عصر العبودية التكنولوجية

شركات التكنولوجيا الكبرى لن تكون وحدها القادرة على صناعة المستقبل، ثمة معركة إنسانية تدور أقوى من المعركة السياسية بين الحكومات والشركات التكنولوجية العملاقة.
لا يمكن اختزال التكنولوجيا في جشع شركات وادي السيلكون

استعاد جون هاريس الكاتب في صحيفة الغارديان البريطانية رواية الكاتب الكندي دوغلاس كوبلاند “عبيد مايكروسوفت” التي استوحى فيها أجواء شركة مايكروسوفت إبان مجدها في منتصف تسعينات القرن الماضي عندما رفع بيل غيتس شعار “المعلومات عند أطراف الأصابع” وكأنه يقول إننا وحدنا من سيصنع مستقبل العالم.

كان هاريس يريد القول بعد أكثر من ربع قرن من صدور رواية الكاتب الكندي، إن شركات التكنولوجيا الكبرى لن تكون وحدها القادرة على صناعة المستقبل، ثمة معركة إنسانية تدور وهي أقوى من المعركة السياسية بين الحكومات والشركات التكنولوجية العملاقة.

يقول هاريس “إن الاعتقاد بأن الغد مكان مختلف عن اليوم هو بالتأكيد علامة مميزة فريدة لنوعنا” لكن ذلك لا يعني أن فيسبوك مثلا وحده من يمتلك صناعة المستقبل، فالتكنولوجيا لا يمكن اختزالها في جشع كبريات الشركات في وادي السيلكون.

مثلما أنقذ دوغلاس كوبلاند أبطال روايته من أن يكونوا عبيدا لمايكروسوفت، ثمة مساحات أمل في المجتمعات لإعادة تشكيل الإنسانية بطريقة لا تكون خاضعة حد العبودية للتكنولوجيا، فالإنسان أقرب إلى هواجسه مما تقترحه عليه أبل وفيسبوك وغوغل وأمازون، وهنا يمكن الإتيان بأمثلة محملة بالأمل لمطوري أنظمة وبرامجيات وتطبيقات تساعد الناس في الأماكن المهمشة على تسهيل حياتهم الاجتماعية والصحية بعيدا عن جشع الشركات الكبرى.

فأبطال “عبيد مايكروسوفت” هم أشخاص لطفاء وبسطاء بدأوا تدريجيا يلاحظون أن العمل يستغرق وقتاً أطول ويصبح كل شيء يدور حول الشركة ووجودهم فيها، إنه نوع من الإقطاع الجديد يبدأ من الإفطار مرورا بالولوج إلى مكاتب الشركة ولا ينتهي بالحياة الشخصية، تلك أحدث صور العبودية التي سرعان ما دفعت أحد أبطال الرواية لأن يقرر المغادرة  فورا، يرمي كل شيء ويبدأ عمله الخاص. يحلم بخلق شيء فريد وتغيير حياته للأفضل. هكذا يحذرنا دوغلاس كوبلاند في وقت مبكر قبل أن تسلب مواقع التواصل الاجتماعي وأبل وأمازون حياتنا الخاصة، من غزو الشركات العملاقة لذاكرتنا الخاصة، عندما يصبح الإنسان بذاكرة تكنولوجية يقتل الحلم في داخله، ويصبح الأمل بلا أمل إلا بإيعاز مما تمنحنا إياه تلك الشركات الجشعة.

وتصور صفحات الختام في الرواية بطلة وأسرتها في لحظة تعجب من حقيقة أنها أصبحت “جزءا من امرأة، جزءا من آلة، ينبعث منها ضوء ماكنتوش أزرق”.

نشرت هذه الرواية في عام 1995، عندما عرضت على الكمبيوتر نافذة تتوسع باستمرار على العالم. لم يكن لدى العديد منا أدنى شك في أن القفزة التكنولوجية من القديم إلى الجديد لا تمثل شيئا سوى التقدم. وبحلول بداية هذا العقد، تمت الإشادة بمنصات وسائل الإعلام الاجتماعية كوسيلة للتحرر الفردي والجماعي، ولكن أين ذهب هذا الإيمان في المستقبل؟

على الرغم من اليوتوبيا الرقمية التي وعِدنا بها، فإن شركات التكنولوجيا العمياء والجشعة وغير الخاضعة للمساءلة تهيمن على حياتنا.

