عبير أحمد في تعرية شيفرة المقدس بتراكماتها التاريخية

عبير أحمد تتقن في تجربتها التشكيلية الجريئة البحث في الجسد العاري بواسطة لغة الآلهة والصمت والشاعرية والحلم وتمارس دورها في الدفاع عن المرأة ضد الإضطهاد والتعذيب والقهر.
لوحات عبير حالة من العشق المتبادل بعناصرها الفنية والإنسانية

أذهلتني جرأتها، نعم أذهلتني جرأتها التي تلخص مقولتها اللامحدودة، مقولة عشقها للجمال المبعثر في الجسد العاري، والمغتسل بالضوء، والمشتعل بذاكرة حيّة ودافئة تنبض بخصوبة مسالمة، فالمشاعر والأحاسيس هي التي تُمارس في إمتدادات عملها جميعاً.
 فهي تكاد لا تترك بقعة في لوحتها دون حشدها بسيل من موسيقاها الصامتة والمشبعة بتساؤلاتها اللونية والحسية. فأحمد تكثف مقولتها تقرّباً من آفاق جديدة تلك الآفاق التي تحمل طقوساً جديدة تأخذها إلى عوالم كان لها الجهد كله في خلقها، عوالم تهرب من الأسماء إلا من إسمها، عوالم ترتبط بجذور دخولها في مساحات الفن والحياة، فتمضي بمخزونها نحو تساؤلات مفتوحة على الجهات كلها، فتحاصر قلقها وتزيد الخناق على نبضه حتى تتسارع حركة فرشاتها لتدس ملامحها في لوحتها إلى حد الإمتلاء.
 وهذا يوفر لها مناخاً ملهماً فيه تتلمس كل الإحتمالات المتدفقة صمتاً، أو المتهافتة على وداعة روح في عمق هدوئه، أو المسافر في الجسد المتعب برغائبه حتى يعتنق.
 فهي تؤكد في معظم أعمالها على المزواجة بين خطوط الجسد كسلم موسيقي لهذا الجسد وبين إشتقاقاته والقوة الكامنة فيه والتي تكون على أهبة التفجير، فالبؤر هنا مولعة جداً سواء أكانت بالحركات القادرة على التعبير وبالسفر الطويل فيها، أو بالتأمل في الشعاب المقدسة وما يحوم بين همساتها من حمامات لا يغيب البياض فيها، ومن فراشات تصنع الإبتسامات الصغيرة أينما حلقت وأينما حطت، أو بالإشتعال الذي سيوقد فيها حتى يأتي على الحصاد كله.
 وإن كانت أحمد قادرة على خلق اللحظات التي ستذهب بها في المتاهات المنيرة، اللحظات التي ستحتويها بكل دموعها وآهاتها وقهرها، اللحظات التي ستتداخل كثيراً فيما بينها، بين قلقها وتوترها، وبين تداعياتها التي تقول بأن الحياة ليست بعيدة، وبأنها ليست في إتجاه واحد، بل ممزقة وعلى نحو شديد في الجهات كلها . 
عبير أحمد ترسم سطوحها اللونية وكأنها تحرق ذلك الجسد العاشق بإرادتها وإن كانت قادرة على تحويل المسارات بمناخاتها المختلفة وتحويرها إلى تصورات خاصة ترجع بالنتيجة إلى تقاربها الزماني/المكاني لصياغات وحدها تتقن إختزالها إلى مؤشرات نوعية ترتبط إلى حد كبير بذاكرتها وما تسكن فيها.

