعية في أواسط السبعينيات، إلى إحساس واضح بإحباط وخيبة أمل في أوساط قطاع واسع من طبقة المثقفين الروس.

أما فيما يتعلق بكورولينكو (1853–1921) أديب وصحفي روسي لامع. وُلد في جيتومير بأوكرانيا حاليًّا. كان أبوه قاضيًا وأمه بولندية الأصل. علَّمته أمه منذ طفولته، وأثَّرت شخصية أبيه الصارم عليه أبلغ تأثير، وهو ما وصفه في إحدى قصتَي هذا الكتاب.

ويشير إلى أن كورولينكو ارتبط بالحركة الثورية في أثناء الحكم القيصري وتعرض للاعتقال والنفي أكثر من مرة. طُرد من معهد بطرسبرج للعلوم الأكاديمية الذي التحق به، بسبب نشاطه الثوري. كسب رزقه بعد الطرد من العمل كرسام. بعد المنفى عاد في عام 1877 والتحق بمعهد التعدين وبدأ نشاطه الأدبي في هذه الفترة. لكن في 1879 طُرد من المعهد مجددًا بسبب الاشتباه في نشاطه الثوري. تنقل بين عدة سجون، وأُفرج عنه مجددًا. في 1881، مع وصول القيصر الجديد إلى الحكم، رفض كورولينكو أن يقسم له الولاء، ومن ثم نُفي مجددًا إلى سيبيريا. قضى هناك فترة صعبة صارت مادة غنية لكتاباته. في 1885 سمحوا له بالاستقرار في نيجني نوفجورود، وفي الفترة من 1885-1895 لمع اسمه كأديب. تزوج في 1886 وعاش مع زوجته طوال حياته. ظهرت أفضل أعماله في هذه الفترة: حلم مقار 1885، وسط صحبة سيئة 1885، الموسيقي الأعمى 1886. ترأس مجلة الثروة الروسية طوال 25 عامًا. تمتع بشعبية هائلة وندد بأحكام ظالمة كثيرة في أثناء الحكم القيصري.

ويتابع نبيل أن كورولينكو اختير أكاديميًّا فخريًّا، إلى جانب تولستوي وتشيخوف وسولوفيوف، في أكاديمية بطرسبرج للعلوم، لكنه استقال في 1902 احتجاجًا على استبعاد مكسيم جوركي منها لأسباب سياسية. وبعد اندلاع الثورة البلشفية أدان كورولينكو صراحة أساليب الإرهاب التي لجأ إليها البلاشفة في تطبيق الاشتراكية. بشكل عام تُعد فترة الثمانينيات هي الفترة الأبرز في إنتاج كورولينكو الأدبي، حيث تميزت بقصص إنسانية بسيطة وعميقة في الآن ذاته، وبعد هذه الفترة ازداد نشاطه الاجتماعي والصحفي؛ الأمر الذي أثَّر على إنتاجه الأدبي بدرجة أو بأخرى.

ويلفت إلى أنه اختار قصتي هذا الكتاب من هذه الفترة: "وسط صحبة سيئة 1885 - طيور سمائية 1889". تتناول الأولى ذكريات طفولة كورولينكو وحياته في المدينة، وعلاقة البطل بأبيه بعد وفاة الأم، كما تُقدِّم رصدًا أمينًا لحياة الفقراء والمتسولين في هذه الفترة. تساعدنا القصة - من دون أي خطاب سياسي مباشر- على فهم طبيعة الحياة الاجتماعية في المدن الصغيرة التي تناثرت في جميع أنحاء روسيا، كما تُبيِّن الفقر المدقع الذي عاش فيه كثيرون. يكتب كورولينكو أحداث القصة من منظور بطلها الطفل، ويُقدِّم لنا لغة إنسانية رقيقة وساخرة، ويرسم لوحات شديدة الجمال ببساطة فائقة.

