عبدالعزيز المقالح وفتنة الإسكندرية

الشاعر اليمني زار المدينة المصرية المطلة على البحر لأول مرة عام 1963 في فصل الشتاء، وشتاها له مذاق شعري خاص، وقد لاحظ أنها كانت نظيفة ومغسولة السماء والأرض. وقطعان متناثرة من السحب البيضاء تسبح عند خط الأفق حيث يتعانق البحر والفضاء، بينما أسراب من الضباب الأخضر الخفيف تعانق سطوح المنازل العالية.

التقيتُ الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح (1937 – 2022) لأول مرة في شقته بحي الدقي بالجيزة في منتصف السبعينيات، في زيارة أدبية صحبني فيها الشاعر فوزي خضر والشاعر د.حسن طلب. كان وقتها يعد رسالة الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة عين شمس عام 1977، بعد أن حصل على الماجستير من الجامعة نفسها عام 1973 وكان يدرس على يد د. عزالدين إسماعيل، ود. شكري عياد وغيرهما.

وكان وقتها ينشر شعره في الكثير من المجلات المصرية التي كانت تصدر في ذلك الوقت. ومنها الكاتب وروزاليوسف.

ومن هنا عرفناه شاعرا يمنيا مهما، فكانت شقته مقصد الأدباء والنقاد، من القاهرة وخارجها.

لذا عندما كنت أزور مدينة القاهرة، أضع في مخططي أن أزوره وأتعرف إليه، إلى أن كان هذا اللقاء الذي لم أنسه أبدا. في هذا اللقاء قرأ فوزي خضر إحدى قصائده، وقرأت أيضا إحدى قصائدي، فطلب المقالح قصيدة فوزي خضر لنشرها في مجلة "الكلمة" اليمنية – على ما أتذكر – ولم يطلب قصيدتي، فقلت في نفسي: عادي ربما لم تعجبه قصيدتي، على الرغم من أنه قال في معرض تعليقه النقدي عنها رأيا لا ينكرها. إلا أنني أدركت بعد ذلك أنه ورد في قصيدة فوزي خضر مقطعا عن شهر سبتمبر/ايلول، وربطتُ هذا المقطع بتاريخ الثورة اليمنية التي قامت في 26 من الشهر ذاته عام 1962 ويحتفلون في اليمن بهذه الثورة كل عام، وقد أذاع المقالح بيان قيام الثورة ضد النظام الملكي من إذاعة صنعاء عام 1962، وهو ما يذكرنا بالبيان الذي أذاعه محمد أنور السادات قبل ذلك بعشر سنوات عندما قامت ثورة يوليو 1952 ضد النظام الملكي في مصر.

غير أنني أحببت الشاعر عبدالعزيز المقالح أكثر عندما قرأت له قصيدة عن الإسكندرية التي زارها لأول مرة عام 1963 في فصل الشتاء، وشتاء الإسكندرية له مذاق شعري خاص، وقد لاحظ أنها كانت نظيفة ومغسولة السماء والأرض. وقطعان متناثرة من السحب البيضاء تسبح عند خط الأفق حيث يتعانق البحر والفضاء، بينما أسراب من الضباب الأخضر الخفيف تعانق سطوح المنازل العالية. كان ذلك في يناير 1963، ثم أعاد الشاعر صياغة القصيدة وحذف منها وأضاف إليها عام 1968. ويبدو أنه في الإسكندرية شعر بالانطلاق والتحليق والهروب من شبح هزيمة 1967 فهو يقول:

وفي الشاطئِ الذهبي خلعنا العيون القديمة

خلعنا مواجعنا والهوان

نسينا جراح الزمان

نسينا الزمان

نسينا المكان

نسينا انتصاراتِنا، ونسينا الهزيمة

وفي هذه القصيدة تتجلى ثقافة الشاعر واطلاعه الواسع على الأساطير القديمة، وخاصة الأساطير اليونانية، ويبدو أنه كان ينظر للإسكندرية بعيون "كفافيس"، وبعيون الفن وتجلياته، فالإسكندرية تدندن أجراسُها بعد رعب الضياعْ، كلوحاتِ "جوجانَ" مرسومةٍ في شراعْ.

