طُرُق تحرير فلسطين التي تمُر بغَيرها ولا تؤدي إليها

"أيتها القضية الفلسطينية! كم مِن الجَرائم تُرتكَب بإسمِك!"

حينما غَزا صدام الكويت، إدّعى بَدئاً في مَسرحيته هزلية عِبر التلفاز بأنه قام بذلك بناءً على طلب من "فتية آمنوا برَبّهِم" مِن ضُباط الجيش الكويتي. لكن حين وجَد بأن الرأي العام العَربي الرَسمي والشَعبي قد إستهجَن فِعلته، قرّر أن يَشُق صَفّه بدَغدغة مَشاعر ساسَته وعَوامه، عبر المتاجرة بقضية فلسطين، فرَفع شِعار "طريق تحرير فلسطين يَمُر عِبر الكويت"، ليُبَرّر غزوه لها وقتله لشعبها وإستباحته لممتلكاتها. وفعلاً مالت له قلوب ملايين العَرَب والمُسلمين، خصوصاً مَن نَشَأوا بكَنَف نُظم دكتاتورية لطالما تاجَرَت بقضية فلسطين لتُخَدِّر شُعوبها. كما مالت له حيناً قلوب قيادات عَربية كالراحل أبو عَمار الذي كان يتشَبّث بأي قِشّة يَظنّها تخدم قَضِيّته، وصَدام كان قِشّة تبدو صَلِبة جَعجَعةً وأقوالاً، لكنها هَشّة أفعالاً! بينما كانت الكويت أكثر الدول العربية دَعماً لفلسطين أفعالاً! فتأسيس حركة فتح كان في الكويت، حيث كان أبو عَمار يعمَل مُهندساً، إضافة لبقية مؤسسي الحركة، كأبو إياد الذي كان مُدَرّساً للأدب في ثانوية بمنطقة الأحمَدي، وفاروق القَدّومي الذي كان موظفاً بوزارة الصحة الكويتية، وسليم الزعنون الذي كان أستاذاً بكُلية الشرطة الكويتية، وخالد الحَسَن الذي كان موظفاً بمَجلس الإنشاء الكويتي، والدكتور عبدالله الدنان أستاذ اللغة الذي أشرَف على برنامج "إفتح يا سِمسِم" لغوياً وألف أغلب قصائده. فقد سَخّرت لهُم الكويت إمكاناتها ورَعَت ودَعَمَت مُبادرتهم، في وقت كان أغلب العَرب يتوَجّسون مِنها، ومِنهم صدام ورفاقه، الذي لا ندري لمَ لم يَتذكّر تحرير فلسطين إلا حين إختلف مع الكويت حَول مَديونيته لها! ولم يَسعَ الى تحريرها حين كان يَملك جيشاً قوياً، أنهَكه بمُغامَرته العَبَثية في حَرب الثمان سَنوات مَع إيران الخميني!

الخميني هو الآخَر غَطّى على حقيقة أهداف حَربه التوَسّعية ضِد العراق برَفعه لشِعار "طريق تحرير فلسطين يَمُر عِبر كربلاء"، وكان له ولنِظامه حُصّة الأسد في المُتاجرة بقضية فلسطين لتمرير أجندَته التوَسّعية إقليمياً قتلاً وتخريباً دون أن يُحاسِبه أحَد! فتنظيم الحَرَس الثوري الهَجين، الذي شَكله كبَديل عقائدي للجيش الإيراني، كان يَضُم وِحدة خاصة مَسؤولة عَن الخارج بإسم فيلق القُدس، ليوحي بسَعيه لتحريرها، تبَيّن فيما بَعد بأن مُهِمّته الحقيقية هي نَخر الدول العربية وتحويل شعوبها الى حَطب، وأراضيها الى ساحات، لصِراعاتها الإقليمية كقصة الحوثي والسعودية، أو لصِراعاتها الدولية كقِصّة الحَشد والأميركان، وذلك عِبر تمزيق مُجتمعاتها طائفياً، وتحويل أبنائها لمُرتزقة بمليشيات طائفية شيعية، أوجَد لها إسماً تهفو له قلوبها هو محور المُقاومة، طَعّمَه بمليشيات سُنية ليُضفي له بَعض المِصداقية ويُبعد عُنه صِبغة الطائفية، فبالنهاية مَشروعه التوَسّعي قومي فارسي وليس دينيا إسلاميا. لذا هذا المِحوَر لم يتحَرّك يوماً ليُحَرّر شِبراً من فلسطين، أو ليَنصُر أهلها، كما حَصَل لأهل غَزة الذين زَجّهُم صِبيانه الحَمساويون بمُغامرة عَبَثية ضاعَت بسَبَبها أرواحهم وأبيدَت مُدُنهم.