أما القصة الثانية فتتناول ظاهرة روسية شديدة الأهمية: ظاهرة الحُجَّاج والجوَّالين الروس. في هذا الوقت تعوَّد كثيرون على الطواف في الأرض الروسية الواسعة، وزيارة الأديرة ولقاء المعلمين الروحيين والعيش على الصدقة. علاوة على الأهداف الدينية المباشرة الكامنة خلف هذه الظاهرة، توجد أسباب أخرى تتمثل في الفقر أو الجروح النفسية الأليمة التي تدفع أصحابها إلى الفرار. هي باختصار ظاهرة مركبة روسية الطابع إلى أقصى حد، وفي هذه القصة يُعرِّفنا كورولينكو على بعض شخصيات هذه الظاهرة المهمة.

مقطف

لذلك، إذا حدث لسبب ما أن الجنرال لم يشرب كأسًا واحدة لمدة ثلاثة أيام، فحينها يعاني من عذابات لا تُحتمل. في البداية يسقط فريسة لنوبات كآبة وجبن، وعرف الجميع أن الجنرال الهائل في مثل هذه اللحظات يصير طفلًا لا حول له ولا قوة، وينتهز كثيرون هذه الفرصة للانتقام منه لإساءاته السابقة في حقهم. يضربونه ويبصقون عليه ويلطخونه بالوحل، بينما لا يحاول الأخير فعل شيء، ولو حتى تفاديهم. كل ما يفعله هو أن يصيح بأعلى صوته وتنهمر الدموع من عينيه على شاربه بشكل يُرثى له. يتوجه المسكين إلى الجميع، ناشدًا أن يقتلوه، والأمر الذي يُحفِّز فيه هذه الرغبة هو أنه لا يبالي بالموت "ميتة الكلاب تحت أحد الأسيجة". حينها يبتعد الجميع عنه. إلى هذه الدرجة يلوح شيء ما في هيئة الجنرال وصوته يجبر أشد ملاحقيه جرأة على الابتعاد عنه في أسرع وقت ممكن حتى لا يروا هذا الوجه ولا يسمعوا صوت إنسان وصل في فترة قصيرة إلى الوعي بوضعه المريع. حينها يطرأ على الجنرال تغيير آخر؛ يصير مرتعبًا وتتقد عيناه كالمحموم وتترهل وجنتاه وتنتصب خصلات شعره القصيرة. ينهض سريعًا على قدميه ويضرب صدره بقبضته ويجوب الشوارع بمهابة معلنًا بصوت مرتفع: "أنا قادم! قادم أنا كالنبي آرميا أحد أنبياء اليهود ويوجد سفر باسمه في كتبهم المقدسة لإدانة الأشرار!". يثير هذا المشهد أكبر قدر من الاهتمام. يمكن القول بكل يقين إن السيد توركيفيتش في هذه اللحظات ينفِّذ بنجاح كبير وظيفة لا نعرفها في مدينتنا؛ ألا وهي وظيفة الإعلان، لذلك لا يثير العجب أن يترك المواطنون الأشد صلابة ومشغولية شؤونهم اليومية وينضمون إلى الحشد الذي يرافق الظهور الحديث للنبي آرميا، أو على الأقل يتابعون مسيرته من بعيد. عادة يتوجه أولًا إلى منزل سكرتير محكمة المقاطعة، ويعرض أمام نوافذه ما يشبه جلسة محاكمة، حيث يختار من بين الحشد المار الممثلين الملائمين ليؤدوا دور المدَّعِي والمدَّعَى عليه، ويتحدث بنفسه نيابة عنهم ويجيب باسمهم، محاكيًا بمهارة صوت المتهم ونبرته. نظرًا لأنه استطاع دائمًا في أثناء أدائه الإشارة إلى أحداث حقيقية حدثت قريبًا، وعلاوة على خبرته الكبيرة في مجال الإجراءات القضائية، لا يثير الدهشة إذن أن تهرع الطاهية في غضون مهلة قصيرة من منزل سكرتير المحكمة، وتدس شيئًا ما في يده، وتختفي سريعًا عن أعين بطانته. بعد أن ينال هذه العطية، يقهقه بخبث ويلوِّح بالنقود باحتفالية متوجهًا إلى أقرب حانة.