تمتلك كل من غوغل وأمازون وأبل وفيسبوك إجابات واضحة على تلك الهيمنة، لكن الفشل السياسي والاقتصادي والشغف الأناني للإنسان، يحولان دون مضاهاة القوة الهائلة لتلك الشركات مع عدم وجود إحساس بالمسؤولية المتكافئة.

يمكن تصوير ذلك بشكل أكثر وضوحا عبر هيمنة فيسبوك على حياتنا الخاصة بوصفه الأكثر مثالية على نبوءة المستقبل المنتظرة، فيما يتصاعد الرعب بشأن تأثيراته الاستقطابية ليس فقط على الخطاب السياسي بل على الاستقرار الاجتماعي الأساسي.

علينا أن نعود إلى حديث لمارك زوكربيرغ عندما تحدث في رؤية طوباوية عن البشرية جمعاء إلى الكاتب ديفيد كيركباتريك عام 2012 وقال “فيسبوك لا يعني لي مجرد شركة، بل بناء شيء يغير الواقع، ويحدث تغييرا فعليا في العالم”.

يختصر جون هاريس ذلك بمجرد أن يكون الإعداد الافتراضي لدينا في فيسبوك هو قبول، فتح، تنزيل. الآن يبدو الأمر وكأن العديد منا يثبّت بشكل متزايد على الخيارات المعاكسة: الحذف، الإقلاع، الإلغاء.

بدت شعارات الشركات الكبرى جوفاء بنظر الكثير من الناس عندنا تزعم أن “المستخدم هو الهدف لجميع القرارات التي نتخذها” “نريد أن نشعر بأنك قريب من الأشخاص الذين لا يمكنك رؤيتهم كل يوم” وهو كلام يخفي الاستحواذ الجشع على المتاجرة بكمية لا حدود لها من البيانات الشخصية.

فيسبوك الآن وفق تعبير الكاتب جون نوتون مؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته حقا عن الإنترنت” أكبر شركة في العالم غارقة في الظلام.

يسرد نوتون في مقال له بصحيفة الغارديان التداعيات المترتبة على الطبيعة الغريبة للتكنولوجيا الرقمية، وأيديولوجيا وادي السيليكون، والسذاجة السياسية المدهشة لمارك زوكربيرغ، ورؤية النفق الأخلاقي لمهندسي البرمجيات، والأهم من ذلك نموذج الأعمال الذي جاء ليكون معروفا باسم “رأسمالية المراقبة”.

كذلك ينتظر بعض المتحمسين بشأن “المدن الذكية” فرصتهم لجمع البيانات ليشهد القرن الحادي والعشرون نهاية مفهوم الخصوصية ويكون عصرا لا مثيل له في المراقبة الدقيقة لكل ما يقوم به الإنسان. لقد حققت شركات التكنولوجيا الكبرى نبوءة جورج أوريل بشكل مثالي، فالأخ الأكبر يدار اليوم من وادي السيليكون وليس من البلدان الشيوعية التي صارت هامشا في متن التاريخ.

لا يزال العديد من كبار رجال التكنولوجيا يحاولون إقناعنا بأنهم هنا لتوحيد الإنسانية، أما تحقيق الربح فلا يشكل غير أثر جانبي، وهي مزاعم تبددها قوة الرقمية الرأسمالية، والحاجة الملحة للحكومات للتغلب عليها.

وهذا ما يؤكده حديث سابق لأندرو بوسورث، أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة فيسبوك الذي اعترف بالحقيقة القبيحة التي تؤمن بها إدارة فيسبوك عبر صلب الناس بشكل عميق كلما تسنى للشركة ربطهم معا، لدرجة أن أي شيء يتيح ربط المزيد من الناس أمر جيد وله ما يبرره بالنسبة لإدارة فيسبوك، بغض النظر عن الحقيقة التي لا تشعرهم بالقلق من النتائج المشكوك فيها.