عام على اغتيال علي عبدالله صالح

بعد علي عبدالله صالح، لم تعد من حدود لأي شيء في اليمن.

قبل عام، في الرابع من كانون الاوّل – ديسمبر 2017، وضع علي عبدالله صالح بنفسه نهاية لمرحلة من تاريخ اليمن وذلك عندما نفّذ فيه الحوثيون حكما بالاعدام. وضع علي عبدالله صالح بنفسه نهاية لحياته، التي ارتبطت بثلاثة وثلاثين عاما من حكم اليمن، عندما اعتقد ان في استطاعته الوثوق بشخص مثل عبدالملك الحوثي والدخول في حلف، او اقلّه في تفاهمات، معه. ربّما ادرك في قرارة نفسه ان عبدالملك الحوثي سينتقم منه في يوم من الايّام، لكنه لم يدرك، على الأرجح، ان القبائل التي تطوّق صنعاء ستتخلّى عنه بهذه السهولة.

في النهاية، واجه الموت بشجاعة بعدما ادرك ان لا خيار امامه سوى القتال والموت بشرف مع عدد قليل من الرجال بقوا الى جانبه بينهم عارف الزوكا الامين العام المساعد للحزب الذي اسسه في 1982 تحت مسمّى "المؤتمر الشعبي العام".

لعب الرئيس اليمني الراحل دورا أساسيا في نشوء الحركة الحوثية منذ العام 1994 تحت اسم "الشباب المؤمن"، في البداية، وصولا الى مرحلة صار فيها الحوثيون يطلقون على نفسهم تسمية "انصار الله" المستوحاة من "حزب الله" اللبناني المتورط في احداث اليمن اكثر بكثير مما يعتقد ومنذ زمن طويل. كان همّه محصورا في مرحلة معيّنة في إيجاد توازن مع الاخوان المسلمين في اعقاب فقدانه الوزن السياسي والمعنوي للحزب الاشتراكي الذي خسر حرب الانفصال صيف العام 1994.

ما الذي يمكن استنتاجه من ذكرى مرور عام على اغتيال علي عبدالله صالح؟ قبل كلّ شيء، لا بدّ من الاعتراف بان قدرة الرجل على المناورة لم تستطع إنقاذه من المصير المحتم الذي رسمه له الحوثيون ومن يقفون خلفهم. كان يدرك منذ البداية معنى سيطرة "انصار الله" على محافظة عمران تمهيدا لوصولهم الى صنعاء واستكمال وضع اليد عليها في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014.

منذ خروجه من السلطة، أي منذ قبوله التنازل عن موقع رئيس الجمهورية، بموجب المبادرة الخليجية، لم تعد لعلي عبدالله صالح أي سيطرة على القوات المسلّحة... حتّى على قسم منها. صارت القوات المسلّحة، بما في ذلك الوية الحرس الجمهوري، تحت امرة الرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي الذي اصبح لا همّ له سوى كيفية الانتقام من علي عبدالله صالح وكبار مساعديه.

سهل الوضع الذي نتج عن فقدان علي عبدالله السيطرة على القوات المسلّحة في اغتياله في ذلك اليوم المشؤوم وذلك بعد محاولة أخيرة للوقوف في وجه الحوثيين. في الواقع، لم يترك "انصار الله" مناسبة منذ شهر آب – أغسطس 2017 الّا واكدوا فيها انّهم يعتبرون علي عبدالله صالح ورقة انتهت صلاحيتها. بدا ذلك واضحا يوم المهرجان الكبير الذي أقامه "المؤتمر الشعبي العام" في الرابع والعشرين من آب – أغسطس من تلك السنة في الذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس "المؤتمر". يومذاك، تدفق في اتجاه ميدان السبعين في صنعاء عشرات الآلاف من أبناء "قبائل الطوق" للمشاركة في المهرجان بكلّ اسلحتهم.

على الرغم من ضخامة الحشد، لم يسمح الحوثيون لعلي عبدالله صالح بالقاء كلمة طويلة والتعبير عما كان يدور في خلجه. هددوه بالقتل في حال إصراره على ذلك. كانت النتيجة، اثر وساطات خارجية بين الرئيس الراحل وعبدالملك الحوثي، ان سُمح لعلي عبدالله صالح بالقاء كلمة قصيرة اقتصر فيها الانتقاد للحوثيين على تدخلهم من اجل تغيير المناهج والكتب المدرسية. بعد ذلك، انصرف علي عبدالله صالح الى بيت آمن يقيم فيه فيما انصرف رجال القبائل الى قراهم خارج صنعاء. كون هؤلاء لم يبيتوا في صنعاء شكل إشارة واضحة الى انهم لن يقفوا معه. فهم ذلك، على الأرجح، لكنه رفض قبول الحقيقة.