في نفس السِياق والرُقعة الجغرافية المَوبوءة بالأكاذيب، وبَعد إعلان صَدّام شِعاره أعلاه، أتذكر أن الرئيس السوري حافظ الأسَد أرسَل له طالِباً مِنه أن ينسَحِب مِن الكويت لأن طريق تحرير فلسطين لا يمُر عِبرها، وعَرض عليه فتح أراضي سوريا له ولجيشه ليَمُر عِبرها الى فلسطين، بمُقابل إنسَحَابه من الكويت. فأجابه صدام بما مَعناه بأني أشكر عَرضَك هذا، لكني لست بحاجة إليه، لأنك لو كنت تعنيه لحَرّرت أرضك التي تحتلها إسرائيل منذ عقود! ورَغم وقاحة جَواب صدام، إلا أنه كان مُحقاً بكشفه لكذب ادعاءات الأسد بتصَدّره لمحور مقاومة إسرائيل، الذي هو أساساً محور عِصابات قُطّاع طُرق وتجار مُخدّرات. فلو كان الأسَد جاداً بفَتح أراضي بلاده لتحرير فلسطين، لأمكنه أن يُحَرّر الجولان بَدلاً مِن إحتلاله لبنان وقتل اللبنانيين، والتي يبدو أنه كان يَرى أن طريق تحرير فلسطين يَمُر عِبرها! فكلامه لصدام كان رفع عَتب! لا بل كان يُزايد على السادات ويتهمه بخيانة فلسطين، رغم أنه حَقَن دِماء شعبه بتحقيقه للسلام، وحَرّر أرضَه التي إحتلتها إسرائيل بسَبب عَنتريات سَلفه الذي كان على شاكِلة الأسَد، وكانت فلسطين شِعاراً دَغدغ به مَشاعِر البُسطاء ليُصبح زعيماً! فوَرّط بلاده عام 1967 في حَرب خَسر فيها، وتسَبّبت بفقدان الفلسطينيين والعَرَب لألاف الأرواح، ولأراضي كانت بحَوزتِهم!

