عشتار جميل حمودي تحكي رحلة الخمسين عاما من التشكيل

الفنانة تعد من أبرز التشكيليات العراقيات وكانت أول لوحة رسمتها في عمر الـ13 قبل ان تنجز اول مجموعاتها ومعارضها في عمر الـ17.
والدي كان أستاذي وملهمي وأكاديميتي الخاصة وأشعر وأنا تكملة وامتداد له
تميزت بأول معارضي بألواني المائية وبمواضيع رمزية تتخللها فضاءات ومساحات مزخرفة
التراث العربي والعراقي والمرأة والأساطير والنخلة مواضيع أثرت على فني
لا أحب المواضيع الكئيبة وأشيع التفاؤل في لوحاتي دائماً

تعد الفنانة عشتار جميل حمودي من أبرز الفنانات التشكيليات العراقيات، وتواصلت في عطاءاتها وتجاربها الابداعية طوال خمسين عاماً، ولدت في مدينة  باريس عام 1952 وأكملت دراستها فيها، ودرست الفن على يدي والدها الفنان الرائد الراحل جميل حمودي، وبدأت موهبتها تتضح حين بدأت ترسم وهي لما تزل في عمر ثلاث سنوات، فانتبه والدها الى موهبتها واشترى لها ألواناً مائية وخشبية ليشجعها على الاستمرار، وتعودت على مسك الريشة، لتترعرع في أحضان الفن الدافق بالحيوية والمكتنز بالمعاني  الكبيرة، محلقة بألوانها التي ترى فيها تحقيقاً لطموح وآمال كبيرة، وكانت أول لوحة رسمتها  كان عمرها 13 سنة وكانت باكورة أعمالها وهي لوحة عن التراث العراقي، وبعد أن أصبح عمرها 17 عاماً أنجزت أول مجموعة لها من الرسوم، وعندما رآها والدها فرح كثيراً وحثها على إقامة أول معرض لها عام 1970 في متحف الفن الحديث بقاعة جواد سليم وضم 90 عملاً، وتوالت معارضها التي بلغت نحو ثلاثين معرضاً شخصياً اضافة الى معارض مشتركة داخل وخارج العراق شملت عواصم عربية وأجنبية، وعضو في نقابة الفنانين العراقيين وجمعية التشكيليين العراقيين، ومنظمة (aiap) (مؤسسة عالمية للفنون التشكيلية) اليونسكو – باريس، وعملت مديرة لقاعة إينانا لمدة خمس سنوات ونظمت فيها ندوات ثقافية، ومعارض تشكيلية، وتكتب عن الفن العراقي في مجلة بغداد التي تصدر عن دار المأمون باللغة الفرنسية، وترجمت كتاب الفن التشكيلي العراقي المعاصر للناقد التشكيلي الراحل عادل كامل عام 2003، وحصلت على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية عن مشاركاتها الابداعية المتنوعة، وكانت آخر مشاركاتها في معرض (هن رمز الربيع والجمال) الذي أقامته جمعية كهرمانة للفنون في المعهد الفرنسي في بغداد.. مع التشكيلية عشتار جميل حمودي كانت لنا هذه الجولة من الحوار:

- مشاريع كل فنان تمر بمحطات مختلفة إلى أن تكتسب ملامحها الواضحة هل يمكن معرفة ما تميزت به بداياتك مع الفن التشكيلي؟ وما مدى تأثرك  بتجربة وابداعات والدك الفنان الكبير جميل حمودي؟

- لا أتذكر نفسي إلا وأنا أرسم ربما كانت بداياتي منذ سن الثالثة، تشكلت ملامح تجربتي سريعاً وفي وقت مبكر لأني بدأت بأسلوب ومواضيع خاصة بي. وقد شجعني والدي بعد أن لمس عندي قابلية للرسم وتمتعي بأفكار جديدة تفوق عمري. تميزت بأول معارضي بألواني المائية وبمواضيع رمزية تتخللها فضاءات ومساحات مزخرفة ترمز إلى الطبيعة، ثم تطور أسلوبي وصار أكثر حداثة وغادرت الزخارف. بدأت برسم المواضيع المعاصرة وكان الموضوع الرئيس هو المرأة، ثم أدخلت النخلة في رسوماتي لتكون رمزاً للعراق، مستخدمة الزيت والسكين الذي أفضله على الفرشاة.

كنت أنظر إلى الناس والشارع والمجتمع بتأمل وأرسم ما أحب أنْ أراه، ولم أرسم في لوحاتي ما يخدش الذائقة الإنسانية من صور ومناظر في الشارع، ولا حتى الأحداث السيئة التي مرت على العراق..

وعند عودتي إلى العراق، بدأت برسم المواضيع والحياة العراقية بكل تفاصيلها التي أبهرتني لكوني جئت من بلد مختلف كل الاختلاف عن هذه الأجواء وأخذ والدي الفنان الراحل جميل حمودي يشجعني وينظم لي معارضي فكان أبي وأستاذي وملهمي، بل لا أبالغ إنْ قلت: إنه أكاديميتي الخاصة، لذا أشعر بأني تكملة وامتداد له ولهذا شجعني ونظم لي معرضي الأول في متحف الفن الحديث في بغداد في قاعة جواد سليم.