لم تكن تلك الإشارة الاولى الى ان الحوثيين اتخذوا قرارا بفضّ الشراكة معه تمهيدا للتخلّص منه. من يعرف علي عبدالله صالح يعرف انّه لم يتقبل فكرة انّه فقد كلّ أوراقه. كان مفترضا به ان يعي ذلك، خصوصا انّه كان اكثر يمني يعرف اليمن واليمنيين ويعرف خصوصا ان الحوثيين لن يغفروا له خوض ست حروب معهم منذ العام 2004 حتّى العام 2011. كان يظن دائما ان هؤلاء سيتذكرون في مرحلة ما انّه كان وراء وجودهم في البداية كما كان وراء رفض اللجوء الى الحسم معهم، حتّى عندما كان قادرا على ذلك. هذا على الاقلّ ما يرويه قريبون من الرئيس الراحل اكدوا انهم كانوا، في احد الايّام، على قاب قوس وادنى من الانتهاء كلّيا من الظاهرة الحوثية.

يبقى ان اليمن الذي عرفناه مع علي عبدالله صالح رحل معه. رحل هذا اليمن قبل رحيل علي عبدالله صالح الذي حقّق الوحدة في العام 1990 ووضع الأسس لنظام سياسي لم يعرف كيف يحافظ عليه لاسباب كثيرة. من بين هذه الأسباب انّه لم يستطع التخلي عن السلطة عندما كان عليه ان يفعل ذلك في العام 2006 عندما قرّر إعادة ترشيح نفسه للرئاسة متراجعا عن بيان كان أصدره او خطاب القاه اكد فيه انّه قرّر التقاعد.

لا شكّ انّه كانت للوحدة، التي ما كان يمكن ان تتحقّق لولا علي عبدالله صالح، حسناتها كما كانت لها سيئات مثل هيمنة الشمال على الجنوب، خصوصا بعد حرب 1994. بين الحسنات انهّا سمحت لليمن بترسيم حدوده البحرية والبرية مع سلطنة عُمان ثمّ مع المملكة العربية السعودية. لولا الوحدة، لكان الشمال تردد في ترسيم حدوده بسبب مزايدات الجنوب. والعكس صحيح. لولا الوحدة لما كانت تعددية سياسية لا في الشمال ولا في الجنوب.

مع غياب علي عبدالله صالح، وحتّى قبل ذلك، غابت الوحدة. بل غاب اليمن. اذا اخذنا في الاعتبار ما شهده اليمن بين وصول علي عبدالله صالح الى السلطة في 1978 ومغادرته دار الرئاسة في شباط - فبراير 2012 نكتشف انّه كان في الإمكان البناء على ما تحقّق وتطويره، ولكن على يد رجال آخرين. ولكن من اين الاتيان في هذا العالم العربي برجال يعرفون ان هناك حاجة الى الراحة وان ثمّة حياة اخرى بعد السلطة وان في استطاعة الانسان التمتع بما في هذا العالم من أشياء جميلة، خصوصا عندما يكون لديه ما يكفي من الثروة؟

اذا كان من كلمة تختزل الوضع الراهن لليمن، فهذه الكلمة هي المجهول. مع علي عبدالله صالح، وكلّ الأخطاء التي ارتكبها، كان اليمني يعرف اين يقف وما الذي ينتظره. كان يعرف حتّى ان الفساد يظلّ محكوما بمعادلات معيّنة. بعد علي عبدالله صالح، لم تعد من حدود لاي شيء. لا حدود حتّى للمدى الذي يمكن ان يصل اليه الانهيار في بلد يمتلك ثروة بشرية كبيرة، لكنه فشل في بناء نظام تعليمي يجعل الاستفادة من هذه الثروة امرا ممكنا. هذه النقطة هي الفشل الأبرز لعلي عبدالله صالح، وهو فشل كان في الإمكان معالجته في مرحلة معيّنة يبدو ان اوانها قد فات الآن.