المُعَسكر الإشتراكي مُمَثلاً بالإتحاد السوفيتي الذي خَدَع العالم لعُقود بنُصرة فلسطين عِبر الإعلام، أو عِبر دَعم الحَركات التي رَفَعَت شِعار الكِفاح المُسَلّح لتحريرها، كان في الخَفاء أول الداعِمين لقِيام دَولة إسرائيل على أرض فلسطين. ففي عَقد التسعينات كشَفت وثائق وزارة الخارجية الروسية، وشَهادات شَخصيات سوفيتية بارزة، تضَمّنها كتاب للكاتب الروسي الشَهير ليونيد مليتشين، صَدَر في موسكو عام 2005 بعنوان "لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟" قال فيه "لولا ستالين ما قامت دولة لليهود في فلسطين". فتلك الوثائق الرَسمية كشَفَت إن ما قدّمَه الاتحاد السوفيتي، كان العامل الرئيسي بقيام وتَرسيخ دولة إسرائيل، على النقيض مِن الشائِع أن وعَد بلفور البريطاني الصادر عام 1917 كان هو أهَم عَوامل قيامَها. وتُضيف الوَثائق بأن ستالين ألقى بثقله وَراء مَشروع اليَهود لإقامة وَطن في فلسطين، كي لا يُقام الوَطن المَوعود على أرض شُبه جَزيرة القرم السوفيتية. بسَبَب هذه الخُدعة، مِئات الشيوعيين مِن كل أنحاء العالم، أضاعوا حياتهم ويَتّموا عوائلهم، بعد أن إنخَرَطوا في تنظيمات إرهابية ادّعَت تبَنّيها للقضية الفلسطينية، ورَفَعَت شِعار تحرير فلسطين، لكنّها في الحقيقة كانت تُنَفِّذ أجِندات مُمَوّليها مِن الزعماء المُهَرّجين، الذين لم تفتهم فرصة إستغلال قضية فلسطين للإستعراض أمام قطعانهم حول العالم، أمثال كاسترو وأخاه الذي كانوا يتقدّمون مَسيرات التضامن مع فلسطين، والقذافي الذي عَرَض خطة سلام بإقامة دولة تسمى إسراطين! وصدام الذي هَدّد بحَرق نصف إسرائيل فأحرَق العراق!

الحوثي هو الآخَر، رفع شِعار تحرير فلسطين والمَوت لإسرائيل مُنذ بداياته، وتَحت هذا الشِعار مارَس أبشَع الجَرائم بحَق مواطنيه اليَمنيين وجيرانه السعوديين، وأغرَق بلاده في حروب وأزمات سياسية واقتصادية، تسَبّبت في دَمار مؤسّساتها، ومَزّقت نسيجها الاجتماعي، وتسَبّبت بتفشي الأوبئة، وأوصَلت أكثر مِن نِصف شَعبها الى حافة المَجاعة. وها هو يَسعى اليوم لتوظيف قضية فلسطين ومُعاناة شعبها للإستمرار في إستِغفال أنصاره، ولصالح أجِندة أسياده في إيران، فقد صَرّح خلال أحداث غزة الأخيرة: "لو كان لدينا حدود مع فلسطين لحَرّرناها مِن زمان". لكنه بدلاً مِن أن يَذهب لتحريرها، يقوم بقرصَنة السفن التجارية، لسَرقتها لأنه لِص، ولتوفير وَرقة لعب جَديدة بيَد مُرشده الاعلى القابع في طهران.

حتى إرهابي ومُرتزق ككارلوس الثعلب مثلاً، قتل المِئات وإختطَف الطائرات وفجّر المؤسّسات بأموال القذافي وصدام وخميني وكاسترو، كان يَقول بأنه يَقوم بكل هذه الأعمال لنُصرة القضية الفلسطينية! ومِثله المِئات مِن العاهات الإجرامية والأحزاب الشمولية والمنظمات الإرهابية، التي إستغلت قضية فلسطين، ووَظفتها للتنفيس عَن عُقدِها والوصول لأهدافها الخبيثة، أبرَزها منظمة بادر ماينهوف اليَسارية الألمانية الإرهابية التي حينما ألقِيَ القبض مؤخراً على عَدد مِن أعضائها الذين كانوا مُختبئين كالفئران منذ ثلاثة عقود، تظاهَر عَشرات السُذّج يَرتَدي بَعضهم الشماغ الفلسطيني مُطالبين بإطلاق سَراحهم، لأنهم يَعتبرونهم مُناضلين لأجل القضية الفلسطينية! كذلك الجيش الأحمَر الياباني وزعيمته الإرهابية فوساكو شيغنوبو، التي أيضاً تظاهر المِئات بعضهم يَرتدي الشماغ مُطالبين بإطلاق سَراحها، لأنهم يَرونها مناضلة لأجل قضية فلسطين! أو وديع حداد وجورج حبش والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو السِمسار جورج غالوي، أو الجيش الآيرلندي السِري، وغيرهم مئات إرتكبوا أبشع الأعمال والموبقات، حَرقوا وقتلوا ومَثّلوا وسَرقوا وأفسدوا بإسم القضية الفلسطينية، لكن أفعالهم هذه لم تحَرِّكها شِبراً، بل ضاعَفَت مُعاناة شَعبها وشَتاتِه. لذا تحضَرني هنا مَقولة الناشِطة الفرنسية رولان التي ذاع صيتها خلال الثورة الفرنسية، ثم سيقت للمقصلة بعد أن لُفِّقَت لها تُهمة الخيانة: "أيتها الحُرية! كم من الجَرائم تُرتكب بإسمِك"، فأنا أقرأها اليوم: "أيتها القضية الفلسطينية! كم مِن الجَرائم تُرتكَب بإسمِك! وكم مِن الأفاقين يُتاجرون بإسمِك!". فالقوميون والبعثيون أقصوا مُعارضيهم لعُقود تحت شعار تحرير فلسطين وبإسم القضية المركزية! والشيوعيون حاربوا الرأسمالية بشماغ القضية الفلسطينية! أما الإسلاميون فإرتدوا جلبابها ليُبَرّروا بها جَرائمهم الظلامية! والتافهون والأفاقون والمُصابون بعُقد النقص، لطالما مَلأوا الدنيا زعيقاً بالقضية الفلسطينية للتنفيس عَن عُقدهم وأمراضهم النفسية.