- التكوين الأكاديمي يساعد الفنان كثيراً لصقل موهبته وخاصة من الناحية التقنية ماذا أضافت لك الدراسة الأكاديمية ؟

- بالتأكيد الأساس الاكاديمي ضرورة لأي فنان فلابد أن يدرس تقنيات الرسم وخلط الالوان ويتقن رسم أجزاء جسم الإنسان لكي يطور أدواته على أسس راسخة، ولهذا لا بد أن يكون لدى الفنان ثقافة فنية بالأساليب الفنية وأهم وأبرز الفنانين.

 - وهل أكسبك ذلك قدراً مبكراً من الحرية في رؤاك الفنية، وفي حرصك على الاختلاف والإضافة في خطوطك وألوانك وتكويناتك ومعالجاتك لتجليات الأفكار والرؤى؟

- ليست قضية حرية وإنما تمثل الدراسة بالنسبة لي الأساس لتكوين اللوحة لكي أصل إلى التعبير الذي اطمح إليه، فقد علمني والدي فن النحت وساهمت الكورسات التي أخذتها في المتحف العراقي وفي فرنسا وفي اكاديمية (جوليان) عن تقنيات الرسم الأكاديمي في صقل أدواتي وتطور عملي، وألجأ دوماً الى التجريد الرمزي، خذ مثلاً إحدى لوحاتي تمثل نخلة عليها شمس ولونها برتقالي وفي الحقيقة لا يوجد لون برتقالي ولكن عندما اقول أنا برتقالي فهذا يعني الأمل والدفء، فيما النخلة ترمز الى العراق بالنسبة لي.

- المتابع لمنجزك الفني يلاحظ وجود خطوط مشتركة في تكوين لوحاتك ما التحديات التي تواجه الفنان المعاصر لبناء هويته الإبداعية؟

- لابد للفنان أن يختار مواضيع تهمه يكون حساساً تجاهها، فالتراث العربي والعراقي والمرأة والأساطير والنخلة مواضيع أثرت على فني ومع الزمن تتطور في كل فترة لتبدأ مرحلة جديدة وشكلاً جديداً.

- هل من الضروري بالنسبة للفنان تشكيل معجمه اللوني أم أن ذلك لا يقع ضمن آلية التيارات الفنية الحديثة؟

- يختار الرسام ألوانه حسب الموضوع وحسب أحاسيسه الداخلية ومزاجه، فاللون الأزرق لا يبدو ذاته لو كان من يرسمه في حالة حزن أو فرح. كل الألوان قريبة مني ومن لوحاتي ومن الصعب التركيز على لون دون غيره، فهناك فترات يكون فيها لديّ ميلان الى لون محدد، فقد أميل الى البرتقالي أو الشذري أو الأخضر.

- إلى أي مدى يعد وجود الخطاب النقدي عاملاً للتجديد في الاتجاهات الإبداعية؟

- للنقد دور بالتأثير على الفن والابداع فهو قد يغير أحياناً مسار الفنان أو ينبهه إلى تجنب بعض الأخطاء وخاصة في بداية حياته الفنية إلى أن يتشكل أسلوبه واتجاهاته الخاصة، فلا يحتاج أن يعرف أين موقعه.

- شهد العراق تحولات مفصلية خلال العقود الثلاثة الأخيرة هل يمكن تحديد تمظهرات ذلك في الفن؟

- من البديهي أن يتأثر الفن بالأحداث التي يمر بها البلد فالفنان يتمتع بحساسية عالية وهو يستمد مواضيعه من الحياة اليومية. كان الفن العراقي أفضل بكثير قبل العقود الأخيرة، فقد تأثر بسفر الكثير من الفنانين والمشاكل الاقتصادية والثقافية والغلاء وقلة القاعات.

- تعج وسائل التواصل الإجتماعي والشاشات بالصور والمحتويات المتنوعة كيف أثر ذلك على مستويات التلقي للأعمال الفنية؟

- لوسائل التواصل الاجتماعي تأثيراً ايجابياً وسلبياً في الوقت ذاته، فقد صار بإمكان المتابع  مشاهدة الأعمال الفنية ومعرفة الاصدارات الجديدة للكتب الفنية والثقافية في كل أنحاء العالم وشرائها من بيته، أما الناحية السلبية لهذه الوسائل فقد استغلها دعاة الفن لتقليد الأفكار والمواضيع أو أخذ أجزاء من أعمال الفنانين الآخرين ونسبها لأنفسهم، للأسف ظهر صنف من المقلدين لا يمكن السيطرة عليه وهو الذي نشر ثقافة تخريب الذوق.