 وحدها تتقن البحث في الجسد العاري بلغة الآلهة، لغة الصمت الصريح، القريبة من الشاعرية والحلم، والتي تفضي بظلالها على صميم حقولها التي تملأ فضاءاتها بشوقها المغامر، البعيدة عن التراكمات التي تحرض على الموت وتكديس جدائله.
 فأحمد تعانق السفوح بفراشات روحها وبفراشي ألوانها حتى تمنح الجسد سرها اللانهائي حينها يستيقظ المخزون النائم فيه، تستيقظ الموسيقى بغزارة الضوء في صيف صحراوي، فهي تتناول الجسد من رائحته بطعم العشق حيناً الأقرب لطعم الخبز المحمص (المُقَمَّر) ، وبطعم الصوان حيناً آخر، وبخلق نوعاً من التوازن بل التزاوج بينهما تضفي لعملها حساسية مرهفة كانت نائمة في محطاتها الكثيرة العذبة، كشكل من أشكال الإنتماء للجسد، للذات، للمكان ولذاكرتهم الجديرة بحمل التفاصيل وسردها عبر مؤثرات مرئيّة بصرية.
 فهي لا تزال ترافق المنجز بمجمل مفرداتها، واللوحة لا تنتهي عندها بل هي في حالة من الكينونة المستديمة، في حالة من العشق المتبادل بعناصرها الفنية والإنسانية والتي تكثف ما تقدمه بجدية وصدق، وتجمع طوفاناً من المسافات المتعبة في بحيرة المرأة.
 وتلخص ذلك الفيضان المخيف إلى حد ما برسم عوالمها التي توفر لها كل التأمل، وكل الحرية، وكل الفعل لتبقى لمساتها العفوية والتلقائية في تطلعاتها الحداثية خارج القيود الفنية منها والإجتماعية، خارج الخطوات المسبقة الصنع، خارج الإيقاعات المسبقة الرسم. فهي مليئة بالضوء الذي به ستستعيد كل ما سلب من المرأة، مشاعرها، حريتها، كيانها، إنسانيتها، فبنقائها الفطري ستستعيد إحساسها باللون وتدخلاته الشاقة، و بالحب ومزاميره الصامتة، والجمال كجدية الحياة وضرورتها.
فالثيمة التي تعمل عليها عبير أحمد أقصد الجسد العاري والتي قالت مجاهرة بأنها لا تجد أجمل منه لترسمه، هي بذلك تمارس دورها في الدفاع عن المرأة، عبر تسليط الضوء على كل مشكلة تلاحقها كأنثى أو كحالة إنسانية من الإضطهاد والتعذيب والقهر - حسب قولها.
بل تصرح أكثر من ذلك حين تقول : "كل لوحاتي تحمل قصص نساء وتمجد الأنثى" .
 ولهذا تحول الجسد العاري بين فرشاتها إلى أيقونة تتحدث عن جمال الإنسان وحدائقه، عن خصائصه المتدفقة وتحرره، فهي لا تستطيع أن تلغي تفصيل التفاصيل للجسد العاري كمحور أساسي لتجربتها التشكيلية.
 كما لا تستطيع الاستغناء عن ريحة هذا الجسد كثروة ربانية تنثرها على فسحات أعمالها دون أن تترك زاوية صغيرة دونها، بل تسرع في نبضاته.

تحول الجسد العاري إلى أيقونة تتحدث عن جمال الإنسان
تحول الجسد العاري إلى أيقونة تتحدث عن جمال الإنسان

وإذا كان الإغريق يرسمون آلهتهم كمخلوقات سماوية فالمؤشر هنا يقول بأن العري هي من مواصفات الآلهة وما يحيط بها من كائنات سماوية، فالمرأة عند أحمد كائن سماوي وتنتمي لنسل الآلهة، فإذا كانت فينوس رمزاً للجمال وحولت الأسطورة ذاتها إلى ذلك الرمز، لماذا لا يكون من حق عبير أحمد أن تكون لها فينوسها وأسطورتها.
 وبالتالي فمن حقها أن تتباهى بنضجها وتداعيات أشكالها، بحريتها وما تحتفظ به من أدوات بها تتعامل مع ما يحرض على إخراج الجمال من ذلك الجسد العاري، الثروة الأنقى والأغلى على إمتداد الخليقة .
عبير أحمد من رائدة طليعية على مستوى سورية بالرسم والخط العربي إلى التحليق في سموات رسمتها بنفسها، سموات لا تابلوات مقدسة فيها، كل الأمور مطواعة بين أصابعها، كل الأشياء قابلة للنطق بما لم تجهر به سابقاً، وتبقى حالة الحس هي الأكثر حيوية في ألوانها وروحها .
هي ليست جريئة في أعمالها فقط حين إختارت أن تكسر إحدى التابوات المقدسة (الجسد) في شرقنا الحزين، هذا الكسر الذي يعتبر تعديّاً على الوعي غير المستيقظ، بل جريئة في تفاعلاتها الإنسانية، وفي تعرية شيفرة المقدس بتراكماتها التاريخية، الشيفرة التي لا يمكن أن تكون إلا وليدة الواقع.