ولم ينس أن فيروز غنت للإسكندرية عام 1959 فكتب يقول في القصيدة. كان "شط الهوى" لفيروزَ يغسل شطآنَها ويلوِّن أحجارَها، ويضيء الطريق.

لقد فتنت الإسكندرية الشاعر عبدالعزيز المقالح بجمالها وسحرها فقال: وأقدام "فينوس" عالقةٌ فوق صدر الرمال، و"باخوس" يرقصُ من حولها رقصاتِ الغجر، ويشربُ نخب الجمال.

وعلى الرغم من أن اليمن تطل على بحرين هما البحر الأحمر وبحر العرب، فإن المقالح رأى بحرا آخر في الإسكندرية، بل أنه بحث عن سيف بن ذي يزن في رمال الإسكندرية، علَّه يلتقي هذا الفارس المغوار أحد ملوك العرب قبل الإسلام، وقد انتقل إلى الإسكندرية، ليعيد المجد للعرب بعد 1967 ويهزم الأعداء مثلما هزم الأحباش وطردهم من الأراضي اليمنية.

وفي نهاية القصيدة يقول الشاعر عبدالعزيز المقالح:

سأهبط للبحر

أغسل روحي بأمواجه

في مياه الصفاء

فإني فقدتُ جمالَ الرشادِ بعالمِكم

وفقدتُ نهارَ الوفاء.

إنه يرى في بحر الإسكندرية صفاء ووفاء وطهرا وجمالا لا حدود له، فالشاعر الكبير يرى دائما ما لا تراه عيون الآخرين.

والآن إلى نص القصيدة التي جاءت بعنوان "الإسكندرية":

ورفتْ على شاطئ الغيم،

لاحتْ لنا من بعيد

على صفحة الأفقِ الذهبيِّ الشعاعْ

كحوريةٍ تستحمُّ في البحر

أغنيةٍ في الفضاءِ المديد

كـ "يوتوبيا" في خيالِ العبيد

كقافلة في الصحارى

تدندنُ أجراسَها بعد رعب الضياعْ

كلوحاتِ "جوجانَ" مرسومةٍ في شراع

وحين احتوتنا بأحضانها

كان "شطُّ الهوى"

لفيروزَ يغسلُ شطآنَها

ويلوِّن أحجارَها، ويضيء الطريق

ويزرعُ خلف النوافذ،

خلف العيون الشروق

وعطرُ الضحى يغسلُ الأرضَ

يمسحُ وجهَ المدينةِ بالنور

يفرشُ جدرانَها بالبريق

وعاشقُها الأولُ البحرُ كان يغني،

ويلهو

فترقص كلُّ أوراقِ الشجر

وترحلُ في الشمس "سوناتةٌ" من خيوط المطر

وأقدام "فينوس" عالقةٌ فوق صدر الرمال

و"باخوس" يرقصُ من حولها رقصاتِ الغجر

ويشربُ نخب الجمال

قذفنا إلى الموج حزنَ السنين

وفي الشاطئِ الذهبيِّ خلعنا العيون القديمة

خلعنا مواجعَنا والهوان

نسينا جراحَ الزمان

نسينا الزمان

نسينا المكان

نسينا انتصاراتِنا، ونسينا الهزيمة

***

رفاقي ..

سألتكمُ اللهَ إن سألَ الحزنُ عني

وإن سألتْ عن مكاني عيون الشجر

فلا تخبروه ..

ولا تخبروها ..

وقولوا: مضى

ربما خلف حلمِ الزمن

فإني سأسلمُ للموجِ نفسي

سأرحلُ لو مرة في النعاس

وفي الرملِ أبحثُ عن "ذي يزن".

***

وحين يجئُ الغروب

وترحل في سفنِ الليلِ شمسُ النهار

ومن أفقنا تتدلى حبالُ المساء

سأهبط للبحر

أغسلُ روحي بأمواجه

في مياهِ الصفاء

فإني فقدتُ جمالَ الرشادِ بعالمِكم

وفقدتُ نهارَ الوفاء.