- ماجديدك على صعيد المعارض سواءً الشخصية أم العامة؟

- لدي مساهمات كثيرة في معارض مشتركة منها: في وزارة الثقافة، قاعة أكد، جمعية الفنانين التشكيليين، قاعة الغاليري، وإن شاء الله أهيئ  معرضاً شخصياً بمواضيع جديدة في السنة القادمة.

- بعد انتشار وباء كورونا بدأ الإهتمام من جديد بأدب الأوبئة وتمت استعادة الأعمال السينمائية التي تناولت إحتمال وقوع الكارثة كيف انعكست الحالة في الفن التشكيلي؟

- في بداية انتشار الوباء أصيب الجميع بما فيهم الفنانين بانهيار نفسي وانتكاسة، ولكن ما لبثوا أن استغلوا الوقت للعمل وانتجوا نتاجاً كثيفاً لم يتوقف لحد الآن، وبالنسبة لي لا أحب المواضيع الكئيبة، أريد أن أشيع التفاؤل في لوحاتي دائماً. 

- هل تتفقين مع الرأي الذي يقول أن الفن التشكيلي يخلق التوازن بين الحقيقة الحسية والخيال وبين الحلم والواقع؟

- بالتأكيد يعطي الفن جمالية للحياة ويخلق التوازن.

- تكتسب المرأة حضوراً لافتاً في أعمالك هل أردت إضفاء بعد رمزي أم أنه انحياز للمرأة ودورها والتحديات التي تواجهها؟

- أجسد المرأة الشرقية بالذات في لوحاتي بكل القيود التي تعيشها وكذلك رموزها فهي رمز الأمومة والحنان وأساس الحياة والعطاء والتضحية والإحساس الذي ينبع من الروح، ولهذا ركزت في رسوماتي على المرأة العراقية بكل حالاتها، وفي تماه واضح مررت أيضاً بمرحلة التركيز على النخلة كونها ترمز إلى العراق أولاً والعطاء الدائم ثانياً.

- هل تعتقدين أنه من الضروري للفنان متابعة أعمال غيره؟ وما الأعمال الفنية التي ألهمتك فكرة عبرت عنها بطريقتك؟

- كثير من الأعمال تحفز فينا الأفكار وهذا أمر مختلف عن نقل المواضيع، فيمكن لرؤية لوحة فيها قطار ملون يثير الخيال ويمنح رؤية جديدة لا علاقة لها بموضوع اللوحة، وقد وصلت الآن لمرحلة تحددت فيها خصوصيتي الفنية فلا أتأثر بغيري، أقيم اعمال الاخرين وأعجب بها لا غير.

- وما المصادر الملهمة لعشتار جميل حمودي في اختيارها لمواضيع أعمالها؟

- ليس لدي مصادر معينة، فقراءاتي الغزيرة توسع رؤيتي وتطور مخيلتي، وأستمد مواضيعي من حياتي الخاصة وتجاربي ومن الطبيعة، أما المصادر التي قد الجأ إليها لأجسدها في لوحاتي فهي الاساطير القديمة والشعر، والفنان الحقيقي هو من يوقف اللحظة التي تؤثر فيه وفي لوحته ويخلدها باللون والفرشاة، فتصبح  جزءاً من حياته.. يبقى المهم أنْ تصل اللوحة الفنية الخاصة بعشتار إلى كل الناس..

- وأين تضع عشتار جميل حمودي نفسها ضمن المشهد التشكيلي العراقي والعربي؟

- الحمد لله  كونت تجربة فنية راسخة خلال خمسين عاماً، ووصلت لمرحلة أعد فيها من الاسماء الجيدة في الفن التشكيلي العراقي والعربي، فأنا من جيل فنانات عرفن بالأصالة والعطاء المميز أمثال: سلمى العلاق وشذى الراوي وراجحة القدسي وغيرهن كنا نرسم الأشياء الجميلة لأننا نريد أنْ نعكس الصورة المشرقة عن مجتمعنا، وعندما سألنا القائمون على معرض أقمناه في باريس، لماذا لا ترسمن ما يمر به المجتمع العراقي من دمار وويلات؟ فكانت إجابتنا أن هناك من يرسم هذه الصورة أما نحن فمهمتنا إبراز الجمال وسط القبح. وعني فأنا عندما أرسم أريد أنْ أخرج ما يعتمل في دواخلي وتوثيق اللحظات وما يدور حولها من عوالم، وبالمحصلة أنا أرسم أولاً لنفسي ثم للمتلقي، لكي أحقق لمستي وبصمتي الخاصة بي.

- وهل من مشروعات تشكيلية جديدة لك ؟ متى ؟ وأين؟ وكيف؟

- إن شاء الله أنا أهيء لمعرض جديد بمواضيع جديدة في السنة الجديدة.

- كلمة أخيرة

- لا يستطيع الفنان الحقيقي التوقف عن العمل ابداً، وهذا ليس بدافع الواجب أو المادة وإنما بسبب طبيعته وشغفه بالفن الذي لا يتيح له وقتاً لكي يتقاعد وهو مستمر حتى النهاية.