لقد آن الأوان كي يَصحوا الشعب الفلسطيني، ويَعي أن طريق العُنف الذي قادَته إليه قياداته السياسية خلال عُقود خَلَت، والذي تَخَلّت عنه بَعضها، ولازال البعض الآخر ماضياً فيه، كان سَبباً في ضَياع قضِيّته، وتحَوّلها لشَمّاعة يَستخدمها كل مَن هَب ودَب، مِن المُتردية والنطيحة، ليُصبح ترند، أو يجمع المال، أو يَصِل الى السُلطة، أو يرتكب جريمة. لذا فلسطين تحتاج اليوم الى إنقلاب شَعبي يُحرّرها مِن قياداتها الحالية المُتنافسة على السُلطة، خصوصاً الإسلاموية الإرهابية مِنها، كحَمَاس والجِهاد الإسلامي وأذرعها العسكرية، ويُفرِز قيادات جديدة تفكر بوَعي وعقلانية وبرَاغماتية وجُرأة. فطريق العمل المُسَلّح إنتهى منذ عُقود، ونظرة خاطِفة للخلف سَتُرينا أن الفلسطينيين لم يَجنوا منه، ومِن عقلية ما أخذ بالقوة يُستَرَد بالقوَة منذ أكثر مِن60 سنة، سوى خَسارة المزيد مِن الأراضي والأرواح، مع الأخذ بنظر الإعتبار أنهم لم يَخسَروا بلادهم بالقوة وبجيوش جَرارة إجتاحَتها، بل بدَهاء المُقابل وطول بالِه وصَبره على أهدافه. وقد وَعَت مُنظمة التحرير الفلسطينية التي سَلَكت حيناً طريق العُنف هذه الحقيقة، وقرّرَت أن تسلُك طريق العقل والبراغماتية والمَنطق. إلا أن بعض القوى الإقليمية والدولية، التي لها أجندَتها المَشبوهة، وعلى رأسها إيران، أبَت إلا أن تُعَرقل هذا المَسار، وبَدأت تُزايد في قضية فلسطين حتى على منظمة التحرير، وتُشَكِّك بنَواياها ونَوايا قياداتها التي أفنَت أعمارها في خِدمة القضية. وللأسف لا زال الملايين من المُغَيّبين يُصدقون هذه القوى وذيولها في بلدانهم، بدليل قطعان مؤيدين حزب الله والحشد وحماس والحوثي، والمُتعاطفين معهم ومع جَرائمهم، المُنتشرين ليس فقط مِن المُحيط الى الخليج، بل وعلى طول الأرض وعَرضِها!